المطبخ الفلسطيني، حكاية صمود في مواجهة التهويد الإسرائيلي ، بقلم : د. سرمد فوزي التايه
يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: (من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية)، وأرض الحكاية زاخر ومُكتنز بكل المكونات والوقائع والمُعطيات التي تُؤكد أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه، وعلى ثراها، وبين جنباتها رغم كيد الكائدين وسرقة السارقين وتدليس المُدلِّسين.
يمتاز الشعب الفلسطيني كما شعوب الأرض قاطبةً بخصائص تُميّزه عن غيره من المجتمعات المُمتدة على طول الأرض وعرضها، فترى هذه الميزات تُضفي سمات وأحوال مُتباينة ومُتعددة تعمل على إبراز هويته الوطنية وشخصيته الفريدة ورفعها عالياً دون مُنازع أو مُتربصٍ أو مُشكِّك؛ إذ يمتاز الانسان الفلسطيني المنغرس في دياره أو ذلك الذي يربض في أرض الشتات والمهجر التي يقطنها بلهجته، وزيِّه ولباسه المُميز، وبتقاليده وعاداته وقيمه الناصعة البياض، وبثقافته التي لا تشوبها شائبه ولا يُعكِّر صفوها سناج ولا هباء؛ فتراه يحفظ ويحتفظ بتلك الطباع والطبائع الفريدة ذات الوسم التليد مُفاخراً بها، وجاهداً بإعلاء شأنها، ومحافظاً عليها؛ لنقلها كإرثٍ خالدٍ مُخلَّدٍ إلى الأجيال اللاحقة كما ينقل صفاته الجسدية والبيولوجية من خلال جيناته الموروثة.
وكشكل من أشكال التراث الذي يتم تناقله وتوارثه بكل فخر واعتزاز من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى آخر، ما كان من اللغة العربية الأصيلة بلهجاتها الفلسطينية المُتفرعة والمُتنوعة حسب المناطق الجغرافية المُتباينة الضاربة بعُمق التاريخ والجغرافيا الفلسطينية الأصيلة، ناهيك عن الأغاني الشعبية المُتداولة والمُتناقلة على ألسُن المُجيدين والحافظين لها، وغير مُتناسين الملابس والأواني والأثاث والأعمال التي يحوزها ويمارس حياته من خلالها وعلى رأسها بالطبع الطعام الموروث على شكل أكلاتٍ شعبيةٍ يُفتخر بها ويُعتز بصنعها والتي تعكس وتُبرز الوجه الفلسطيني الأشم الواضح المعالم.
تُعتبر المأكولات الشعبية الفلسطينية إرثاً وتراثاً تاريخياً ضمن مُكوِّنات التراث الشعبي الفلسطيني الرئيسية التي اكتنزها وحاز عليها الفلسطيني على مرّ العصور المُمتدة من فجر التاريخ بعد أن توارثها من آبائه وأجداده وأجداد أجداه عبر الأجيال المُتلاحقة وقبل أن تقوم قائمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وقبل أن تُكتب شهادة ميلادها المُزيفة في نكبة فلسطين المشؤومة سنة 1948 والتي كلَّلتها بمحاولات القرصنة، والاستيلاء، والاغتصاب، والاستحواذ، والتهويد لكل مُكوِّن من مكونات الحياة الفلسطينية البِكر؛ فلم تكتفِ تلك الدولة المارقة بسلب الأراضي من سُكانها الأصليين ومصادرتها عُنوةً وجوراً واضطهاداً، ولم تكتفِ بالسيطرة الأمنية والسياسية والاقتصادية على تلك الأرض وما فوقها وما تحتها من مياهٍ ومعادنٍ وخيراتٍ وثرواتٍ طبيعية حتى طالت تلك السرقات حياة البشر وحريتهم في العيش الرغيد بعيداً عن الأغلال والأصفاد والسجون والمعتقلات؛ فقد امتدت يده الآثمة الشعواء لسرقة التراث الشعبي الفلسطيني بكل مُكوناته وعلى رأس ذلك المطبخ الفلسطيني بمأكولاته الشعبية المعروفة وجهاراً نهاراً! والادعاء بمحض افتراء أنه تراث إسرائيلي أصيل. فراحوا يُروِّجون له وينسبونه لهم على أنه يخص دولتهم الفتية الطارئة الدخيلة! وخير دليل على ذلك، ما فعلوه سنة 2000 عندما شاركوا في المهرجان السنوي للمفتول في ايطاليا وحصلوا على المرتبة الاولى في صنع تلك الطبخة، لتقول مندوبة إسرائيل في ذلك المهرجان آنذاك أنهم فخورون بهذا الإنجاز رغم أن دولتهم لم تتجاوز عمر الستون سنة وقتئذ. ثم أُعيدت الكرَّة مرةً أخرى عندما كانت إحدى زيارات الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في ذلك الوقت لكيانهم، فقاموا بتقديم وليمة غداء له مُكوَّنة من حمص وفلافل مُدَّعين أنها مأكولات شعبية اسرائيلية نابعة من المطبخ الاسرائيلي مُعتمدين بذلك على كافة الوسائل الاعلامية المقروءة والمكتوبة التابعة لهم لترويج ذلك الحدث وذلك التدليس.
إنَّ القرصنة والسرقة الاسرائيلية المُتعمدة للمأكولات الشعبية الفلسطينية، والترويج على أنها من صنع إسرائيلي، وأنها جزء من التراث الإسرائيلي الغابر يعود لأسباب عدَّة أبرزها ما كان بسبب ضُعف وفقر وافتقار دولتهم المُصطنعة للتراث الضارب بعمق التاريخ بسبب حداثة تلك الدويلة الوليدة والتي قد يؤول عمرها إلى الصفر مقارنه بالدول والحضارات العريقة التي تمتد أعمارها وجذورها لمئات، بل لآلاف السنين. أما من الناحية الأخرى ومن منظور فلسطيني، فإن جزء من هذه الإشكالية يعود لما بات يُعانيه المجتمع الفلسطيني من قلَّة اهتمام من بعض أفراده بالمأكولات الشعبية الفلسطينية، وقلة تداولها وتناولها في المناسبات الاجتماعية والأعياد وحتى في الأيام العادية حتى وصل ببعضهم وللأسف الافتقاد لمهارات طهي تلك الوجبات لتصبح بعيدة كل البُعد عن العادات اليومية المُتداولة كما كان في الأيام السالفة والتي كانت تُعتبر جزءاً أصيلاً منها في ظل وأجواء المناسبات التي كانت تعمل على تزيين الحياة اليومية كما كان على سبيل المثال لا الحصر اعتماد طعام المناسف في الأعراس، والمسخن والقدرة والمقلوبة في العزائم والولائم، والحمص والفول والفلافل على شرف زيت الزيتون كوجبة إفطار رئيسية على المائدة الفلسطينية؛ فغدا الكثيرون من الناس وللأسف يتَّجهون للوجبات السريعة، والمطاعم ذات الواجهات العالمية كأسلوب حياة حضري وجديد وذلك لمواكبة العصر والحداثة والتطور على حد زعمهم.
وللحفاظ على هذا التراث الأصيل من الاندثار والاستحواذ والتَّغوُّل من قِبل الغول الإسرائيلي، لا بد من السير بخطى ثابتة واجراءات واثقة وصلبة في سبيل الاحتفاظ بهذا الإرث واكتنازه ليكون في مأمن من نوائب الدهر وبعيداً عن أعين وأيدي المُتلصّصين والسارقين والغاصبين؛ إذ تتمثَّل تلك الإجراءات بتوعيه الناس جميعاً بأهمية هذا الإرث وهذه الأكلات كموروث شعبي لا غنى عنه ولا بديل له خصوصاً وأن المادة التي تُصنع منه موجودة ومُتوافرة ضمن مكونات البيئة الفلسطينية النقية وأرضها الطيبة. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فلا بد من أن يتم تعليم هذا التراث في مدارسنا، وجامعاتنا، ومعاهدنا ضمن منهاج دراسي واضح لا لُبس فيه ولا غموض؛ لخلق قناعه وثقه تامة ووعي جمعي من قبل الأطفال والفتيان والشباب والشابات بأهمية هذا الموضوع وأصالته ودوره في الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتجذيرها من كافة جوانبها.
في ذات السياق، فإن هناك دوراً كبيراً لوسائل الاعلام المحلية لتسليط الضوء على هذه الزاوية المُهمة ودعمها وتقويتها، كما أنَّ هناك واجب ودور جوهري يقع على عاتق المؤسسات الثقافية الفلسطينية للحفاظ على هذا المضمون من خلال صناعة الكتب المُرتبطة والمُتعلقة بهذا المجال، ورفد المكتبات بها، وعمل المهرجانات السنوية والندوات وورش العمل لتعزيز هذا المفهوم، إضافة إلى ضرورة الاشتراك بالمسابقات الدولية والعالمية مثل ما كان بالاشتراك ذات مرة بموسوعة جينيس عندما تم عمل أكبر سدر كنافه وأكبر صحن حمص وذلك للتأكيد على أحقيَّة الفلسطيني بهذه المأكولات، وللإثبات والتأكيد للعالم أجمع أنَّ هذه المأكولات من صنع فلسطيني حصراً وبامتياز ودون مُنازع، وأننا مُستعدون للدفاع عنها وخوض الحروب لأجلها وعلى كافة الجبهات بصولاتها وجولاتها الثقافية والدبلوماسية والسياسية وغيرها من وسائل النضال مُتسلحين بمُقومات الصبر والصمود والتحدي والبقاء.