
“إنما الإنسانُ أثرٌ… فكيف يكونُ العطاءُ نقشًا لا يُمحى؟” بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
قد يسيرُ الإنسانُ في دروب الحياة باحثًا عن مرفأٍ يُنير طريقه، عن يدٍ تُعينه حين تشتدُّ العتمة، عن عقلٍ نيرٍ يُرشده حين تتيهُ به السُّبُل. وفي مسيرتي الطويلة في البحث العلمي، كنتُ أبحثُ عن مرشدٍ يُضيء لي الطريق، عن عقلٍ يفيضُ حكمة، وعن قلبٍ يسعُ شغفي بالعلم، حتى ساقني القدر إلى من كان أثره نهرًا لا ينضب، وعطاءه شمسًا لا تغيب، العالم الجليل، الدكتور مُصدَّق براهِمة.
بداية الأثر… حين يكونُ النورُ مفتاحًا للعلم
حين عزمتُ على نشر أبحاثٍ أكاديمية، كنتُ لا أزال في بداية طريقي، تواقًة للخوض في أعماق البحث العلمي، لكنني كنتُ بحاجةٍ إلى من يأخذُ بيدي نحو الضفاف الصحيحة، نحو المعرفة الرصينة التي تُبنى على أسسٍ قوية، لا على محض اجتهادٍ فردي. وحينها، تذكرتُ صديقتي التي شاركتني رحلة الماجستير، فكان اسم الدكتور مصدّق براهِمة أول اسمٍ يشرقُ في حديثنا، كأنه العنوان الأول لكل باحثٍ يسعى إلى طريق الصواب.
لم أتردد لحظةً في التواصل معه، وبكل تواضع العلماء، وبكل رحابة العلماء العظماء، رحّب بنا، وحدد لنا موعدًا للمشورة البحثية. وكم كنتُ مشدوهةً حين رأيتُ رجلاً غارقًا في مسؤولياته، غارقًا في بحور العلم، لكنه رغم ذلك، لم يبخل علينا بلحظة، ولم يتعامل معنا كطالبتين، بل كباحثتين تستحقان الاهتمام.
عطاءٌ لا يُوزن… وموقفٌ لا يُنسى
ذهبتُ إلى لقائنا الأول وأنا أحمل بحثًا كنتُ أعملُ عليه، لم يكن مجرّد أوراقٍ كتبتُها، بل كان شغفًا ممتدًا، ورحلةً من التفكير العميق، لكنني كنتُ أحتاج إلى عينٍ خبيرة، تُنقّبُ بين السطور، وتُضيفُ إليه ما يجعله أكثر قوةً ورصانة. وهنا كان الدكتور مصدّق ذلك العالم المتواضع، الذي لا ينظرُ إلى الباحثين بنظرة تفوّق، بل يضعُ يده في أيديهم، ويمضي بهم نحو الأفضل.
أخذ البحث بين يديه، تصفّحه كما يتصفحُ العالم مخطوطةً ثمينة، لم يكن مجرد استعراضٍ للنص، بل قراءةً كلمةً كلمة، تدقيقًا، تحليلًا، تصويبًا، وإضافةً لأفكارٍ ثرية لم تخطر ببالي. وعدنا بلقاءٍ آخر، وكما يفي العظماءُ بوعودهم، استقبلنا في مكتبه بعد فترة، وكأن البحث أصبح جزءًا من اهتمامه، قرأه مرةً أخرى، وأضاف إليه رؤىً جعلته أكثر نضجًا وقوةً.
عندما يكون الأثرُ امتدادًا للحياة…
العلماءُ الحقيقيون ليسوا أولئك الذين يملكون المعرفة فقط، بل الذين يمنحونها بكرم، دون أن يحدّوا العطاءَ بزمانٍ أو مكان. وكان الدكتور مصدّق براهِمة واحدًا من هؤلاء، رجلًا لا تراه إلا مُحبًّا للعلم، ساعيًّا لنقله، مشجّعًا للباحثين، مُحفّزًا للمبتدئين. لم تكن نصائحه قاصرةً على البحث وحده، بل امتدَّت إلى حياتي الأكاديمية، يوم أن استشرته في قرار تسجيل الدكتوراه، فكان كلماته دعمًا لا يُنسى، وحافزًا مضيئًا.
إن الأثر الحقيقي لا يُقاس بعدد الكتب التي يكتبها الإنسان، ولا بعدد الأبحاث التي ينشرها، بل بعدد القلوب التي يُلهمها، بعدد العقول التي يُنيرها، بعدد الأيدي التي يُمسك بها في لحظات التردد والضياع. وقد رأيتُ أثر الدكتور مصدّق براهِمة في طلابه الذين كانوا يحيّونه بمحبةٍ واحترام، لم يكن مجرد أستاذٍ يُلقي الدروس، بل كان مُعلّمًا بروح الأب، وعالِمًا بخلق التواضع، وأستاذًا يملأُ قلوب طلابه امتنانًا.
اختر أثرَك… فأنتَ ما تتركه خلفك
نحنُ لا نُخلّدُ بأسمائنا فقط، بل بما نزرعه في قلوب الناس، بما نتركه فيهم من أثرٍ لا يموت. فهناك من يكون مرورهُ في الحياةِ خفيفًا كنسيمٍ عابر، وهناك من يتركُ أثرًا خالدًا كظلّ شجرةٍ وارفةٍ، يستظلُّ بها الباحثون عن العلم، ويستريحُ تحتها التائهون في دروب المعرفة.
الدكتور مصدّق براهِمة كان من أولئك الذين يتركون أثرًا نقيًّا، أثرًا لا تمحوه الأيام، ولا تطويه الذاكرة، لأنه أُسّس على العطاء، ونُقِشَ في القلوبِ بالعلمِ والخلقِ الرفيع.
شكرًا دكتور مصدّق، لأنك كنت أثرًا طيبًا في رحلتي الأكاديمية، لأنك منحتَ من وقتك الكثير، ومن علمك الأكثر، لأنك كنتَ كالغيمة التي تمطرُ دون أن تنتظر المقابل، وكالشمس التي تضيء دون أن تطلب الشكر.
اللهم اجعل أثرنا نورًا لا ينطفئ، وذكرًا لا يُمحى، وعلّمنا كيف يكون العطاءُ نقشًا خالدًا في سجلّ الزمن!