
صورة لبرواز ، قصة قصيرة ، بقلم : صبحة بغورة
الحياة بالنسبة لها غموضا دائما تتشكل فيها الصور الرمادية الأبدية، يمر عليها الزمن بأوجاع، لأنها هي من وضعها هذا الزمان على هامش الحياة.
لقد أخرجتهم أقدارهم من دوائر الضوء إلى الظلمات، تنتظرإشراقة شمس جديدة قد تصبغ حياتها بألوان أخرى مختلفة وهي في قمة الألم المتوهج في بعد المسافة ، إن ما يحمله صدرها شقاء لا معنى له ، عيناها تخاف الوضوح وتخشى أن تتراقص أمام أسئلة حائرة تجهل جوابها ، تعلمت كيف تنتظر في عالم يختلف، هي معروفة بالرقة والغموض والحلم البعيد ، فلطالما كانت مثل نجمة.
تمنت أن يكون وراء من ارتبطت به أمنية واحدة أن يخاف الله فيها، لكن بعد مرور20 سنة قضتها معه اكتشفت أنه بلا مشاعر ولا أحاسيس، كانت على مشارف الأربعين من عمرها عندما عانت من آلام مرض أصاب قلبها، لم تخبره ، وبعد إنجابها ثلاثة بنات كبرن وصرن فتيات جامعيات أنيقات بقيت أسطوانة أنه يريد أن يكون وسط أخوته البنات ذكرا، هي تعلم أن أخيها الدكتور حذرها من خطورة الإنجاب مرة أخرى ، فكانت والدة زوجها تلح عليه أن يكون له ولد يخلد أسمه ،أشار شقيقها أن عليها أن تصارحه بحقيقة مرضها وخطورة حملها الذي سيعني الانتحار، خديجة تعلم جيدا ما عاد لها من همس النجوم سوى هذا الوميض الذي خفت بريقه على كل شيء ليوحي بانتهاء الأشياء لكن أصلها وتواصلها مع من يستحقون حبها لبناتها أهلها جعلها تسامح الحياة التي أصابت كل سنين عمرها باليأس ثم بالبؤس في نظراتها الشاردة، ماذا عليها أن تنتظر وكل أشرعة أحلامها ممزقة وهي المقهورة والمغدورة في زمن لا معنى له ، لكن هذه المرة خديجة فكّرت جيدا وعزمت ان تنجب رغم المخاطر التي تحيط بحياتها، زوجها وبناتها لا يعلمون بمرضها ، أرادت أن تسكت لسان زوجها الذي هددها بالزواج من أخرى تنجب له الولد مادامت هي قد كبرت وصارت غير قادرة على الإنجاب، وفي تحد خطير حملت خديجة للمرة الرابعة ، مرت الأمور جيدة في البداية، وكان يوم موعد الزيارة الطبيبة لمتابعة الحمل ، ثم كانت المفاجأة ، الجنين ذكر، بلغت فرحة الزوج حدا لا يوصف، أما هي فكتمت فرحتها، لقد جاءتها متأخرة وهي في ظروف صحية حرجة بل مستعصية ، سمعت عبارات اللوم القاسية من شقيقها، إنها تعرض نفسها للخطر الأكيد، إيمانها بلطف الله وقدره كبير، تداخلت خيوط معاناتها حتى عجزت عن التعبير عنها رغم انها تصدح من داخلها ولا أحد يسمع أصداءها، يبقى جرحها ينزف وهي وحيدة وكأن مصيبتها لا تعني من اختارته شريك عمرها، المهم عنده الولد ، يبدو بعد كل هذه السنين أنه لا يستحق مشاعرها الطيبة ، ولكنها تعلم أن المشكلة مزمنة وأنها ستطول ما طالت الأعمار ، وستتفاقم وتدمر بيتها ،لكن إذا أنجبت الولد ستحافظ على استقرار بيتها وتماسك أسرتها خاصة ان لديها بنات في سن الزواج، ألمها يضغط على جرح غائر بين الضلوع حتى ويكاد يفضح ما تخفيه من مرارة و دمار ، مضطرة إلى تحمّل ما لا يطيقه بشر ، فهي لا تريد أن ينتزع منها في لحظة ضعفها اعترافاتها الصادمة أوتسمع إحدى بناتها شكوى نبضاتها المرهقة ، اعتذرت لشقيقها الذي أخذ على عاتقه مهمة متابعة مرضها.
مرّت الأيام والشهور ثقيلة بعدما توقفت عن تناول أدوية القلب لكي لا يتأثر الجنين بالتأثيرات الجانبية، كان هذا التوقف عن الدواء غير المتدرج مجازفة خطيرة ، وإنما رغبتها الجامحة لإسعاد زوجها بعدما ملّ سماع حديث عائلته أن ذريته كلها بنات. كبر الجنين في أحشائها وبدأت تشعر بركلاته الرقيقة تتتابع كأنها نهر عذب جاري وقطرات ندى باردة تتدفق في أعماق جسدها المرهق فتبعث الدفء في روحها بعد سنين طويلة من الانتظار، فجاء كشمس تسطع بالبهجة والفرح في قلب أنهكه تعب الترقب، يحلو لها أن تتلمس بطنها المنتفخ وهي تمني النفس في شهرها الأخير أن تمسح دموعها التي ألفتها عيونها وأحرقت ضلوعها كثيرا بحرارة نار الحزن.
هلّت عليها بناتها تباعا فور عودتهن من الجامعة، أسرعن في القيام بالأعمال المنزلية. خلال جلسة هادئة صارحت بناتها بصوت خافت وكانت مشرقة الوجه أنه إذا أصابها مكروه عليهن الاعتناء بأخيهم والاهتمام به ويكن دائما بجانبه ولا يتركنه وحيدا أمام تقلبات الزمن ، انزعجت أكبرهن من حديث أمها ودعت الله أن يطيل في عمرهاوأن تفرح بمولودها وتراه يكبر أمامها، طمأنتها أمها أنها مجرد وصية وافتراض فقط ، فلا أحد يملك أمرا، أعمارنا بيد الله الخالق ، أمّا وصيتها الثانية فهي أن يضفن صورة أخيهم بجانبهن في الإطار الأرابيسك الجامع لصورهن فلطالما تمنت ذلك طويلا ، أخاف حديث الأم بناتها فهن في مثل هذا السن يحتاجون لدعمها ونصحها أكثر من أي وقت مضى.
ويوم بدأ المخاض يشتد عليها اتصلت بزوجها في عمله تعلمه بقرب مولد طفلهما ، كان شعور غريبا ينتابها وكأنها لم تنجب من قبل، شعور بسعادة غامرة يخالجها بسر متعة هذا الإحساس أهو لأن مخاض الذكور ليس كمخاض الإناث، أم هو من فرط اللهفة وحرارة الشوق إليه ،إن قطرات من الحليب سبقته من صدرها الممتلئ، بدأت تتمني وتتوق إلى اللحظة التي ترضعه فيها حتى تشبعه من حليبها ليكبر سريعا ويكون سندا لشقيقاته الحوريات الجميلات المنشغلات قلقا بتجهيز أمهن للذهاب ، كانت وسطهم سعيدة بهن وكأنها ملكة مدللة في عز شبابها أقبل زوجها والفرحة تقفز من عيونه، كان يهدأ من روعها ويعدها بأن الأمور ستمر بعون الله بسهولة ،قبلت بناتها واحتضنتهن بشدة وقد كانت ما تزال تخفي حقيقة مرضها عنهم ، وجدت بالمستشفى مكانها المعد لها، تسلمت الطبيبة المختصة ملفها الطبي وبادرتها بالسؤال عن ما إذا كانت تعاني من مرض معين، تلعثمت خديجة وهي تحدق في زوجها الذي أخفت عنه مرضها لتؤكد لها أنها ما تزال قادرة على الإنجاب ولكي تصرفه عن فكره الزواج من أجل رغبته في إنجاب الولد ولتثبت له أن البطن التي أنجبت البنت تنجب الولد بإذن الله ، كان قلبها يكاد ينطلق من قفصه، وآلام المخاض تشتد ثم تهدأ فتختلط عليها الصور والذكريات لتعاود الآلام تشدد مرة تلو الأخرى، بدأت صرخاتها تعلو وتشنجاتها لا تتوقف وترهق جسدها غير القادر على تحمل المزيد، تناهى إلى مسامعها همسات بعض الممرضات أنه قد طال الانتظار، خشيت أن يكون ثمة ما يستحضر الخوف على الجنين، تمتمت بكلام غير مفهوم قبل أن تفقد الوعي ، رأت الأشياء حولها يلفها السواد ، حالتها تسوء أكثر ، استغاثت الطبيبة بالأخصائيين لمتابعة حالتها المستعصية حتى تمت عملية الولادة وكان الطفل بصحة جيدة بينما كانت خديجة قد خضعت سريعا لجهاز انعاش القلب لأن قلبها توقف وكانت في غيبوبة ، بهذا أخبرت الممرضة الزوج القلق خارج القاعة، مد يده إلى طفله واحتضنه، أعادت الممرضة عليه السؤال إن كانت زوجته تعاني من أي مرض ، نفى الزوج علمه بأي مرض يكون قد أصابها ولكن الممرضة أكدت له أنه ليس السن عاملا قويا لصعوبة الإنجاب.
طمأن الأب هاتفيا بناته بأن أخوهم بصحة جيدة ولكن أمهم حاليا في غيبوبة ، أسرعت إحدى بناته بالاتصال بخالهم أخبرت بما كان فعاتبهم أشد العتاب أنهم لم يخبروه قبل ذلك ، صارحوه أن والدتهم هي من طلبت منهن ذلك حتى لا يقلق ، نزع مئزره واستقل سيارته مسرعا نحو المستشفى ، دخل غرفة الولادة بعد أن عرّف بنفسه وأخبر الحاضرين أنها تعاني من مرض بالقلب ،وفهم من تعليقاتهم أنها لم تصارحهم بحقيقة حالتها الصحية ، فملفها الطبي خالي من هذا المرض وقد كان بالإمكان إجراء عملية قيصرية لتجنيبها آلام المخاض وعسر الولادة ، وبعد عدة محاولات لإنعاش قلبها توقف النبض وأسلمت الروح إلى رحمة ربها، وتوقفت الأجهزة وخفتت الأضواء وسكن كل شيء ولم يبقى سوى صراخ شقيقها يناديها مرات ومرات أن تفيق لترى ابنها الذي تمنته ، كان الأسى يعتصر قلبه ودموعه تغالب جلده وتقسو على تماسكه، حاول إفراغ غضبه على زوجها وتوجه إليه ساخرا : ” ها قد أنجبت أنت الولد وتركت هي لك الدنيا وما فيها ” وهذا اعتقادا منه بأنه كان يعلم بصعوبة حالتها الصحية ، لم يكن شقيقها يدري أنها أخفت الأمر حتى عن بناتها أيضا، كن يجهلن حقيقة مرضها.
طلب شقيقها من إدارة المستشفى الإسراع في اجراءات الخروج ، كشف وجهها يريد تقبيل جبينها، كانت مأساة الفراق مرسومة على ملامحها ولكنها لا تخفي تقاسيم وجهها الملائكي الجميل، ظلت ممددة وسط بناتها اللائي كانت لهن الأم والأخت الكبيرة والصديقة ، تأملوها وفي عين كل منهن يقفز وعدهن لها أن يبذلن كل ما يمكنهن لرعاية أخيهم ليشب رجلا كما أحبت أن تراه.
تم الدفن وتفرّق المعزين، وبقي الخطب كبيرا، لم تتحمله أصغر بناتها التي تعرضت للإغماء عدة مرات، ظلت جدتهن بجوارهن وتمسكت أن يبقين إلى جانبها، مرت الأيام طويلة، كئيبة، وصارت أجواؤها رمادية أغلق البيت أبوابه على ساكنيه بعدما غادرته روح رحلت عنه وروح مقبلة على الحياة وجدت لملامحها موقعا داخل إطار الأرابيسك المعلق منذ سنين بلا ملامح .