بنتهام وبيرجس وتعريف معيار الصواب والخطأ في فلسفة القانون والأدب ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد
كثيرًا ما يدَّعي أفراد أو جماعات أو حتى حكومات انتهاج منظومة أخلاقية سامية، وأن تلك المنظومة هي السبيل نحو التميُّز والإبداع. وبوضع أيٍّ من تلك الكيانات تحت الملاحظة، حتى ولو كانت عشوائية، قد يسهل فهم أن المنظومة الأخلاقية تلك ما هي إلَّا قواعد مهترئة لا تحقق الخير لا للجماعة ولا للفرد؛ فهي مجرَّد إدِّعاء كاذب وشعارات زائفة تفضي إلى تفشِّي العديد من الأمراض الاجتماعية وضياع حقوق الأفراد.
وقد يظن البعض أن القانون الوضعي هو العامل الأساسي لضمان الحفاظ على سلامة المنظومة الأخلاقية داخل المجتمعات، لكن أثبتت التجربة على مرّ العصور أن القانون دومًا يعاني من العوار، وأن حتى معاقبة المخطئ قد لا تكون رادعًا، بل السبيل لاقتراف المزيد من الشرور. ولقد أكَّد ذلك الفيلسوف الإنجليزي “جيريمي بنتهام” Jeremy Bentham عندما قال: “جميع ألوان العقاب هي أذى، والعقوبة في حد ذاتها شرّ.” ولقد برر “بنتهام” قوله هذا عندما مارس مهنة المحاماة، وكسب بكل سهولة قضية بدت وكأنها معقَّدة، لكن ثغرات القانون كانت هي السبيل للنجاح. ولهذا كان يردد أن “قوَّة المحامي تنبع من عدم حتمية القانون”، أو بالأحرى من ثغرات القانون. وفي محاولة منه لإيجاد حلول، انصبَّت فلسفة “بنتهام” على محاولته الدؤوبة لإصلاح القانون.
و”جيريمي بنتهام” Jeremy Bentham (1748-1832) هو أحد روَّاد الفكر الإنساني الذي تمتد أفكاره بقوَّة للعصر الحديث، والتي على أساسها تم تطوير منظومة الحرِّيات في العالم بأكمله، ويكفي القول بأنه رائد المنظِّرين في فلسفة القانون الأنجلو-أمريكي، وأن أفكاره هي تلك التي أرست قواعد رفاهية الفرد والمجتمع في العالم الغربي؛ فهو من دافع عن حرِّية الأفراد والاقتصاد، ونادى بفصل الكنيسة عن الدولة، وحرِّية التعبير، وحقوق المرأة ومساواتها في الحقوق مع الرجل، ونادى بحق الزوجين في الطلاق، على عكس منظومة أبدية الزواج التي ترعاها الكنيسة. بل وأنه كان من دعا إلى إلغاء العبودية وعقوبة الإعدام والعقوبة الجسدية لأي مخطئ، بما في ذلك الأطفال؛ حيث أنه وجد أن في عقوبة الأطفال جسديًا، حتى ولو من قبل الوالدين، شرور عظيمة. والغريب أيضًا أنه كان أحد أوائل المدافعين عن حقوق الحيوان.
كان يؤمن “بنتهام” بوجوب توسيع دائرة الحقوق القانونية الفردية، وكان هذا هو أساس طرحه الفلسفي الذي أطلق عليه “النفعية” Utilitarianism التي ينتهجها العالم الغربي والتي كان لها عظيم الأثر في إصلاح السجون والمدارس والقوانين الخاصة بالفقراء وكذلك البرلمان نفسه. وفلسفة النفعية تلك تقضي بتحقيق السعادة للفرد والمجتمع؛ فمن وجهة نظره أن السعادة القصوى هي معيار الصواب والخطأ، وفي ذلك اقترح تقدير الوضع الأخلاقي لأي فعل، من خلال إجراء استحدثه وأطلق عليه اسم حساب المتعة أو حساب السعادة.
ويعد “بنتهام” وأفكاره التي تنادي بحرِّيات كانت غريبة على المجتمعات حتى وقت قريب، هو أحد الفلاسفة النادرين الذين أيَّدوا فكرة “الأنانية النفسية” psychological egoism والتي تعني أن الإنسان يفعل الخير في محاولة منه لإرضاء غروره وكذلك تحقيق المتعة. والمدهش أنه أيضًا عرَّف الإغراق في فعل الخير هو ضربًا من ضروب تحقيق أقصى أنواع المتعة بطريقة هيدونية، أي ماجنة.
كانت لأفكار “بنتهام” عظيم الأثر على معاصريه وتلاميذه وكذلك على المجتمعات الأوروبية في عصره، لدرجة أن روَّاد الثورة الفرنسية استدعوه متحدِّثًا وآمنوا بأفكاره، وحاولوا تطبيقها في ناموسهم الجديد. وفي محاولة منهم لتكريمه والاعتراف بفضله على المجتمع الفرنسي منحوه الجنسية الفرنسية الشرفية.
وفيما يبدو أن فلسفة “بنتهام” نجمت من ملاحظته أن “الطبيعة البشرية تخضع تحت إمرة سيدين عظيما السطوة، ألا وهما: الألم والمتعة، اللذان ترك لهما الأمر وحدهما لتقرير ما يتوجَّب علينا القيام به، وكذلك تحديد ما الذي سوف نضَّلع به.” ويعني ذلك أن متلازمة المتعة والألم هي ما تتحكَّم في مصير البشرية، وبالتأكيد تشترك الحكومات والقوانين الوضعية وأصحاب السطوة والنفوذ في تمرير متلازمة المتعة والألم سواء بالزيادة أو بالنقصان.
ولقد تناول الكاتب والمؤلِّف الموسيقي الإنجليزي “أنتوني بيرجيس” Anthony Burgess (1917-1993) تلك المبادئ في مؤلَّفاته التي تهدف إلى الإصلاح ولكن عن طريق رصد الظواهر الخاطئة وعرضها على المجتمع لتقرير ما الذي يجب القيام به لرأب الصدع. ولقد عانى “بيرجس” نفسه من الآثار المناوئة للمتعة والألم؛ فهو يعتقد أنه مؤلِّف موسيقي، وأن الموسيقى هي عشقه الأوحد، لكن كتاباته الروائية الهزلية الساخرة هي ما أكسبه شهرة عالمية واسعة. وأكبر ألم بالنسبة له أنه بالرغم من أن جميع أعماله الموسيقية ناجحة، لكن النجاح الخالد حققته له الكتابة الروائية.
ومن المدهش أن روايته “برتقالة الساعة” The Clockwork Orange (1962) كانت أكثر أعماله نجاحًا لدرجة أنه ليس فقط تم بيعها على صعيد أوروبا وأمريكا، بل أيضًا تم تحويلها إلى فيلم سينمائي حقق نجاحًا مذهلًا، بالرغم من أنه كتبها في ثلاثة أسابيع فقط. وتتناول الرواية العديد من القضايا وعلى رأسها تغيير الصعيد الثقافي والحضاري في أوروبا في ذاك الوقت وما صاحبه من انفتاح وحرِّيات غير مسبوقة أدَّت إلى تمجيد وتعاظم “الأنانية النفسية” والهيدونية الأخلاقية والتي نجم عنها تفسخ في القيم وانحلال مجتمعي أفضى إلى ظهور عصابات من الشباب لنشر الفوضى وإنزال الآلام بالآخرين دون أدنى سبب، وذلك لتحقيق متعة السيطرة على أقدار الآخرين ولو حتى للحظات وجيزة. ويجدر الإشارة أن فكرة الرواية – كما يذكر “بيرجس” – قد استمدَّها من واقعة حقيقية؛ ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، تعرَّضت زوجته يومًا للضرب المبرح والاعتداء من قبل زمرة من الجنود الأمريكيين الشباب المتواجدين حينئذٍ في انجلترا، وأفضت تلك الواقعة إلى فقدانها للطفل التي تحمله في أحشائها. ولهذا السبب، تحكي روايته عن مجموعة من الشباب كونوا تنظيم عصابي يثير الذعر والفوضى في التساؤل الذي تطرحه الرواية هو ما إذا كان من الممكن فرض الإصلاح على الآخرين عن طريق أساليب من القهر والألم، ويعد هذا هو الدافع وراء عنوان الرواية الغريب الذي نقله “بيرجس” من لغة عامية دارجة خاصة بسكان شمال لندن. وبالنسبة لتلك اللهجة، فإن مصطلح “برتقالة الساعة” يشير إلى أي فرد عديم النفع أو الفائدة في مكان ذو أهمية كما لو كان برتقالة على ساعة، فذاك الشخص بالتأكيد يلفت الأنظار بشكله المختلف اللَّامع كالبرتقالة، لكنه ليس ذو أدنى فائدة.
وتدور الرواية حول “أليكس” المراهق البالغ من العمر خمسة عشرة عامًا فقط، لكنه يمتلك تشكيل عصابي مكوَّن من مراهقين يماثلونه العمر وجميعهم يتسرَّب من المدرسة من أجل القيام بأعمال همجية عنيفة يثيرون بها الذعر في البلدة؛ وكلما زادت وتيرة الذعر، كلَّما شعروا بالفخر. وتقع الرواية في واحد وعشرين فصلًا لترصد مراحل نضج هذا المراهق حتى يبلغ الواحد والعشرين من العمر؛ سن الرُّشد. وعندما يتم الإمساك ب”أليكس” الذي لم يستطع الهروب في الوقت المناسب بعد أن اقترف جريمة عنف، تخضعه الحكومة لبرنامج تأهيل إصلاحي بعد إيداعه في السجن؛ إلَّا أن ذاك البرنامج لا يصلحه نفسيًا، بل يحوِّله إلى شخص رعديد عديم النفع، لكنه في نفس الوقت بمثابة قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في آية لحظة.
ورواية “برتقالة الساعة” التي صنِّفت كواحدة من أفضل مائة رواية تم تأليفها منذ عام 1923، والتي تدور أحداثها في المستقبل القريب في مدينة ديستوبية الخراب طابعها، ويجدر الإشارة إلى أنها ربما كانت مصدر الإلهام لمؤلِّف شخصية “الجوكر” السينمائية؛ فهي تماثلها في نقاط عديدة، وأهمها الشخصية التي تُجْبَر على الترويض بطريقة خاطئة لكي تستسلم وتخنع، لكنها تتحوَّل إلى نموذج صارخ للشرور والعنف.
وذلك يثبت صحة نظرية “جيريمي بنتهام” عندما أكَّد أن العقاب، وخاصة الخاطئ منه، فيه شر عظيم. فلا يمكن إصلاح مجتمع بمعزل عن رغبات قاطني ذاك المجتمع، أو كما يقول “بنتهام”: “لا يجدي الحديث عن مصلحة المجتمع لطالما لم يتم فهم اهتمامات الفرد”. فالإصلاح يقترن بمراعاة الحرِّيات، إلَّا أن تحقيقه يتطلَّب أيضًا مراعاة الجانب الأخلاقي من قبل كلا الطريفين، وإلَّا كانت الفوضى هي النتيجة.