التعليم في خطر ، واقع مرير وآفاق الحلول ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
لا تزال صرخة “التعليم في خطر” تطرق الأذهان وتجلجل في آذان الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة، إذ يعاني هذا القطاع الحيوي من تهديدات وجودية تعصف بأركانه، وتنهش بنيانه. فالواقع التعليمي بات يعكس صورة مأساوية لتحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة. التعليم، الذي كان وسيظل السبيل الأوحد لبناء الأوطان والارتقاء بالمجتمعات، يواجه اليوم عوائق قاسية تهدد جوهره ومضمونه، وتلقي بظلالها على مستقبل أجيال بأكملها.
التعليم الفلسطيني بين مطرقة الاحتلال وسندان المعاناة
الشعب الفلسطيني يواجه تحديات استثنائية ترتبط بالاحتلال الإسرائيلي وما يخلفه من هجمة شرسة تستهدف كل جوانب الحياة. فالطالب الفلسطيني يتعرض يوميًا لانتهاكات مباشرة وغير مباشرة تؤثر على مسيرته التعليمية. لا يوجد بيت فلسطيني إلا وقد أصيب بجرح غائر، سواء بفقد الأحبة أو المنازل، ما يترك أثراً عميقاً في نفسيات الطلاب وأدائهم الأكاديمي.
الاحتلال لم يكتفِ بالتضييق على الفلسطينيين ماديًا ونفسيًا، بل عمد إلى تعطيل العملية التعليمية عبر الإغلاقات المتكررة، اقتحام المدارس، تدمير الجامعات، تحويل المباني التعليمية إلى أنقاض، وحتى إجبار النظام التعليمي على اللجوء إلى التعليم الإلكتروني تحت ظروف غير مهيأة، ما أضاف عبئًا جديدًا على كاهل الطلاب والمعلمين على حد سواء.
المعلم الفلسطيني كذلك لم يسلم من هذه المأساة، إذ يعاني من قلة الرواتب التي لا تكفي لتلبية احتياجاته الأساسية، فضلاً عن الضغط النفسي الناجم عن مسؤوليات متراكمة تبدأ بمواجهة الاحتلال عند الحواجز وتستمر حتى إنهاء المناهج في ظروف استثنائية مليئة بالتحديات. هذا كله جعل التعليم الفلسطيني يقف عند مفترق طرق خطير.
إشكاليات التعليم في المنطقة العربية
أما في المنطقة العربية عامة، فالتعليم يواجه أزمات مركبة تشمل الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، والافتقار إلى الرؤية المستقبلية التي تواكب التحولات التكنولوجية والثقافية. المدارس والجامعات العربية تعاني من ضعف في التمويل، ورداءة في البنية التحتية، وعجز عن توفير بيئة تعليمية صحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المناهج التقليدية التي تفتقر إلى التجديد والإبداع تشكل عائقًا أمام تطور التعليم، إذ تغفل عن تعزيز التفكير النقدي، وتحصر الطلاب في إطار الحفظ والتلقين.
حلول مقترحة لاستنهاض التعليم
إن إصلاح التعليم لا يحدث بين عشية وضحاها، ولكنه بحاجة إلى رؤية شاملة وخطط استراتيجية تترجم إلى خطوات تنفيذية ملموسة. ومن هنا، يمكن طرح مجموعة من الحلول الأكاديمية والبحثية التي تساهم في إنقاذ التعليم في فلسطين والمنطقة العربية:
- إعادة هيكلة النظام التعليمي:
وضع مناهج تعليمية متطورة تعزز الإبداع والتفكير النقدي، وتأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية والاجتماعية للشعوب العربية. يجب التركيز على التعليم التفاعلي واستخدام التكنولوجيا كأداة داعمة وليس كبديل. - تعزيز التعليم الطارئ في فلسطين:
إنشاء منظومة تعليمية للطوارئ تستهدف تعويض الطلاب عن الفاقد التعليمي الناتج عن الإغلاقات والاعتداءات. يمكن أن تشمل هذه المنظومة برامج مكثفة للدعم النفسي والاجتماعي، إلى جانب الدروس التعويضية. - تحسين وضع المعلمين:
لا بد من تحسين رواتب المعلمين وتخفيف الأعباء الإدارية الملقاة على عاتقهم، مع توفير تدريبات مهنية مستمرة تواكب تطورات العصر. يجب إنشاء صندوق دعم للمعلم الفلسطيني لتلبية احتياجاته الأساسية ودعمه نفسيًا وماديًا. - استثمار التكنولوجيا في التعليم:
في ظل التحديات الراهنة، ينبغي تطوير منصات تعليم إلكترونية مهيأة تعمل في ظل الظروف الاستثنائية. يجب أن تكون هذه المنصات مدعومة بمحتوى تعليمي متطور ومتعدد الوسائط لتسهيل الفهم والاستيعاب. - تعزيز التعاون الدولي:
السعي إلى شراكات مع المؤسسات الدولية والمنظمات التعليمية لدعم التعليم الفلسطيني ماديًا وفنيًا، وتوفير منح دراسية للطلاب والمعلمين لتعزيز قدراتهم. - إطلاق مبادرات مجتمعية:
تعبئة المجتمع المحلي لدعم التعليم من خلال إطلاق مبادرات مجتمعية تستهدف توفير الموارد التعليمية، وتعزيز دور الأهالي في العملية التعليمية، وخلق بيئة محفزة للتعلم.
إن التعليم هو القاطرة التي تقود المجتمعات نحو النهوض والازدهار، والتهاون في إصلاحه يعني القبول بالجمود والانهيار. ما يمر به الشعب الفلسطيني من أزمات متراكمة بسبب الاحتلال، وما تعانيه المنطقة العربية من تحديات تعليمية، يتطلب إرادة صلبة ورؤية طموحة تعيد للتعليم مكانته كأداة للتحرر من الجهل والتبعية.
“التعليم… التعليم… التعليم”، بهذه الكلمات البسيطة المعبرة، يمكن أن نلخص معركتنا الكبرى. إنها معركة المصير، معركة بناء الإنسان العربي الحر والمبدع، الذي يستطيع أن يواجه التحديات ويصنع مستقبله بنفسه. فما أحوجنا اليوم إلى نهضة تعليمية حقيقية تعيد للأمة مجدها، وللإنسان الفلسطيني الأمل بغدٍ أفضل.