طمّون ، حكاية وطن وصمود لا يُهزم ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في قلب جبال فلسطين، وفي حضن الطبيعة التي تحتضن التاريخ وتبوح بأسراره، تنبض بلدة طمون كقلبٍ وافر العطاء، يروي قصص البطولة والصمود. طمون ليست مجرد بلدة صغيرة جنوب شرق طوباس؛ إنها أسطورة محفورة في الذاكرة الفلسطينية، أسطورة تجسد الحكاية المستمرة عن أرض تعشق الحياة رغم كل محاولات الموت.
أرض تنبض بالحياة رغم الجراح
طمون ليست مجرد جغرافيا تمتد بين الصخور والوديان، بل هي قصة حب بين الأرض والإنسان. في كل زاوية منها، تنبت حكاية؛ هنا، سقط شهيد، وهناك، وُلد حلم. أزهار الدحنون الحمراء، التي تزين سهولها، ليست إلا مرآة للدماء الطاهرة التي روت تربتها. وكأنّ هذه الأرض تأبى إلا أن تبقى شاهدة على تضحيات أبنائها، معلنةً أنّ كل قطرة دم تُسفك فيها تُنبت روحًا جديدة تستمر في النضال.
عندما تسير في شوارع طمون القديمة، تشعر بأنك تخطو على تاريخ حيّ، وكأنّ الجبال الشامخة تروي لك أسرار الثوار الذين احتموا بها، وحكايات الشهداء الذين اختاروا الموت بشرف على أن يعيشوا حياة الذل. هناك في محميتها الوعرة، تسمع نداءات الأجداد، وترى بصمات أبنائها الذين صنعوا المجد بعرقهم ودمائهم.
طمون… حيث تُولد القصص وتموت الأحلام
في صباح يوم حزين، وبينما كانت الشمس تلامس بيوت طمون الوادعة، اخترقت السماء طائرات الاحتلال المسيرة، لتحمل معها الموت والخراب. أصوات الأطفال الذين كانوا يلعبون في الحيّ امتزجت بصوت القذائف، لتحول ضحكاتهم إلى صراخ، وحياتهم إلى ذكرى.
رضا علي بشارات، الطفل الوحيد لوالديه، كان يحمل براءةً تجسد حلم الحياة. كان يلعب بجوار منزله، ينتظر أن يعود إلى أمه التي كانت تعد له طعام الغداء. ولكن الاحتلال، الذي لا يعرف الرحمة، اختطفه في لحظة، ليعود إلى حضن أمه محمولًا على الأكتاف، ملفوفًا بالكفن الأبيض.
أما حمزة عمار بشارات، الطفل الطموح ذو العشر سنوات، فقد كان يحلم بأن يصبح طبيبًا ليعالج جروح أهله ووطنه. حمزة، الذي حصل في آخر امتحاناته على المرتبة الأولى، لم يسعفه القدر ليحقق أحلامه. قذيفة غادرة اختطفت روحه، ودفنت معه أحلامه البريئة.
وآدم خير الدين بشارات، الشاب الذي عاد لتوه من أداء مناسك العمرة، حمل معه نقاء الروح وسلام القلب. لكنه لم يعلم أن الموت ينتظره في وطنه، وأن رحلته الأخيرة لن تكون بين أهله، بل بين الملائكة، تاركًا وراءه قصة شاب عشق الحياة والإيمان.
طمون… موطن الكرامة والصمود
القذائف التي استهدفت رضا وحمزة وآدم لم تقتلهم فقط، بل قتلت أحلامًا، وأشعلت جرحًا جديدًا في خاصرة الوطن. لكنها في الوقت نفسه، أشعلت شعلة الصمود في قلوب أهل طمون. تلك البلدة، التي تعانق الطبيعة وتحتضن الجبال، ترفض أن تنحني أمام جبروت الاحتلال.
طمون، التي احتضنت في ثراها أبطالًا مثل أبو جلدة، الثائر الذي تحدى الاحتلال، لا تزال اليوم تنجب أجيالًا تحمل الراية وتواصل المسير. في جبالها الشامخة وسهولها الخصبة، تجد رمزًا للكرامة التي لا تُشترى، والصمود الذي لا يُقهر.
بين التاريخ والحاضر… طمون تبقى شاهدة
طمون ليست مجرد بلدة؛ إنها ذاكرة وطن، وشاهد حيّ على جرائم الاحتلال. في كل بيت من بيوتها، وفي كل حجر من حجارتها، تجد قصة تروي حكاية شعب لا يعرف الاستسلام. صوت الأطفال الذين غادرونا، وأحلام الشباب التي دفنت، سيبقى يتردد في أرجاء الوطن، ليذكرنا أن فلسطين، بكل شبر منها، تستحق الحياة.
اليوم، نقف أمام هذه المأساة، لا لننعي فقط، بل لنجدد العهد مع الشهداء. رضا، حمزة، وآدم… أحياء في قلوبنا. أرواحهم تزهر في سماء فلسطين، وكلماتهم تدعونا للصمود والثبات.
طمون، أنتِ الحكاية التي لا تنتهي، والجبل الذي لا ينحني. فيكِ تُكتب قصص البطولة، ومنكِ نتعلم أن الحياة لا تهزمها قذائف الاحتلال، وأن الشهداء الذين يرتقون بأرواحهم، يبقون أحياء في ذاكرة الوطن، ينيرون طريق الحرية للأجيال القادمة.