
من ترامب إلى الفصائل: كيف يحوّل المسحِّجون الأخطاء إلى إنجازات؟ بقلم : م. غسان جابر
إذا كنت تظن أن التسحيج ظاهرة محلية مقتصرة على الساحة العربية، فأنت لم ترَ بعد كيف يعمل المسحِّجون في إسرائيل وأمريكا! من رام الله إلى تل أبيب مرورًا بواشنطن، الجميع لديهم “عباقرة التبرير” الذين يحولون أي فشل إلى “انتصار مؤجل”، وأي كارثة إلى “ضربة استباقية”، وأي هزيمة إلى “جزء من الخطة الكبرى التي لا يفهمها إلا القائد الملهم”!
التسحيج الفلسطيني: لكل فصيل أسطورته الخاصة!
في المشهد الفلسطيني، التسحيج ليس مجرد موقف، بل هو فن متقن يُمارَس في جميع الاتجاهات. كل طرف لديه مسحِّجوه الذين يرفعون القائد إلى مرتبة “الرمز الذي لا يُخطئ”، حتى لو كانت أفعاله تكرر نفس الأخطاء منذ عقود.
في السلطة، أي قرار حكومي، مهما كان كارثيًا، يُبرَّر بأنه “جزء من رؤية استراتيجية طويلة الأمد”، حتى لو كان أثره المباشر زيادة المعاناة اليومية للمواطن. وإذا خرج أحد لانتقاد الأداء؟ لا مشكلة، فالمسحِّجون جاهزون بالردود:
“أنت لا ترى الصورة الكاملة!”
“هذه مجرد مرحلة صعبة، لكنها خطوة على طريق التحرير!”
“القائد يعرف ما لا تعرفه، فاصمت واتبع!”
أما في الفصائل، فالأمين العام لأي تنظيم هو دائمًا “قائد استثنائي في زمن قلّ فيه الرجال”. إذا بقي في منصبه لعقود، فهذا “ثبات على الموقف”. وإذا لم يحقق أي إنجاز عسكري أو سياسي، فذلك “حكمة وصبر استراتيجي”. وإذا اتخذ قرارات متناقضة خلال أسبوع واحد، فالمسحِّجون جاهزون لتبرير ذلك بعبارات مثل:
“تكتيك معقد لا يدركه العوام!”
“ضربة سياسية ذكية تربك العدو!”
“المرحلة تتطلب المرونة… والصلابة في آن واحد!”
التسحيج الإسرائيلي: الاحتلال دائمًا ضحية!
لكن لا تظن أن التسحيج مقصور علينا. الإعلام الإسرائيلي يُعتبر ماكينة تبرير متطورة، يحول الاحتلال إلى “ضحية”، والمجازر إلى “حرب عادلة”. عندما يقصف جيش الاحتلال غزة، فهو “يدافع عن نفسه”، وعندما ترد المقاومة، فهي “تمارس الإرهاب”. حتى عندما تتزايد فضائح الفساد حول نتنياهو، يخرج أنصاره ليصفوه بأنه “القائد الذي لا غنى عنه”، وكأن إسرائيل ستنهار إذا اختفى!
التسحيج الأمريكي: ترامب والقائد الذي لا يُناقَش!
في واشنطن، الديمقراطية لا تمنع التسحيج، بل تجعله أكثر احترافية! منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، عاد معه جيش من المسحِّجين الذين يبررون كل شيء. إذا وقع في فضيحة، فهذه “مؤامرة من الدولة العميقة”. وإذا خسر حلفاءه الدوليين، فهو “يلعب بذكاء”. وإذا قال تصريحًا غريبًا أو عنصريًا، فالمحللون جاهزون لتفسيره بأنه “تكتيك لإرباك خصومه”!
الإعلام المحافظ في أمريكا يقدم ترامب كأنه “المنقذ”، حتى لو كانت سياساته تقود البلاد إلى الفوضى. وأي انتقاد له يُقابل بردود مثل:
“الليبراليون يحاولون إسقاطه!”
“هو الوحيد الذي يجرؤ على قول الحقيقة!”
“كل رئيس يخطئ، لكن ترامب يعرف ماذا يفعل!”
القمة العربية القادمة: كيف سيبرر الإعلام أي قرار؟
والآن، لنتخيل سيناريو القمة العربية القادمة، حيث يضغط ترامب على القادة العرب لقبول “خطة السلام المعدلة”. كيف سيكون المشهد الإعلامي؟
السيناريو الأول: رفض الصفقة
إذا قرر القادة العرب رفض الصفقة، فالإعلام الرسمي سيخرج بالتصريحات المعتادة:
“العرب قالوا كلمتهم وأوقفوا عجرفة ترامب!”
“قرار تاريخي يُعيد الهيبة للأمة!”
“هذه لحظة فاصلة في العلاقات الدولية!”
لكن بعد يومين، ستبدأ الاجتماعات السرية، والمفاوضات خلف الكواليس، وسيعود الحديث عن “إعادة النظر في بعض البنود”!
السيناريو الثاني: الموافقة على جزء من الصفقة
أما إذا وافق القادة العرب على جزء من الخطة، فالتسحيج الإعلامي سيصل إلى مستوى قياسي:
“العرب يضعون شروطهم، وترامب يتراجع!”
“قرار شجاع يحقق التوازن بين الحقوق الفلسطينية والمصالح العربية!”
“هذه بداية جديدة للعلاقات الدولية… العرب لا يقبلون الضغوط!”
وبعد أسابيع، عندما يتبين أن الصفقة لم تتغير، وأن الشروط الأمريكية هي التي نُفذت، سيتحول الخطاب الإعلامي إلى عبارات مثل:
“نحن لم نوقّع بعد، ولكننا ندرس الخيارات!”
“هذا تكتيك تفاوضي طويل الأمد!”
“لا تستعجلوا النتائج، نحن نعمل بصمت!”
نقول أن هذا عالم يحكمه المسحِّجون!
الحقيقة أن التسحيج ليس مجرد ظاهرة عربية، بل هو مرض عالمي. من ترامب إلى نتنياهو، ومن زعماء الفصائل إلى الحكومات، الجميع لديهم “جوقة التصفيق”. لا يهم ما يفعله القائد، فهناك دائمًا من سيبرر، ومن سيهلل، ومن سيقنعك أن الأسود ليس أسودًا… بل مجرد “درجة داكنة من الأبيض”!
مع أطيب التحيات إلى كل سحيج.
م. غسان جابر (قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)