التحريض على العنف لا يقتصر فقط على المنابر الدينية وما يرد في خطب الجمعة من تسخين لعواطف الناس ومن خلط للدين بالسياسة، ولكن هناك أنواع أخرى من التحريض الخبيث التي لا يدركها إلا أصحاب التخصص في مجال الصحافة والإعلام
هناك التحريض الذي يمارس بخبث ودهاء من خلال تضخيم أخبار لا يجوز تضخيمها والتعتيم على أخبار أخرى جديرة بأن يتم التركيز عليها وإعطاؤها المساحة التي تستحقها.
سوف أضرب مثالا لإحدى الصحف دون أن أسميها، وهو مثال يبين مدى الخبث الذي تتعامل به الصحف مع قضية معينة وتنحاز بشكل بارع لا يمكن أن يلومها عليه أحد من الناحية القانونية أو المهنية، رغم أن الانحياز واضح للمتخصصين في مجال الإعلام وتحليل المضمون
فعندما تقوم جريدة محلية مثلا بنشر مادة تشبه التحقيق الصحافي مكونة من أربعة آلاف كلمة حول بعض الأفراد الذين تضررت أعينهم نتيجة المشاركة في أعمال الشغب التي وقعت يوم الرابع عشر من فبراير 2011 وتضخم هذه المسألة وتعطيها عنوانا مثيرا، وتضع هذه المادة إلى جوار خبر مقتضب يتناول الانفجار الذي وقع قبل يومين في بني جمرة والذي استهدف دورية شرطة وأصاب أربعة من أفراد الدورية من بينهم ضابط إصابته بليغة
ما هو القصد من وراء نشر خبر حديث بهذا الشكل المقتضب رغم أنه يتعلق بجريمة إرهابية مقصودة ونتائجها واضحة وموثقة إلى جوار مادة أخرى مكونة من أربعة آلاف كلمة تتناول حدثا مرا عليه عام وسبق أن نشرت حوله مئات الأخبار والتقارير والمقالات
لو أننا قمنا بعمل مسح لكل ما نشرته هذه الجريدة حول الاعتداءات التي وقعت على رجال الشرطة خلال عام أو عامين لما بلغ عدد كلمات ما نشر أربعة آلاف كلمة، فهل هذا حياد إعلامي؟ وهل هذه هي أمانة المهنة؟
والأمر لا يتعلق فقط بالكم وبأهمية كل قضية وتوقيتها، ولكنه يتعلق أيضا بالإخراج الصحافي الذي يتعمد التقليل من شأن قضية والتركيز على أخرى، فعندما يرى القارئ هاتين المادتين متجاورتين على صفحة واحدة فما هو الأثر الذي سيحدث له؟ مادة كبيرة تستهدف النيل من الشرطة ومادة مقتضبة حول ما تعرض له رجال الشرطة من إرهاب.
هذا الأسلوب الخبيث في الصياغة وفي العرض لم يقتصر فقط على تضخيم أمور تافهة والتقليل من شأن أمور أكثر أهمية، ولكنه سعى بلا شك إما إلى إخفاء الخبر الخاص برجال الشرطة الذين سقطوا وهم يؤدون الواجب، وإما إلى منع أي تعاطف معهم قد ينشأ لدى القارئ، لأنه سوف يربط بين الخبرين وسوف يتعاطف مع هؤلاء الذين أصيبت أعينهم أثناء التظاهرات، ويرى أن هؤلاء هم الضحايا وليس رجال الشرطة
كل هذا يتم بذكاء كبير، ولا أحد يستطيع أن ينتقد موقف الجريدة خاصة أنها نشرت خبر الاعتداء على الشرطة كبقية الصحف، رغم أنها مسخته وأفقدته معناه.