
قمة القاهرة : بين الخطاب العربي والمقاربات الأمريكية – إلى أين تتجه القضية الفلسطينية؟ بقلم المهندس : غسان جابر
في ظل التحولات الإقليمية والتحديات المتسارعة، جاءت القمة العربية الطارئة في القاهرة، التي أطلق عليها اسم “قمة فلسطين”، كإعلان موقف حاسم تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصًا في قطاع غزة الذي عانى من حرب مدمرة استمرت لأكثر من عام. البيان الختامي حمل في طياته رسائل واضحة على مستويات عدة: سياسيًا، إنسانيًا، ودبلوماسيًا، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات عميقة حول مدى استقلالية القرار العربي في ظل النفوذ الأمريكي المتزايد في تحديد مسارات الحلول في المنطقة.
قراءة في أبرز قرارات القمة
- تأكيد الموقف العربي من القضية الفلسطينية
القمة أعادت التشديد على مركزية القضية الفلسطينية، مؤكدة أن “السلام العادل والشامل” لا يمكن أن يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال وتجسيد حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية، مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. هذا الموقف ليس جديدًا، لكنه يأتي في وقت تحاول فيه بعض القوى الدولية فرض حلول تتجاوز الحقوق الفلسطينية الأساسية. - دعم إعادة إعمار غزة والتأكيد على وحدة الأرض الفلسطينية
أحد أبرز مخرجات القمة هو تبني خطة مصرية لإعادة إعمار غزة، بالتنسيق مع دولة فلسطين والدول العربية، إضافة إلى تشكيل لجنة إدارة غزة تحت مظلة الحكومة الفلسطينية، وهو تطور يعكس رغبة عربية في إعادة توحيد المشهد الفلسطيني تحت مظلة السلطة الوطنية. إلا أن هذه الخطوة، رغم رمزيتها، تثير تساؤلات حول آليات التنفيذ ومدى تقبل القوى الفاعلة في القطاع لها، لا سيما مع عدم وضوح مستقبل العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. - التحذير من محاولات التهجير والضم
كان هناك تأكيد واضح على رفض أي مخططات إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين قسرًا أو تغيير التركيبة السكانية، وهو موقف جاء ردًا على محاولات التهجير الممنهجة في الضفة الغربية والاستهداف الإسرائيلي المنظم لسكان قطاع غزة. - التنسيق مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي .
اللافت في البيان هو تأكيده على الاستعداد العربي للانخراط في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، إضافة إلى الترحيب بالدور الذي لعبته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، مما يعكس اعترافًا غير مباشر بالدور الأمريكي في بلورة المرحلة المقبلة.
هل نحن أمام رؤية عربية مستقلة أم تبنٍ للمقاربات الأمريكية؟
لا يمكن تجاهل أن البيان يعكس موقفًا عربيًا متوازنًا في ظاهره، لكنه يثير العديد من التساؤلات عند مقارنته بالمقاربات الأمريكية الأخيرة بشأن غزة. فالإدارة الأمريكية، رغم إظهارها دعمًا لحل الدولتين، لم تتخذ حتى الآن أي إجراءات عملية لإجبار إسرائيل على الالتزام به. كما أن طرح مؤتمر دولي برعاية أمريكية وفرنسية والسعودية يفتح الباب أمام مخاوف من أن يكون هذا المسار امتدادًا لسياسات واشنطن، التي غالبًا ما تحاول احتواء القضية الفلسطينية ضمن إطار تفاوضي طويل الأمد، دون ضمانات فعلية لتنفيذ حلول عادلة.
كلمة السعودية ولبنان: مواقف حازمة أم رسائل سياسية؟
كلمة وزير الخارجية السعودي كانت من أكثر الكلمات الحازمة، حيث شدد على أن المملكة لن تقبل بأي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية، وهو موقف ينسجم مع قيادة الرياض لجهود تنفيذ حل الدولتين ضمن تحالف دولي يضم الاتحاد الأوروبي والنرويج. أما كلمة الرئيس اللبناني جوزيف عون فحملت إدانة واضحة للانتهاكات الإسرائيلية، مع تأكيد على وحدة الموقف العربي، وهو ما يعكس الرغبة في إبقاء الملف الفلسطيني في صدارة الأولويات العربية، رغم الأزمات الداخلية التي تعانيها بعض الدول.
إعلان المصالحة الفتحاوية: خطوة جادة أم مجرد استجابة للضغوط؟
إعلان الرئيس محمود عباس عن مصالحة داخلية بين أجنحة حركة فتح خلال القمة كان تطورًا لافتًا، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات حول مدى استدامة هذا الاتفاق في ظل الصراعات الداخلية بين قيادات الحركة. وإذا كان الهدف من هذه الخطوة هو تعزيز موقف السلطة الفلسطينية في أي ترتيبات قادمة لغزة، فإن نجاحها سيتوقف على القدرة على تحويلها من مجرد إعلان سياسي إلى واقع تنظيمي ملموس.
إسرائيل تهاجم القمة: تصعيد أم دفاع عن مشاريعها؟
كالعادة، رفضت إسرائيل بيان القمة وهاجمته بشدة، معتبرة أنه “متجذر في أفكار قديمة ولا يعالج الواقع الجديد بعد 7 أكتوبر”. هذا الموقف ليس مفاجئًا، لكنه يكشف مجددًا إصرار تل أبيب على فرض رؤيتها الخاصة لحل الأزمة، والتي تقوم على إضعاف أي سلطة فلسطينية موحدة في غزة، ودفع المنطقة نحو سيناريوهات تهجير قسري وإعادة هندسة ديموغرافية، سواء عبر منع الإغاثة أو تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على القطاع.
غزة إلى أين؟ الحضن العربي أم فخ المشاريع الدولية؟
الحديث عن أن غزة أصبحت في “الحضن العربي” بعد هذه القمة قد يكون مبالغًا فيه، فالتحديات لا تزال قائمة، والانقسام الفلسطيني لم ينتهِ بين ليلة وضحاها. لكن المؤكد أن هناك محاولة عربية جدية لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بطريقة تمنع غزة من أن تكون ورقة ضغط بيد أطراف إقليمية ودولية.
في المقابل، هناك من يرى أن القمة، رغم لغتها الداعمة، لا تزال تسير ضمن الإيقاع الأمريكي الذي يحاول فرض تسويات جزئية، تضمن عدم انفجار الوضع مجددًا، دون تقديم ضمانات حقيقية للفلسطينيين.
ختامًا: هل نشهد لحظة تحول؟
قمة القاهرة قدمت إطارًا سياسيًا قويًا في ظاهر الأمر، لكنها في العمق تظل اختبارًا حقيقيًا لما إذا كان الموقف العربي قادرًا على ترجمة قراراته إلى أفعال، أم أنه سيظل في دائرة الخطابات والبيانات. الفلسطينيون الذين صمدوا أمام العدوان الإسرائيلي ينتظرون أفعالًا لا أقوالًا، والاختبار الحقيقي سيكون في مدى قدرة الدول العربية على فرض التزامات عملية على إسرائيل، لا الاكتفاء بمخاطبة المجتمع الدولي.
الأيام القادمة ستكشف إن كان العرب قد بدأوا مرحلة جديدة في التعامل مع القضية الفلسطينية، أم أن “قمة فلسطين” ستتحول إلى مجرد محطة أخرى في مسلسل البيانات التي لا تغير من الواقع شيئًا.
م. غسان جابر (قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)