
“صابرين عامر.. الباحثة التي أشرقت في قاعة المناقشة، والإنسانة التي تركت أثرًا لا يُمحى” ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
يمرُّ في حياتنا أشخاصٌ يتركون أثرًا لا تمحوه الأيام، أثرًا يشبه الضوء الذي يُبدد العتمة، أو كالنقش على الحجر، ثابتٌ مهما مرت السنين. ومن بين هؤلاء، كانت الباحثة المتميزة صابرين عامر، التي لم تكن مجرد طالبة تناقش رسالة الماجستير، بل كانت روحًا نابضة بالإصرار، وشغفًا متجذرًا بالعلم، وصورةً مشرقة للمرأة الفلسطينية التي تصنع من الأمل جسرًا للنجاح.
كان لي شرف أن أكون الممتحن الخارجي لرسالتها، بترشيح كريم من البروفيسور القدير د. خالد دويكات، ومنذ اللحظة الأولى، شعرت أنني أمام شخصية استثنائية، طالبة ليست كغيرها، تحمل في داخلها قصةً لا تشبه القصص العادية، وحلمًا يليق بمن عرفت معنى النضال منذ ولادتها.
يومٌ ليس ككل الأيام
دخلتُ قاعة المناقشة ذلك اليوم وأنا أعلم أنني سأشهد جلسةً علمية، لكنني لم أكن أدرك أنني سأشهد لحظةً إنسانية ستظل محفورةً في ذاكرتي. كانت صابرين واثقة، مُتمكنة، تحدثت بعمق، ناقشت بحرفية، وأجابت بإبداع، وكأنها لم تكن تُدافع فقط عن بحثها، بل عن مسيرةٍ طويلة من الكفاح والمعرفة.
ولكن ما جعل ذلك اليوم مختلفًا حقًا، هو ذلك الحضور الذي لم يكن مجرد جمهورٍ أكاديمي، بل كان خليطًا من المشاعر، مزيجًا من الفخر، والفرح، والدموع، والأمل.
والدها، ذلك الغائب الحاضر، الذي رحل عن الحياة قبل أن تراها عيناه، لكنه كان في القاعة بروحه، في كلماتها، في نظرات والدتها، في تلك الدموع التي لم تستطع الأم الفلسطينية الصابرة أن تخفيها، دموعٌ تحمل سنواتٍ من التضحيات والأمل.
تأخرت صابرين قليلًا في الوصول، لكن لم يكن في القاعة نفاد صبر، بل كان الجميع ينتظرها بمحبة، لأن من يحمل البركة يأتي وإن تأخر. وعندما حضرت، شعرت بأن الجميع يُدركون أن هذا اليوم ليس يومًا عاديًا في حياتها، بل هو لحظةٌ صنعتها بإرادتها، بجهدها، بصلابة الأم التي كانت لها الأب والسند، وبعزيمة زوجها الفلسطيني الداعم، الرجل الذي لم يكن مجرد شريك حياة، بل كان شريك نجاح، يُؤمن بها كما تُؤمن هي بحلمها.
اللغة التي تتجاوز الكلمات
لم يكن النقاش مجرد حوارٍ علمي، بل كان لقاء قلوبٍ اجتمعت على الفخر. وعندما رنَّ هاتف والدتها وسط القاعة، والتقت أعيننا بابتسامةٍ دافئة، شعرت أن الكلمات لا تكفي، فاخترت أن أتحدث لأول مرة بالعربية فقط، لأجل أن تعرف الأم أن الأمور بخير، وأن ابنتها تُضيء القاعة، وأن هذا اليوم هو انتصارها كما هو انتصار صابرين.
وبعدها، عدت للإنجليزية، وتحدثت عن البحث، وأبديت بعض الملاحظات الخفيفة التي لا تُذكر أمام حجم الإبداع الذي رأيته، ثم انتهت المناقشة، وكانت الفرحة التي لا توصف، فرحة أمٍّ رأت حصاد تعبها، وفرحة إخوةٍ اجتمعوا ليشهدوا نجاح أختهم، وفرحة أسيرٍ تُنتظر عودته ليكمل معهم فصول الفخر، وفرحة طفلين صغيرين، ابنها “علي” وابنتها الجميلة” كنز “، اللذين شاهدا والدتهما تصعد درجات المجد.
إنما الإنسان أثر…
في تلك اللحظة، أدركت أن النجاح ليس مجرد شهادةٍ تُعلق على الجدران، بل هو أثرٌ نتركه في القلوب، وبصمةٌ لا تُمحى في ذاكرة من حولنا.
كنتُ محظوظةً أن أكون جزءًا من هذا اليوم، أن أرى هذه القصة تُكتب أمامي، أن أتعرف على صابرين، الإنسانة قبل الباحثة، وعلى والدتها، المثال الحقيقي للأم الفلسطينية التي تُضحّي بصمتٍ وتصنع المجد دون أن تطلب شيئًا بالمقابل.
وكنتُ أكثر حظًا أن أكون بين زملاءٍ رائعين مثل الدكتور خالد دويكات، الذي لم يكن مجرد أكاديمي، بل كان رجلًا يُؤمن بالمواهب ويفتح الأبواب لمن يستحق.
هنيئًا لكِ، صابرين، بهذا الإنجاز، وهنيئًا لنا جميعًا بمعرفتكِ. فأنتِ لستِ مجرد طالبة ناقشت بحثًا، أنتِ قصةٌ تُروى، وأثرٌ سيظل خالدًا، تمامًا كما يليق بالذين جعلوا من العلم رسالة، ومن النجاح طريقًا، ومن الحياة مساحةً للخير والعطاء.