2:45 مساءً / 13 فبراير، 2025
آخر الاخبار

“إنما الإنسانُ أثرٌ…” بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

"إنما الإنسانُ أثرٌ…" بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

“إنما الإنسانُ أثرٌ…” بقلم: د. تهاني رفعت بشارات


نحنُ عابرو سبيل، نمضي تاركين خلفنا بصماتٍ تروي حكاياتنا لمن يأتي بعدنا، فمنها ما يكون كعطرٍ لا يزول، ومنها ما يخبو كظلٍّ مرَّ واختفى. لكن أعظم الأثر هو ذلك الذي يمتدُّ في القلوب، يُزهر في الأرواح، ويظلّ حيًّا في ذاكرة الأيام.

رحلتي إلى ماليزيا لمناقشة أطروحة الدكتوراه لم تكن مجرد سفرٍ عابر، بل كانت ملحمةً من الصبر، ودروسًا في اليقين، وتجربةً نقشَت في داخلي معاني العطاء، ومعادن البشر. في بداية أبريل، وبين أجواء رمضان المبارك، شددتُ الرحال وحدي، ترافقني ابنتي الوحيدة، تاليا، نبضُ قلبي وروحُ عمري. كنتُ على أعتاب تحقيق حلمٍ انتظرته طويلًا، مزيجٌ من الفرح والخوف يغمرني، فكيف للإنسان أن يجتمع فيه النقيضان؟ كنتُ فخورةً بنفسي، بسنوات الجدِّ والمعاناة التي أوصلتني إلى هذا اليوم، لكنّ القلق كان يثقل كاهلي؛ رهبة الغربة، وطول الرحلة، ومسؤولية أن أكون وحدي في هذه اللحظة المصيرية. ومع ذلك، كنتُ مؤمنةً أن لكلّ مشقةٍ نهاية، وأنّ لكلّ صبرٍ ثمرة.

وفي الغربة، أدركتُ أن معرفة الإنسان لا تُقاس بطول العِشرة، ولا بصِلة الدم، بل بالمواقف التي تكشف لك من يستحق أن يكون تاجًا على رأسك، ومن يستحق أن يُمحى من ذاكرتك للأبد. هناك، وهبني الله أخوين لم تلدهما أمي، رفيف ورجائي، شابان يدرسان في جامعة “يوسيم”، حيث كانت خطواتي الأخيرة نحو الدرجة العلمية تترسّخ. تعرّفتُ إليهما عبر والدتهما الفاضلة، التي طلبتْ منهما مساعدتي في تأمين سكنٍ لي ولابنتي، وما إن وصلتُ حتى وجدتُ أن كل شيءٍ مُعدٌّ بعناية، وكأنهما كانا ينتظران قدومي بقلبيهما قبل أي شيءٍ آخر.

كان يوم المناقشة يومًا يشبه العُمر بأكمله؛ طويلًا، متخمًا بالتوتر، مملوءًا بالرهبة. كنتُ أرتجف خوفًا ليس فقط من المواجهة الأكاديمية، ولكن من فكرة أنني مضطرةٌ لترك تاليا وحيدةً، إذ لم يكن مسموحًا للأطفال بحضور الجلسة. لكنّ رفيف، بروحها النقية، تكفّلت بها كأختٍ كبرى، ظلت بجانبها، تهدّئ من روعها، تملأ غيابي بحنانٍ لا يُشترى. أما رجائي، فقد كان الجندي الذي لا يُهزم، ينظّم الضيافة، يُرتّب التفاصيل، كأنه يشارك في هذا الإنجاز بروحه لا بجسده فقط.

ثلاث ساعاتٍ ونصف، كان فيها قلبي ينبض بإيقاعٍ مختلف، حتى جاء الإعلان المنتظر: اجتزتُ المناقشة بامتياز، مع تعديلاتٍ طفيفة. التفتُّ لأجد أمامي مشهدًا لا يُنسى: تاليا، ورفيف، ورجائي، يحملون باقة وردٍ طبيعية، كانت أجمل ما رأت عيناي، ليس لجمالها فقط، بل لأنها كانت تحمل في طيّاتها صدق المشاعر ونقاء الأرواح. نظرتُ إلى وجوههم، فرأيتُ الفرحة التي لم أرها حتى في مرآتي، سمعتُ صوت رفيف يهمس: “الحمد لله، ألف مبارك”، بينما كان رجائي يوثّق اللحظة، مرددًا بصوته الممتلئ بالبهجة: “الحمد لله، ألف مبارك”.

حينها فقط، فهمتُ المعنى الحقيقي للأثر، أدركتُ أن أعظم ما يتركه الإنسان خلفه ليس المال، ولا الشهادات، ولا الإنجازات المجرّدة، بل وقته، دعمه، حضوره الصادق في لحظاتٍ يحتاجه فيها الآخرون. لن أنسى رجائي ورفيف، لن أنسى شهامتهما، كرمهما، ولن أنسى الأمان الذي منحاني إياه في لحظةٍ كنتُ فيها بحاجةٍ إلى سند. لن أنسى دعوات أمي التي كانت تسبقني كالنور، ولا أصوات إخوتي التي حملتني من بعيد، ولا الرسائل التي كانت تملأ روحي طمأنينة.

إنّ الحياة تمضي، والأيام تتلاشى، لكن هناك لحظاتٌ تبقى خالدة، تضيء لنا الطريق كلّما أظلمت الدنيا من حولنا، وهناك أناسٌ يمرّون في حياتنا ليغيّروا مفهومنا عنها، ليعيدوا إلينا الإيمان بأنّ الخير ما زال موجودًا، وأنّ الإنسان، في نهاية المطاف، ليس سوى أثرٍ يمضي، لكنّ بعض الآثار لا تُمحى… بل تزداد إشراقًا كلّما مرّ الزمان.

شاهد أيضاً

فريق المحامين الدولي يقدم شكوى جديدة ضد انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربية ويحاط جامعة الدول العربية علما

فريق المحامين الدولي يقدم شكوى جديدة ضد انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربية ويحاط جامعة الدول العربية علما

شفا – كشف مصدر مسؤول في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، طلب عدم الكشف …