التعليم والتلقين و التلقيم ، بقلم : د. فواز عقل
حدث في هذا العصر، تحول جذري في اكتساب المعرفة و فهمها و تفسيرها و هنا تكمن أزمة التعليم في المجتمعات المتخلفة في اعتمادها على أسلوب التلقين و التلقيم و ثلاثة الحظ و التذكر و الاسترجاع، هذا الأسلوب القائم على طرق ملقن و هو المعلم و طرق متلقي و هو الطالب، أي ملء عقول الطلاب بمعلومات أفرغت من محتواها و الذي نتج عنها تطبيع الطالب و تطويعه لقبول فكرة التعليم من أجل الحفظ و التذكر والاسترجاع و عدم التفكير في المعلومة و استنساخ طلبة متشابهين و متقاربين لأن التعليم الذي لا يقوم على وضوح الأهداف و لا يقوم على مبدأ معالجة مشكلات المجتمع هو تعليم عقيم ينتج طلبة معتقلين في تفكيرهم.
التلقين:
هو عدو العقل، عدو الفلسفة التي تقوم على التساؤل و البحث و الاكتشاف/يخرج أجيال مقلدة/التلقيم يبطل العقل/وسيلة قمع و نمط تعليمي تسلطي من قبل المعلم/هو تعليم في اتجاه واحد و هو وسيلة لتدجين العقل/و يقوم على القهر و سيطرة المتعلم/يرمز إلى فقدان الإرادة الفردية و أن كل شخص مقيد برؤية و قوالب معرفية فرضها عليه شخص آخر هو المعلم/تعبير عن الجهل الموروث المتراكم عبر الأجيال/قبول المعلومة دون تمحيص/أداة و وسيلة للسيطرة الفكرية و التحكم بالفكر و عدم القدرة على التفكير النقدي و الاستقلال الذاتي/يؤدي إلى قبول الأفكار السائدة دون أي نقد
و في هذا العصر تحول التلقين من المعلم إلى الآلة التي لا روح فيها و لا حوار ولا جدال ولا إقناع ولا مناقشة و لا تراعي الجوانب الإنسانية.
و في هذا العصر لسنا بحاجة إلى علماء يعصرون أذهانهم للخروج بفكرة جديدة لأنه أصبح الوصول للمعلومة من خلال الذكاء الاصطناعي أسرع، حيث يمكن أن يلخص أي شيء و يرسله للقارئ في كلمات موجزة محصورة في وقت قصير دون معاناة وتقديم الأفكار الرئيسية دون حوار و نقاش.
نتائج التعليم التلقيني :
يركز على نقل المعلومة/غياب التفكير الإبداعي والنقدي/ضعف التفاعل والمشاركة/عدم مراعاة أنماط التعلم/انخفاض الدافعية/سيطرة الروتين الصفي مما يؤدي إلى الملل/غياب التطبيق العملي/ضعف الاحتفاظ بالمعلومة/نسيان ما تعلمه الطالب بسرعة/المعلم يتكلم طول الوقت/الضغط النفسي على الطالب/سيطرة الحفظ و التذكر و استرجاع المعلومة/التركيز على إنهاء الكتاب من الألف إلى الياء أي نقل المحتوى من الكتاب إلى الطالب/عدم الخروج عن الكتاب/قلة النشاطات الصفية/كثرة الواجبات البيتية يؤدي إلى ترويض و تدجين العقل/قتل مهارة التعلم الذاتي/عدم ربط التعليم باحتياجات الطالب/أسئلة الامتحان تتطلب الحفظ و التذكر واسترجاع المعلومة
تحولات تربوية في هذا العصر :
تحول من نقل المعرفة إلى بناء المعرفة/التعليم إلى التعلم/من التلقين إلى المشاركة/من توحيد التعليم إلى تفريد التعليم/من تعليم عشرة مواضيع بطريقة واحدة إلى تعليم موضوع واحد بعشرة طرق مختلفة/ من بيئة صفية قهرية يسودها الروتين إلى بيئة جذابة شيقة ممتعة آمنة.
من Spoon feeding إلى Independent Learning
من Push Approach إلى Pull Approach
من Top-Down Approach إلى Bottom-Up Approach (أي من الطالب إلى المعلم)
أي تعليم نريد؟
تعليم يقدح شرارة الإبداع/يزود الطالب بمهارات العصر الحياتية الأكاديمية التواصلية اللغوية/يقوم على التساؤل و الحوار و الإقناع لأن أول معركة في التعليم هو السؤال الذي يتجاوز احتكار المعرفة/تعليم يحترم العقل/تعليم يخاطب العقل/تعليم يطلق العنان لقدرات الطالب/تعليم يوقظ عقل الطالب/تعليم يفتح نوافذ أمام الطالب/تعليم لا يضع أسوار حول عقل الطالب/تعليم يحرر عقل الطالب مما لحق به من شوائب و خرافات/تعليم يرسخ التعاون/تعليم يربي أولا/تعليم يخلصنا من أصنام العقل كما ذكرها فرانسيس بيكون و هي صنم القبيلة الذي يقوم على الانحياز و التأييد، أصنام الكهف يشبهها بالسجن و الجمود و الإعجاب و التعصب للرأي،أصنام السوق ،قبول الأفكار و التسليم فيها، أصنام المسرح-مقيدة بالخرافات و الأساطير.
أي معلم نريد؟
و أقول: أيها المعلم، إذا كنت تريد إعداد الطلاب للمستقبل لا تتبع طريقة الأمس في التعليم والتعلم اليوم، حاول أن تكون مبدعا ومبتكرا بناء.
و أقول: أيها المعلم،إن الطلاب لا يستوعبوا بألف ساعة من المحاضرات شيئا لم يعيشوه بأنفسهم.
و أيها المعلم، لا تتقيد بالكتاب من الألف إلى الياء، لأن الكتاب الذي لا يناقش يفقد قيمته.
نريد معلم لا يكون نسخة لأحد/معلم يعتبر الطالب كشريك/معلم يكتشف مواهب الطلاب و يطورها و يوجهها و ينميها/معلم يترك بصمة وأثر إيجابي عند الطلاب/معلم يوقظ عقل الطلاب/معلم لا يكون معلم طول الوقت/معلم لا يكون هدفه من التعليم هو القيام بمهام الوظيفة/معلم قادر على تسويق الموضوع الذي يدرسه/معلم قادر على جذب اهتمام الطلاب/معلم يعلم موضوع واحد بعشرة طرق مختلفة/معلم يربط المادة التعليمية بحياة الطالب/معلم يربي اولا و يعلم ثانيا/معلم قدوة/معلم مواكب متجدد/معلم يرى في التعليم وسيلة ويرى في كل طالب إنسانا يستحق الاهتمام و الرعاية و هذا هو المعلم الناجح.
و أقول للمعلمين: إن مهنتكم ليست ورقة أو شهادة تحملها و تعلقها على الحائط و إنما هي أمة تحيونها ، و يقول جبران خليل جبران : المعلم الحقيقي هو الذي يستخدم نفسه كجسر يعبر عليه الطلاب ثم يدمر الجسر ويشجعهم على بناء جسور هم.
أي طالب نريد؟
و أقول: أيها الطالب، اقرأ، اقرأ ، كي لا تناقض و تضحض أو تصدق أو تأخذ أمرا مفروغا منه و لكن لتفكر و تتأمل في النهاية.
و أقول أن طالب اليوم لم يعد نفس الطالب الذي اعتدنا عليه من حيث الاهتمام و القدرات و الأفكار
طالب يحب المعرفة/يملك مهارات العصر/لا يتعصب للرأي الواحد و يحترم الآخر/طالب متزن في أفعاله و تفكيره وسلوكه/طالب منتمي لمجتمعه/طالب يحافظ على البيئة/طالب واثق من نفسه بدون غرور/طالب متجدد قادر على المنافسة و الحوار و الإقناع/طالب قادر أن يقول لا و أن يستعمل عقله و يبحث عن الحقيقة/طالب لا يردد ما يسمعه من أخبار وأقوال مضللة بدون تفكير و تمحيص.
و في هذا العصر من غير المقبول أن تسعى المدارس و المؤسسات التعليمية أن يحصل طلابها على علامات مرتفعة و شهادات عالية بل المتوقع منها أن تساهم في بناء شخصية الطالب المتكاملة.
و سأورد هنا بعض المقولات و الحكم و التوصيات و الأشعار من خبراء مختصين:
حيث يقول الإمام محمد عبده: مستقبل أي أمة يكون استعدادها لمواجهة العصر بما يناسبه.
يقول الإمام الغزالي : لو علم المعلم جميع طلابه بنفس الطريقة لأمات قلوبهم.
و يقول أيضا: غايات التربية مراعاة استعداد الطفل و طبعه و أن يعمل المعلم بعمله.
ابن خلدون يقول : إن قهر المعلم للطالب يلغي معنى الإنسانية
ويقول السكاكيني الذي نادى بتربية تقوم على إعزاز التلميذ و ليس إذلاله
أما الشافعي كان يوصي طلابه : إذا عرضت عليكم أمرا لا تقبله عقولكم فارفضوه و يقول أيضا: كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة
و يقول الفراهيدي : أكثر العلم تعلم و أقلل منه لتحفظ
و يقول شمس الدين التبريزي : لا تنام بنفس العقل الذي استيقظت به
و يقول أيضا : لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم
و يقول جون ديوي : إذا علمنا طلاب اليوم بأساليب الأمس فسنسرق منهم مستقبلهم و يقول أيضا أن التعليم الحقيقي يحدث عندما تكون الإجابة غير معروفة
و يقول نيتشيه الألماني : إن التربية هي أداة الدولة للسيطرة و القمع و ترويض الإنسان و تشويه وعي الإنسان و تلغي ذاته.
و يقول ابن رشد الذي دعا إلى دراسة العلوم و الاستفادة من إنجازات الفكر بصرف النظر عن مصدرها و يقول أيضا: التعليم ينبغي أن يقود الفرد من الظلمات إلى النور
و يقول مصطفى حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي أن العلم هو أساس التخلف لأنه قائم على التلقيم و قهر المعلم تسلط المعلم.
و يقول ألبرت آينشتاين لا يمكن حل مشاكل اليوم بعقلية الأمس.
و يتحدث كل من ارسطو و افلاطون و جان جاك روسو عن الخطاب التربوي و قالوا أن الخطاب التربوي مجموعة من النشاطات التنفيذية التي تهدف إلى بناء الإنسان.
و أقول: أن الطالب لا يتعلم إذا دخل غرفة الصف و جلس على كرسي و استمع للمعلم و دون الملاحظات.
و أقول: من بلغ الخمسين من العمر و يرى الأمور كما كان يراها في الثلاثين من عمره فقد أضاع عشرين سنة من عمره وعمر المجتمع.
و أقول: أن المدرسة لن تكون مكان للتعلم إلا إذا علمت الطالب أن يقول لا و أن يستعمل عقله و يبحث عن الحقيقة، لأن مدارس اليوم كما يصفها جبران خليل جبران تلقن ولا تعلم، تعلم ولا تربي، و إن دور المدرسة أكبر من أن تحكم على الطالب من خلال ورقة و قلم.
أما باولو فريرو فيقول أن المدرسة هي شكل يذوب فيه الفرد في إطار سلطة المعلم لأن المعلم هو السبيل الوحيد للوصول للمعلومة و يرى أن التعليم التلقيني هو تعليم بنكي من حيث المحتوى و قمعي من حيث الشكل ، أما ميشيل فوكييه الفرنسي فيقول أن الطالب يرى المدرسة كسجن و المعلم كسجان و الطالب كسجين.
و يقول ادوار سعيد علينا أن نتحرر من القيود التي تطوق عقولنا و التي صنعناها بأنفسنا حتى يتسنى لنا أن ننظر إلى بقية العالم و نتعامل معهم كأنداد
أما علي الوردي فيقول إن الذي لا يفارق بيته الذي نشأ فيه ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم تفكيره ومعتقداته ولا يتفاعل مع الآخرين، لا تنتظر منه أن يكون محايدا أو يخترع شيئا جديدا.
أما جيني فولبرايت تقول: إذا كان الهدف من التعليم هو تسجيل درجات جيدة في الامتحان و الحصول على شهادة فقط فقد فقدنا البصر عن السبب الحقيقي للتعليم لأن التعليم للحياة و ليس للامتحانات.
و يقول البعض أن التعليم الفاشل الذي يخلق أجيالا تستطيع القراءة و الكتابة و لكنها لا تستطيع التفكير،لأن نصف العلم أخطر من الجهل.
العلم لا يحقن في العقل/العلم في الصدور وليس في السطور
و أقول في هذا العصر، ثق بأنك إذا لم تأخذ الكتاب بيدك و تقرأه بعينك و تدبره بعقلك و تستوعبه بروحك فلن يدخل في قلبك.
في هذا العصر هناك ضرورة ملحة لتبني استراتيجيات وطرق تدريس متنوعة محفزة ليصل الطالب إلى تحصيل علمي أعلى وهنا يحتاج المعلم إلى قلب الروتين التقليدي رأسا على عقب حتى يحول غرفة الصف إلى مركز إبداع و يحقق قاعدة 10 20 70 في التعليم و هذه الأرقام تشير إلى أن الطلاب يكتسبون 10% من خلال التلقين ، و 20% من خلال الزملاء و التفاعل و 70% من خلال التجربة و الممارسة، حيث يكون دور المعلم دور إشرافي 90% بدل الاكتفاء ب 10% من خلال التلقين.
أحد أهداف الأنظمة التعليمية في القرن الواحد والعشرين هو إحداث تغيير في المناخات الصفية والمدرسية و استيعاب الإبداع و الإنجاز و تزويد الطلاب بالأدوات اللازمة ومهارات العصر،و لا بد من تبني أساليب أكثر تحفيزا و مرونة و تنوعا.
و في هذا العصر،أقول: التعلم منذ القدم عملية ممتعة تتسم بالتنوع و التعددية، و في هذا العصر، رغم كثرة النظريات عن التعليم و الآراء التربوية لكثير من المربين لكن لا تستطيع أي منها الادعاء بأنها تستطيع و بشكل منفرد إنتاج المعرفة الأساسية اللازمة للتعلم أو التعليم.
و أردد هنا بعض الأشعار :
مالي أرى التعليم أصبح عاجزا على أن يصح في النفوس مكسرا
و لو أن أهل العلم صانوه و صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
إذا خلا المرء من فهم و معرفة ظلمت نفسك أن تدعوه إنسانا
آفة العلم أن الناس كلهم كل يرى أنه في العلم كالجبل
ويقول شاعر آخر:
كل من يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
و أقول، نحن التربويون المحاورون، أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة ولا ننتظرها لأن الأكاديمي هو من يكون ملزما بأن يتحدث عندما يصمت الجميع و يلتزم الصمت عندما يتحدث الجميع.
- – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم و التعلم