إعادة الفلسفة إلى المدارس ، بقلم : د. فواز عقل
الفلسفة أكثر من مجموعة من الأفكار المعقدة ،بل هي فن التساؤل و البحث عن إجابات لأسئلة تتعلق بالنفس و الأخلاق،و هي رحلة تساؤل و اكتشاف و تدور حول أسئلة لما لا نعرف/ و هي فهم الواقع بعيدا عن الخرافات و الأساطير في هذا العصر الذي يشهد تحول جذري في طريقة اكتساب المعرفة و فهمها و تفسيرها، و هنا يطرح الفلاسفة ثلاثة أسئلة:
1-ما معنى الحياة؟ 2-كيف نعرف ما هو الصحيح؟ 3-هل هنالك حقيقة واحدة؟
الفلسفة كما يراها الفلاسفة:
الكندي يقول: الفلسفة أشرف العلوم الانسانية، و قد دمج الفلسفة بالعلم.
الاخوان الصفا، الفلسفة أولها قيمة العلوم أوسطها معرفة الحقائق و آخرها القول و العمل بما يوافق العلم.
ابن سينا ركز على العقل و النفس/و هي الحكمة و استكمال النفس الانسانية بتصور الأمور.
سقراط ،هي البحث العقلي و يقول :أنا أولد الأفكار من الطلاب كما تولد أمي الأجنة من الحوامل.
كانط هي علم القوانين و المعرفة العقلية.
فيختيه هي فن المعرفة.
جون لوك هي دراسة العقل
ديكارت هي معرفة العناصر الأساسية في كل علم.
هيجل هي معرفة الحقائق الثابتة.
إن مفهوم الفلسفة في بلادنا مشوه سلبي و إن إهمال تدريس الفلسفة في المدارس هو المسؤول عن ترويض العقل و جعله أداة طيعة و قبول الأحكام المطلقة من خلال ما يراه الآخرون، و الفلسفة تزود العقل بأدوات التفكير النقدي و تمكنه من تقييم الأفكار و العادات تفتح أمام العقل آفاق جديدة وبناء رؤية شخصية وقيم التسامح و الحوار و التأمل و التفكير قبل النقد، و المصطلح الشعبي الذي يقول بلا فلسفة يعني مطالبة الآخر أن يكون جزء من القطيع،معهم معهم،انت فصل واحنا بنلبس، و هي ضرورة وليست ترف و هي نمط فكري خاص لكل إنسان يرى من خلالها العالم و تعني أنسنة العالم و رفض كل القوالب الفكرية الجاهزة التي تجعل الإنسان حبيس أفكار مطلقة و يقول جون ستيوارت ميل :
أن أبناء الجنس البشري لا يصبحون أصحاب رؤية نبيلة عندما تكون شخصياتهم كلها موحدة إلى درجة الرتابة و الكمال.
إن الاعتقاد الخاطئ أن الفلسفة لم يعد لها أي أهمية في هذا العصر لأن كل علم استقل بذاته و أصبح له نظرياته الخاصة،فمثلا هنالك فلسفة الاقتصاد، فلسفة التربية، و أصبحت الجامعات تمنح الدكتوراه فلسفة في مواضيع مختلفة، و المفروض أن حامل شهادة دكتوراه الفلسفة في موضوع معين تمكنه من ناصية هذا الموضوع و امتلك معرفة كاملة و أصبح قادر على التنظير لهذا الموضوع و توليد أفكار جديدة فيه، هذا الاعتقاد هو نتيجة الجهل بماهية الفلسفة و قاصر لعدم فهم الفلسفة على حقيقتها لأن من خلال الفلسفة تتوسع مدارك العقل و تنمى مهارة البحث و التأمل و إثارة الأسئلة و تحمي العقل فلا يتمكن أحد أن يضع فيه ما يريد و يوجهه كما يشاء.
إن عدم إدراك قيمة الفلسفة في مجتمعاتنا يقف خلفه تجاهل أهمية العلوم الانسانية و الاجتماعية بشكل عام والذي نتج عنه
إقصاء الفلسفة من المدارس.
أهمية الفلسفة:
1-إن تجاهل الفلسفة يعني إنتاج عقل مطيع مغيب و يرى برتراند راسل أن الإنسان الذي لا يعرف قيمة الفلسفة يسير في الحياة كسجين أحكام مسبقة و يرى جون لوك أن من خلال الفلسفة تتحدد المعايير الأخلاقية و يرى ريكور الفرنسي أن من يحارب الفلسفة يحارب الإنسانية، لأن الفلسفة تحرر العقل و عندما يتحرر العقل يخرج الإنسان من القطيع، و إن غياب الفلسفة يؤدي إلى كثرة القطعان التي تتبع قائدها الذي يرعاها و يوجهها كما يشاء.
الفلسفة تولد شغف المعرفة ، الفلسفة فكر نقدي، الفلسفة هي المحرك الفكري لحياة البشر، الفلسفة عبارة عن سؤال مفتوح و تقوم على الحوار و الجدل و تفسر ما وصل إليه العلم و يرى ابن رشد أن الإنسان لا يختلف عن أي إنسان آخر بسبب الجسم و إنما بسبب النفس العملية النفسية المعرفية الإدراكية هي أساس هوية الإنسان و ليس الجسم.
و يرى برتراند راسل ان الفلسفة تستحق أن تدرس من أجل أن تجد أجوبة دقيقة على الأسئلة التي تطرحها بل بسبب قيمة الأسئلة ذاتها و إن الأسئلة الفلسفية تعمل على توسيع تصور الإنسان و تثري خيال العقل وتقلل الثقة بالأفكار التي تغلق العقل و تسد على العقل منافذ التأمل.
و أنا أرى أن لا بد من إعادة الفلسفة إلى المدارس بطريقة فاعلة جادة ليس لزيادة العبء الدراسي للطالب وليس لتوفير وظائف للمعلمين بل لأنها:
2- تنمي الحس الإنساني من خلال السيطرة على الجوانب الحيوانية للإنسان.
3- لأنها تنمي الحس النقدي و ذلك بتمكين الطالب من تحصين نفسه من الأخبار المضللة و أنصاف الحقائق و الأحكام المسبقة الجاهزة و الشائعات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لأن الفلسفة موضوع يتطلب التفكير و التركيز العميق أثناء القراءة من خلال التلخيص و التدوين الذي يساعد على فهم الأفكار الفلسفية بشكل أفضل.
و أرى أن غياب الفلسفة عن التعليم و تجاهل الفلسفة و تشويه الفلسفة و إقصاء الفلسفة بشكل مقصود وغير مقصود هي وراء المآسي والمصائب التي تمر في العالم العربي نتيجة لسيطرة ثلاثية الحفظ و التذكر و النسيان (التعليم التلقيني) الذي جعل من الطالب متلقي سلبي لا حوار لا مناقشة لا إقناع بل حفظ قوالب جاهزة و معلومات لا تسمن ولا تغني من جوع.
و يقول الشافعي لطلابه: إذا عرضت عليكم أمرا لا تقبله عقولكم فارفضوه، و أرى أن إقصاء الفلسفة هو معاداة للفكر و هي موقف يقوم على عدم الثقة بالمثقفين و المؤسسات الأكاديمية و يظهر ذلك من خلال رفض و تشكيك في آراء الخبراء و البحث الأكاديمي و النقاش الفكري و تفضيل الأفكار البسيطة الشعبية و إن معاداة الفكر النير يقف وراءها عوامل مختلفة وغالبا ما تظهر من خلال الخطاب الذي يسخر من الإنجاز الفكري و التعليم و تظهر في أوقات الأزمات الاجتماعية والسياسية حيث يتم تبسيط القضايا المعقدة إلى شعارات و إظهار المثقفين على أنهم منفصلين عن الناس و بعيدين عن الناس، مما يعرقل تطور المجتمعات و التفكير الانعزالي و التفكير الانتاجي.
و هنا أطرح أسئلة تثقل كاهلي و كاهل الكثيرين :
1- هل لا يزال للفلسفة مكان في هذا العصر؟
2- الفلسفة تعني الحكمة، هل للحكمة مكان في هذا العصر في عالم أهوج تسوده الفوضى و الحروب و الدمار و العداوة؟
3- ما هي مخاطر غياب وتجاهل الفلسفة؟
4- هل للفلسفة دور في القضايا الأخلاقية و السياسية؟
5- هل سيثير الذكاء الاصطناعي مشكلات جديدة لا حلول لها؟
6- كيف يمكن للفلسفة أن تساهم في حل مشاكل يومية؟
7- هل ادى غياب الفلسفة إلى تأجير العقول و التسليم للآخر؟
8- هل أدى تجاهل الفلسفة إلى انتشار ثقافة القطيع؟
9- ما حدود العقل البشري؟
وهنالك من يرى أن العقل كقطعة أرض يمكن استغلالها و استثمارها ، مع أن التأمل و التدبر و التعقل والتفكير ذكرت في القرآن الكريم مرات عديدة، رحم الله الشاعر الذي قال:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق
و أخيرا أقول نحن التربويون المحاورون لا نصنع فقط مستقبل الأجيال بل نصنع الأمل والإلهام في قلوب الطلاب
- – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم و التعلم