ستّون عامًا على انطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة فتح ؛ تاريخ مَجبول بِالكفاح والأمل ، بقلم : محمود جودت محمود قبها
مع انبلاج فجر الفاتح من يَناير عام 1965م، أُعلن ميلاد الثورة الفلسطينية الحديثة من خلال انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، لِتُسطِّر صفحة جديدة في نِضال الشعب الفلسطيني العظيم، المُمتد مُنذ قرونٍ لِمُناهضة الظلم والاستعمار، واليوم؛ ونحن نقف على أعتاب الذكرى الستين لِهذه اللحظة المفصلية، تَبرز مَعالم التاريخ الفلسطيني بِوضوح كمَزيج فريد من التحديات المُتواصلة والآمال الراسخة.
في ظلِّ ظروفٍ قاسية وتحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي وسياسات التهجير والاستيطان، نشأت حركة “فتح” كمَشروع وطني يَسعى إلى استعادة الحق الفلسطيني المَسلوب، وجاءت الحركة استجابةً لِصيحة شعبٍ أُريد له أن يَتلاشى في زوايا النسيان؛ لكنها رفضت أن تَستكين للواقع المَفروض، ورفعت شعارها الخالد: “ثورة حتى النصر”، لِتَقود بذلك الكفاح المُسلح في بِداياتها عبر تَنفيذ عمليات نوعية، مُؤكدة أن الفلسطينيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام مُحاولات طمس هويتهم، ومن هنا؛ كان انطلاق العمل العسكري مُوازيًا لِبناء رواية سياسية تَستند إلى الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
شهدت العقود التالية تَحولات هائلة في مَسيرة “فتح” والثورة الفلسطينية، وأضحت الحركة العمود الفقري لِمُنظمة التحرير الفلسطينية، التي حملت على عاتقها تَمثيل القضية في المَحافل الدولية، وتمكنت القيادة الفلسطينية بقيادة “فتح” من إدراج القضية الفلسطينية على أجندة المُجتمع الدولي، مُستثمرة عمقها الثوري وإرثها النِّضالي، إلا أن الطريق لم يكن مُعبدًا بالورود؛ فقد واجهت الحركة تَحديات داخلية وخارجية، أبرزها: العدوان الإسرائيلي المُتواصل، والحصار السياسي والاقتصادي، إلى جانب انقسامات داخل الصف الفلسطيني نفسه، وعلى الرغم من ذلك؛ بقيت “فتح” صامدة، تتجدد مع كل نكسة لِتُواصل مَسيرة البناء الوطني.
لعل من أبرز إسهامات “فتح” أنها جعلت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان العالم، باعتبارها قضية شعب يُناضل من أجل تقرير المَصير والحرية، كما أعادت الحركة تَعريف الهوية الوطنية الفلسطينية، لِتكون رمزًا للمُقاومة والصمود، وهو ما تَجلَّى في الفن والأدب والثقافة الفلسطينية التي ازدهرت في كنف الثورة، في الوقت نفسه؛ لم تغفل الحركة عن أهمية الوحدة الوطنية كشرط أساسي لِتَحقيق الأهداف الكبرى، ومن هنا؛ دعت “فتح” إلى الحوار الداخلي وتعزيز اللحمة بين الفصائل الفلسطينية، مُتجاوزةً الخلافات الآيديولوجية لِصالح المَشروع الوطني الجامع.
اليوم؛ ونحن في العقد السَّابع لانطلاقة الثورة، تُواجه “فتح” جملة من التحديات، أبرزها: استمرار الاحتلال الإسرائيلي بِمُمارساته القمعيَّة، وتفاقم الانقسامات الداخلية، وتَعقيدات المَشهد الإقليمي والدولي، ومع ذلك؛ يبقى الأمل مَعقودًا على صمود الحركة وقدرتها على استعادة دورها الريادي في قيادة المَشروع الوطني الفلسطيني. إن استذكار مسيرة “فتح”؛ هو استذكار لِروح التَّضحية والعزيمة التي مَيَّزت الشعب الفلسطيني، ومع مُرور ستة عقود؛ يَظلّ السؤال الرئيس: كيف يُمكن ترجمة هذا الإرث النضالي إلى خطوات عملية نَحو تَحقيق الحرية والاستقلال؟
إن الذكرى الستين لانطلاقة “فتح” ليست مُجرد وقفة تأملية على الماضي؛ إنما هي فرصة للتفكير العميق في مَسارات الحاضر وآفاق المُستقبل، إنها مُناسبة عظيمة لإعادة التَّمسك بالمَبادئ التي أُسست عليها الحركة، واستنهاض كلّ الهمم لاستكمال مَشروع التَّحرر الوطني، كانت “فتح” وثورتها ولا تَزال وستبقى؛ علامة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني الجبار وتاريخ كل الشعوب المُناضلة، وشهادة حيَّة على أن الحق لا يُستجدى؛ بل يُنتزع بِعرق الجبين، وشموخ الأسرى بِصمودهم الجبار، ودماء الشهداء الأبرار.
في ظلّ هذا الإرث العظيم؛ يبقى الشعب الفلسطيني مَدفوعًا بِحلمه الذي لا يَخبو، وإيمانه الذي لا يَنكسر، بأن فجر الحرية قادم لا مَحالة، وفي هذه اللحظة التي يَتداخل فيها الماضي بالحاضر، حيث تَنبض الذكرى بِألق البطولة وروح التَّحدي، تَتَجلَّى “فتح” العظيمة؛ كَنهرٍ خالد يَنساب عبر جغرافيا الألم والتَّحدي، مُحمّلاً بآمال شعبٍ لا يَلين، ستون عامًا من التَّاريخ كُنَّا فيها ولا نزال؛ جُذورًا في أرضٍ لا تَقبل المَوت، وأجنحة تُحلق في فضاء الحلم، ستون عامًا من الصَّبر والكفاح؛ تَحمل في طياتها وصية الشهداء وحنين الأسرى، وصخب الأمل الذي لا يُخمده حصارٌ ولا يَسرقه احتلال، ستبقى فلسطين، وستبقى حركة “فتح” رغم أنف الظلم والطغيان، تُعلن بِصمودها أنَّ جذوة الحق لا تُطفأ، وأنَّ من يَزرع حُلم الحرية في أعماق الأرض، لا تَقتلعُه ريح الاحتلال ولا مكائد الأعداء مهما اشتدت.
ها هي الثورة تَهمس في آذاننا: “لا تَنسوا أن الفجر يُولد من رحم الظلام، وأن الأرض تَعرف من يَرويها بِالدماء والعرق”، وإنَّ شعبًا كهذا، وحركة كـ “فتح”، سيُعيدان يومًا للزَّيتون خُضرة السَّلام، وللتراب مَعنى الوطن.
ابن الشبيبة الفتحاوية – ابن العاصفة – د. محمود جودت قبها