تميزت القصيدة العربية التقليدية -خاصة في العصر الجاهلي- بالطول المترهل. ولعل هذا الأمر قد تماشى -في حينه- مع إيقاع خطو الحياة البطيء. ومن ذلك ظهور القصائد الطوال (الحوليات) التي استغرق تأليف الحولية منها عاماً كاملاً
من جهة أخرى، بالرغم من أن طول القصيدة الجاهلية قد تراوح بين ثلاثين إلى مئة وعشرين بيتاً؛ فهناك أمثلة في العصر الجاهلي على قصائد قصيرة تقتصر على موضوع واحد (باستثناء شعر الحماسة). أما التغيير الحقيقي في طول القصيدة في الشعر العربي فقد ظهر في العصر الأموي، ثم في العصر العباسي؛ حيث تأثر الشعر بعوامل خارجية خاصة النفوذ الفارسي، فظهرت القصائد القصيرة. ومن ثم أصبحت هذه القصائد سائدة في ذلك العصر، ثم فيما تلاه من عصور أدبية، وصولاً إلى عصرنا الحاضر
هذا الاتجاه في تأليف القصائد القصيرة يظهر في أعمال الشعراء العرب المعاصرين بصفة عامة حيث تميزت قصائدهم بالقصر والاختصار والاقتصاد في الأسلوب مخالفين بذلك من سبقوهم من الشعراء القدامى. وبالرجوع إلى قصائد هؤلاء الشعراء يتضح أن القصائد المكتوبة على نمط التفعيلة أطول من الأخرى المكتوبة على هيئة (قصيدة النثر)؛ حيث تتألف القصيدة -وفقاً لبعض الدواوين المنشورة- من سطرين إلى أربعة أسطر على أكثر تقدير
ولطول القصيدة في العصر الجاهلي أسباب منها، أن الشعراء كانوا يميلون إلى إطالة القصيدة لأن ذلك كان يعد من المهارات الفنية، وبالتالي فإن المتلقي يستقبل ذلك الطول بالترحاب والقبول. بالإضافة إلى أن طول القصيدة كان يعتمد بالأساس على تنوع الأغراض الشعرية فيها؛ وذلك من مثل الوقوف على الأطلال، والنسيب، ووصف الراحلة وسواه، بالرغم من أن معظم تلك الأغراض ليس له بالضرورة صلة مباشرة بموضوع القصيدة الرئيس
إن تلك الأغراض الشعرية لم تعد تلعب الآن أي دور في القصيدة الحديثة التي تحللت من قيود القصيدة القديمة ومنها الأغراض الشعرية التي تسهم في طول القصيدة. وهكذا فإن الشاعر العربي الحديث لا يعتبر أن طول القصيدة له أي أثر في قيمتها الفنية أو في توثيق صلتها بالمجتمع الحديث أو في ترقية موضوعها ومحتواها. مثلاً عندما سُئلت الشاعرة الكويتية سعدية مفرح عن الدور الذي يلعبه طول القصيدة في شعرها أجابت: «إن قصيدتي هي سيدة نفسها، وهي أيضاً ملكي أنا. ولا أريد أن أقول بأنني أكتب قصيدة قصيرة أو طويلة؛ لأن القصيدة هي القصيدة بغض النظر عن عدد كلماتها وأبياتها
في حين يذهب أحد الدارسين المعاصرين إلى أن طول القصيدة في الماضي يمثل موقفاً (دكتاتورياً) من الشاعر تجاه جمهوره؛ فالشاعر آنذاك كان يسترسل في الإلقاء ويطيل دون أن يتيح للمستمعين أي فرصة لمقاطعته. وفي المقابل فإن القصيدة القصيرة في العصر الحديث تمثل (الديمقراطية) لأنها لا تجعل المتلقي يمل حين سماعها أو قراءتها، بالإضافة إلى أنها تمنحه الفرصة كاملة للمساهمة في إكمالها بما يراه. وبالتالي فإن القصيدة الجيدة يجب أن تحتوي على سطور قليلة فقط بحيث لا يتعدى طولها أربعة أو خمسة أسطر؛ حتى لا يمل المتلقي من تكرار الألفاظ والصور فيها
ولعل من الطريف ملاحظة أن قصائد الشاعرات -بصفة عامة- قد تميزت بقصرها نسبياً. وقد يكون في ذلك ما يعزز ما ذكرته الناقدة رشيدة بن مسعود من أن معظم الشاعرات العربيات -باستثناء الخنساء- كتبن القصائد القصيرة عبر كل عصور الأدب العربي. فالخنساء نفسها -مثلاً- كانت تكتب قصائد قصيرة لا تتعدى بيتين أو ثلاثة حتى توفي أخوها فأصبحت تكتب المرثيات وطالت قصائدها. وقد لفتت بن مسعود الانتباه إلى أن بعض النقاد والدارسين قد حكموا على شعر الشاعرات بقساوة حين أطلقوا أحكاماً غير منصفة بحقهن. حيث رأى هؤلاء النقاد أن الشعراء الرجال يميلون إلى كتابة القصائد الطويلة التي تعكس مهاراتهم الفنية؛ لأن طريقتهم في التفكير أكثر نضجاً، ولأنهم يكتبون من غير تسرع! وفي المقابل فإن الشاعرات يملن إلى كتابة القصائد القصيرة؛ مما يعكس ضعف عقولهن ومحدودية مهاراتهن الأدبية، وتسرعهن في الكتابة
ولكن: إن سلمنا بقصر القصائد التي تكتبها الشاعرات المعاصرات اليوم؛ فماذا عن القصائد الأخرى التي يكتبها الشعراء، والتي يصل طولها أحياناً إلى سطرٍ واحد؟. هل نستطيع القول حينها إن هذا دليل على ضعف عقولهم، وعدم نضجهم، وقلة مهاراتهم الأدبية فضلاً عن تسرعهم في الكتابة؟! أم أن العصر الذي نعيشه بأنفاسه المتلاحقة وعجلته التي تسير بسرعة مذهلة قد أسهم مع عوامل أخرى في الاقتصاد في طول القصيدة لدى الطرفين: شاعرات وشعراء؟