!["إنما الإنسان أثر: الدكتورة إيمان حماد.. سيدة الحرف والفكر" بقلم : تهاني رفعت بشارات](https://www.shfanews.net/wp-content/uploads/2025/02/136-1.jpg)
“إنما الإنسان أثر: الدكتورة إيمان حماد.. سيدة الحرف والفكر” بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في سماء الأدب الفلسطيني، تلمع نجوم يضيء بريقها دروب الإبداع، ومن بينها يبرز اسم الدكتورة إيمان حماد، التي لم تكن مجرد أكاديمية عابرة في رحاب الجامعات، بل كانت نبراسًا مشعًا يحمل رسائل الأدب والفكر إلى أفق واسع لا تحدّه حدود. هي امرأة لم تكتفِ بأن تحفر اسمها في سجل الأكاديميا، بل امتدت بصمتها إلى الأدب، السياسة، الإعلام، والتميز في كل ما طرقته يدها من أبواب. فكما تترك الرياح أثرها على رمال الصحراء، وكما تنقش الأمواج حكاياتها على صخور الشطآن، كانت إيمان حماد تكتب حضورها بحروف لا تُمحى، وتترك أثرًا عميقًا لا يُنسى.
العلم رسالة.. والقلم سلاح
حملت الدكتورة إيمان حماد مشعل العلم منذ سنواتها الأولى، فدرست الأدب الإنجليزي وتخصصت في الدراما، فأدركت أن المسرح ليس مجرد خشبة للعرض، بل هو مرآة تعكس الواقع، وصوت ينطق بالحقيقة. لم تكتفِ بأن تكون طالبة مجتهدة، بل ارتقت لتكون أستاذة جامعية تُضيء دروب طلبتها، بدءًا من الجامعة الهاشمية في الأردن، وصولًا إلى جامعة النجاح الوطنية، حيث أصبحت من أبرز الأكاديميات في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.
لم يكن التدريس بالنسبة لها مجرد وظيفة تؤديها، بل كان رسالة تنبض بالحياة، فاستثمرت سنواتها في تطوير مهاراتها، حيث اجتازت ثمانين ساعة تدريبية في التميز في التعليم، وتدرّبت لمدة عامين على التدريس الجامعي بإشراف الاتحاد الأوروبي، لتصقل تجربتها بمعرفة أكاديمية راسخة وخبرة ميدانية عميقة. كانت تؤمن أن التعليم لا يقتصر على قاعة المحاضرات، بل يمتد إلى كل مساحة يمكن أن تصل إليها الكلمة، فحملت أفكارها إلى أكثر من ثلاثين مؤتمرًا دوليًا، لتكون سفيرة الفكر الفلسطيني أينما حلّت.
الكتابة.. نافذة الروح وصدى المعاناة
لم تكن الدكتورة إيمان حماد مجرد أستاذة جامعية تنقل المعرفة إلى طلابها، بل كانت كاتبة تحمل هموم شعبها في قلبها، وتترجمها إلى حروف تنبض بالحياة. ولأنها أدركت أن “إنما الإنسان أثر”، كان لزامًا عليها أن تترك بصمتها في الأدب، فأبدعت في كتابة القصة والشعر، لتكون مرآة تعكس وجع الوطن وتوثّق لحظات الألم والصمود.
ومن بين إبداعاتها الأدبية، برزت قصتها A Bullet and a Glass of Water، التي لم تكن مجرد كلمات مسطّرة على الورق، بل كانت صرخة مدوّية تحكي مأساة اجتياح نابلس عام 2002، حينما كانت المدينة تغرق في ظلام الحصار، والرصاص يرسم ملامح الموت في كل زاوية. هذه القصة لم تبقَ حبيسة الأدراج، بل حلّقت عاليًا حتى اختيرت للنشر في كتاب Boundaries and Borders الصادر عن مجموعة كاتبات WOC في بروكلين – نيويورك، لتكون الصوت الفلسطيني الوحيد في هذه المختارات العالمية.
لم يكن هذا الاختيار حدثًا عاديًا، بل كان تتويجًا لإبداعها، حتى أن الناقدة العالمية Carolyn A. Butts اختارت قصتها لتكون على الغلاف الخلفي للكتاب، إلى جانب مقال للكاتبة النيجيرية Iquo Essien، بينما قامت الشاعرة والممثلة Kim Brandon بتحليلها وتقديمها بطريقة معمّقة، ما جعلها واحدة من أهم الأعمال الأدبية في المجموعة.
بين الأدب والإعلام.. قلم لا يعرف الصمت
لم تقف حدود إبداع الدكتورة إيمان حماد عند القصة والأدب، بل تجاوزته إلى عالم الإعلام والصحافة، حيث كتبت مقالات سياسية لجريدة القدس الفلسطينية، وأعدّت وقدّمت برامج تلفزيونية تناولت قضايا المرأة والأسرة، لتؤكد أن رسالتها الفكرية ليست محصورة بين دفتي كتاب، بل هي شعلة وعي متقدة تمتد إلى مختلف المنابر.
اهتمامها بقضايا المرأة لم يكن مجرد طرح نظري، بل كان جزءًا من رسالتها الحياتية، إذ سخّرت قلمها وإبداعها للدفاع عن حقوق النساء، وفتح الآفاق أمامهن ليصبحن شريكات في بناء المجتمعات، وليس مجرد متفرّجات على مشهد الحياة.
ستة كتب.. وبصمة عالمية لا تُمحى
لم تكن الدكتورة إيمان حماد كاتبة عابرة في فضاء الأدب، بل رسّخت وجودها عبر ستة كتب منشورة، حملت بين طياتها نبض الحياة، وتأملات الروح، وصدى القضية الفلسطينية. فمن فسيفساء القلب وهديل الروح إلى أشجان وعنفوان وطلبة في الذاكرة، ومن Women in the Shadow of Oblivion إلى Desdemona in the Shadow of the Willow: Quest of the Soul، كانت كل صفحة تروي حكاية، وكل حرف يعكس تجربة إنسانية ثرية.
لم تكتفِ بكتاباتها الفردية، بل كان لها حضور في أربعة كتب عالمية، لتؤكد أن الكلمة الفلسطينية قادرة على اختراق الحواجز، وأن الأدب الحقيقي لا يعرف الحدود.
قلب يتسع للجميع.. وأثر لا يزول
في عالم تكثر فيه الحواجز، وتضيق فيه الصدور، كانت الدكتورة إيمان حماد نموذجًا للإنسان الذي يمدّ يده للآخر، ويرى في العطاء رسالة سامية. لم تبخل بعلمها على أحد، ولم تكن ممن يحيطون معرفتهم بأسوار عالية، بل كانت كالماء الذي يسقي كل من يحتاج إليه.
حين تواصلت معها إحدى الكاتبات الشابات لسؤالها عن كيفية نشر كتابها الأول، لم تتردّد لحظة في تقديم المشورة، بل قدّمت لها كل التفاصيل والخطوات، دون أن تبخل بأي معلومة. في زمنٍ أصبح فيه كثير من الأكاديميين يرفضون حتى رفع سماعة الهاتف للرد على استفسار بسيط، كانت إيمان حماد تجسيدًا لنبل الأخلاق، والتواضع الذي يزيد العظماء تألقًا.
إنما الإنسان أثر.. وإيمان حماد بصمة لا تُمحى
في النهاية، ليس النجاح مجرّد ألقاب تُمنح، ولا شهادات تُعلّق على الجدران، بل هو الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين، وهذا ما فعلته الدكتورة إيمان حماد. في قاعات الجامعات، كانت معلمة مُلهمة، وفي عالم الأدب، كانت كاتبة تحمل همّ القضية الفلسطينية إلى المحافل الدولية، وفي الإعلام والصحافة، كانت صوتًا حرًا لا يعرف الصمت.
إنها نموذج للمرأة الفلسطينية التي لا تعرف المستحيل، والتي تؤمن أن القلم قد يكون رصاصة في وجه الظلم، أو غيمة تُمطر وعيًا على العقول العطشى. هي بصمة لا تُمحى، ونبض مستمر في قلب فلسطين، وإن كانت الأيّام تطوي صفحات العمر، فإن ما يخلد الإنسان حقًا هو أثره الذي يبقى حيًا في ذاكرة الزمن.
فيا دكتورة إيمان، لكِ كل الحب والتقدير