
دوام ترديد التهديد بالتهجير وانعكاساته النفسيّة المتوقعة !!! ، بقلم : د. غسان عبد الله
استعمال الأسطوانة المشروخة والتهديد بالتهجير ليست جديدة، بل لها جذورها في فكر الابرتهايد القديم الجديد، والذي تتشارك به العديد من القوى الاستعمارية على اختلاف مواقعها الجغرافية وأنظمتها السياسية، وحكوماتها التي تنتخبه شعوبها، وفق ما يشهد على ذلك التاريخ منذ القدم.
قديما كان تهجير الشعوب يتم لدوافع اقتصادية صّرفة كما حصل في تهجير ملايين الأفارقة المسحوقين الى أمريكا وها هو هذا الدافع يعود من جديد بعد أن أعلن ترمب نيته عن تهجير سكان غزة والتعامل معها كصفقة عقارية له ، اضافة الى وضع يداه على غرين لاند وضم كندا، ثم ظهر الدافع العسكري الكولونيالي كما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون في احدى جزر موريشوس، واليوم جاء بصيغة التطهير العرقي genocide .
تم استخدام مصطلحات كثيرة لوصف هذه الحالة : إعادة موضعه السكانreallocation/ repositioning ، displacement ترحيل، مصادرة حقوق وأملاك transfer ترحيل قسري dispossessing ، واليو نحن بصدد مواجهة شكل جديد تطهير عرقي genocide.
تم ولا يزال يتم استعمال أساليب عدة لجس نبض الشعب حيال فكرة التهجير .
⦁ قديما تم اتباع العنف وارتكاب المجازر كما حصل في الطنطورة ودير ياسين وكفر قاسم، اقرت وبرعم، وغيرها من المجازر التي اعترف ببعضها فاعلها وهناك مجازر لا يزال نفس الفاعل يتعمد تجاهلها.
⦁ اللجوء الى أساليب تضييق الخناق على المواطنين من أجل الحد من حرية تنقلهم، كفرض الأوامر العسكرية أو الميل الى وضع الحواجز والستائر الترابية والبوابات الحديدية. تبدلت الأهداف من وراء هذا الأسلوب، اذ في البداية لتثبيت أمر واقع يقول ” نحن هنا” وتوصيل رسالة للسكان بأن هناك من يسيطر عليهم، ثم تم إضافة هدف اّخر التضييق كي يشعر المواطن بالقرف وبدء التفكير في البحث عن بدائل تمكنه من تجاوز مشاكل ومعيقات الحواجز الثابتة هذه ( حاجز قلنديا المقيت مثالا) وأثرها في حياته اليومية الثابتة هذه. أحيانا يتم اللجوء الى ما بات يعرف باسم الحواجز الطيّارة غير الثابتة والتي من أبرز أهدافها اذلال المواطن والتنكيد عليه.
⦁ أضف الى ذلك، توظيف هذه الحواجز لخدمة رؤى سياسية تتمثل في تثبيت الضم لمناطق جغرافية معينة( حاجزي قلنديا وحزما لفصل مناطق الضفة عن مدينة القدس، وحاجزي الكونتينر وزعترة لفصل شمال الضفة عن جنوبها ).
مما لا شك فيه أن هناك زيادة كبيرة في عدد الحواجز العسكرية التي يضعها الاحتلال، ليس فقط بهدف تضييق الخناق ومصادرة حرية الحركة والتنقل، بل وأيضا من أجل اذلال المواطن الفلسطيني ودفعه للتفكير في الهجرة.
مما لا شك فيه، أن الحديث يطول عن موضوع الحواجز هذه من حيث الهدف والأهمية واّليات تفعيلها، لذا سأترك هذا الأمر للمختصين كي تتم مناولته بشكل شمولي ومفصّل.
مهما اختلفت وتعددت التسميات، فجميعها تترك بصمات واّثارا سيكولوجية دائمة الملامح ومختلفة مستويات التأثير. لعل ما تعرض له الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948 والتي تسببت بوجود مصطلح سيكولوجي جديد بات يعرف باسم Inter generational traumatic effects ، تبعه ما نجم عن نكبة أخرى عام 1967 و نزوح مئات ألاف اللاجئين الفلسطينيين خارج ديارهم ، عقب ذلك مجازر واقتحامات متواصلة للمناطق المحتلة بهدف التهجير وفي أحسن الحالات اذابة الهوية الوطنية الفلسطينية من خلال محاولات خلق التبعية والتطبيع( انظر كتاب الكاتب “دور العمال الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي- جيش احتياط في اسرائيل، والذي صدر عن المكتب الفلسطيني للصحافة والاعلام، القدس،1981) وكتاب ” الحصار – الانتهاكات الإسرائيلية ضد الحركة الثقافية الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967)”و الذي صدر عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس، 1987 .
للأسف الشديد، حققّت دعوات التهجير بعض من أهدافها، حيث باتت حديث الغالبية من الفلسطينين، لدرجة قيام بعض ممثلي الفسائل الفلسطينية باجراء وقفات احتجاجية في الساحات العامة، ،فبمجرد البدء في دوام التفكير بها ، تكون الملهاة قد وجدت سبيلا الى نفوس وعقول البعض، بدلا من تعبئة الجماهير وبلورة خطط تصدي وفعل لمنع حدوثها.
في ظل مثل هذه الأوضاع، أخذت تتبلور أعراضا سيكولوجية عديدة التسميات والأشكال. لنا أن نذكر أن أول دراسة سيكولوجية علمية حول هذا الأمر، قامت بها الباحثة الفلندية راية باناوميكي لصالح جمعية الدراسات العربية عام 1983، تناولت الباحثة، وميدانيا، الأثار السيكولوجية على الاطفال الفلسطينيين وبمساعدة المربية تريز سابيلا .
في الأسبوعين الأخيرين، قام فريق عمل الصحة النفسية في مؤسسة مركز الدراسات والتطبيقات التربوية CARE بأخذ عينة عشوائية من مناطق جغرافية مختلفة( القدس المحتلة، رام الله، أريحا وشمال الخليل)،ذكورا واناثا وبمستويات عمرية وتعليمية ورؤى سياسية مختلفة، بلغ عددها قرابة 900 شخص. بعد اجراء مقابلات فردية مع أفراد العينة هذه،سجّل الفريق الملاحظات التالية :-
- غالبية من تحدثنا معهم، يرون أن التهديد بالتهجير يرون فيه مجرد فزّاعة ومحاولة يائسة، للتغطية على ما جرى من عمليات ومجازر أقل ما يمكن وصفها بعمليات ابادة جماعية، وباالتالي تجيء هذه الخزعبلات والمحاولات بمثابة ملهاة جديدة لالهاء الشعب ومؤسساته عن القيام بأفعال من شأنها درء الانعكاسات النفسية لمحاولات الابادة الجماعية التي لا زالت تتواصل في كافة أنحاء محافظات الوطن الشمالية والجنوبية مستهدفة كافة فئات وقطاعات الشعب الفلسطيني،وليس صدفة التركيز على مخيمات اللاجئين كمحاولة طمس أحد معالم القضية الفلسطينية الرئيسة، اضافة الى ابطاء عمليات اعادة التعمير كي تتم بلورة خطة كاملة لجعله تابعا لرؤية ترامب وحلفاءه في المنطقة،ليصبح الاّمر الناهي في كل صغيرة وكبيرة وبالتالي يصبح سياط التبعية الاقتصادية هو المسيطر في المنطقة ككل، مثلما هو حال بعض الدويلات القائمة .
⦁ مما زاد الطين بلّة، لدى مثل هؤلاء: شح الدعم المادي والمعنوي أولا من ميسوري الحال في مجتمعنا وثانيا من الشعوب العربية ، هذا الدعم المنشود، للأسف لم يتجاوز سقف الهتافات والشعارات والتصريحات التي لا تغني ولا تسمن عن جوع. مما فاقم مثل هذا الشعور ،دوام حالة الانقسام والعمل الفئوي الضيّق.
⦁ من احدى أهداف هرطقات والتلويح بتنفيذ التهجير، بث الشعور بالوهن والقنوط لدى المواطنين، وللأسف محاولات اخراط بعض أفراد الطابور الخامس من بني جلدتنا سواء عربية كانت أو فسطينية، بقصد أوغير قصد، محاولات جعل الشك والريبة تتغلغل في نفوس الشعب على طريق الاستكانة والتسليم. من خلال اجابات وردود فعل غالبية أفراد هذه العينة، وجدنا الوعي الكافي باستحالة تنفيذ هذا الذي يصبوا اليه دعاة التهجير،فمن التجارب ومحاولات التهجير التي عقبت نكبة 1948 والدروس المستفادة منها، جراء الواقع التعس الذي عاشوه وما زالو،ولعلّ في تشبث أهل محافظة قلقيلية مثالا على ذلك، اذ رفضوا رفضا قاطعا، بعد هزيمة حزيران وما تلاها، مغادرة بيوتهم وأراضيم اّخذين العبر مما جرى عام 1948، ناهيك عن واقع الحال الذي يقول ” لا مكان اّخر لنا نذهب اليه ولا خيار لنا سوى دوام التشبت بأرضنا والثبات عليها” .
⦁ لم يتمكن القنوط من التغلل الى نفوس المواطنينن وذلك بفعل دوام السير والاقتداء بالعقيدة الدينية وقول الكريم” ولا تيأسوا ” ولا تقنطوا من رحمة الله”
⦁ وجدنا لدى فئة من هذه العينة العشوائية حالة من الترنح والريبة بالشعور بفقدان الأمل وفقدان المكان الاّمن، والأرق والقلق لدرجة الهلوسة، بعد أن شهدوا الدمار الكبير الذي لحق بممتلكاتهم والأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى والمفقودين.
للخروج وللتخفيف من حدة الانعكاسات السيكولوجية المتوقعة لاحقا (تنامي مشاعر الانطواء والشعور بالوحدة ، واتساع دائرة التفكك الاجتماعي، وبالتالي زيادة احتمالات الشعور بالاحباط وانعدام الدافعية للمبادرة والمثابرة مع انخفاض الناتجيّة والاعتماد على الذات، وملاحظة جليّة ملموسة تتمثل في تدني التحصيل الأكاديمي لدى فئة الطلبة،ودوام سيطرة مشاعر الحزن وشرود الذهن، جراء الخوف من الاّتي ” التهجير”، كل هذا سيساهم في زيادة فرص العنف الأسري والمحلي مما يقوّض من فرص السلم الأهلي ).
⦁ لذا نحن بجاجة ماسّة لوضع الخطط الوقائية preventive –measures وضرورة تكثيف ثقافة الصحة النفسية وعمل المزيد من التدريب، خاصة في المناطق المهمشة، وتكاتف الجهود بين الجميع: مؤسسات حكومية وأهلية مختصّة، مهنيين في المجال وكل من له علاقة مباشرة أوغير مباشرة، بغية الحد من الاّثار السيكولوجية السلبية المتوقعة كتلك التي أشرنا اليها أعلاه، على سبيل المثال لا الحصر
⦁ للاعلام( بكل أنماطه وأشكاله) دورفاعل في هذا المجال، سواء عند اختيار المضطلحات المستعملة أو تقديم البرامج. حبذا لو يتم التركيز على الجانب الايجابي في الشكل والمضون والابتعاد قدر الامكان عن دوام استخدام الصور والبرامج ذات المدلول والأثر السلبي المحتمل .
⦁ ضرورة الالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية واخراط جميع القوى الوطنية والاسلامية في خندق واحد، على طريق العمل الجماعي الموحد ووأد العمل الفئوي الضيّق الذي أوصلنا الى الحال المزري الذي نحن عليه اليوم، مما جعل البغاث في أرضنا يستنسر .