المقاومة الفلسطينية بين الأرض المحروقة وزهور المستحيل بقلم : د. عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
شكلت معركة طوفان الأقصى والعمليات العسكرية المندرجة في سياقها، بما اتسمت به من تخطيط وجرأة وابتكار موضوعا للتحليل والدراسة من قبل الخبراء العسكريين، كما غذت خيال الجماهير العربية المتعطشة لأنماط البطولة والشجاعة. وفي هذا السياق جاءت العمليات العسكرية في شمال قطاع غزة وتحديدا في مخيم جباليا يومي 19،20 تأكيدا لذلك. وسنتناول ذلك في أربعة عناوين.
أولا: العمليات: وهي ثلاثة عمليات جرت بشكل متتالي بعد منتصف شهر ديسمبر، حيث قام أحد المقاومين في العملية الأولى بطعن ضابط وثلاثة جنود من النقطة صفر، والاجهاز عليهم، واغتنام أسلحتهم. وفي الثانية تمكن مقاوم اخر من الاجهاز على قناص ومساعدة من المسافة صفر، وبعد ساعة ارتدى زي جندي إسرائيلي فجر نفسه بحزام ناسف في مجموعة من ستة جنود. وفي الثالثة تم الاجهاز على ثلاثة جنود طعنا، واغتنام سلاحهم، ثم اقتحام منزل تحصنت به قوة راجلة والاجهاز على اثنين، والاشتباك مع الاخرين من المسافة صفر.
اولا: بيئة العمليات: جرت هذه العمليات في منطقة (شمال القطاع) محاصرة بشكل شامل على مدى 88 يوما، هذه العمليات جرت في جباليا العدو مارس ويمارس في مخيم جباليا استراتيجية الأرض المحروقة، او سجادة الدمار، القائمة على حرق وسحق كل ما ينتصب على الأرض من حجر وشجر وبشر. والمفارقة ان نظرية الأرض المحروقة ابتدعها الجنرال البريطاني هربرت كتشنر، الذي قام بمسح جغرافية فلسطين ورسم خرائطها بين عامي 1874 و1977، وذلك تمهيدا للغزوة الصهيونية، وقد طبقها في حرب البوير ا1899 ــ 1902. وورثها عنه ضابط الاستخبارات العسكرية وينغيت. خلال محاولته القضاء على ثورة 1936 ــ 1939 في فلسطين، وقد تتلمذ على يديه كل جنرالات الكيان الصهيوني. وكان ونستون تشرشل قد وصفه في مذكراته بأنه “ضابط مجنون”.
ثانيا: نمط العمليات: نفذت هذه العمليات على يد افراد وليس مجموعات قتالية، وبالاعتماد على أسلحة فردية وبسيطة (خنجر ــ حزام ناسف ــ سلاح خفيف) واتخذت أسلوب الاشتباك المباشر والالتحام الجسدي بما يلغي فاصل المسافة بين الطرفين. والطعن والتفجير وإطلاق الرصاص.
ثالثا: متطلبات الاعداد: يتبدى اول عناصر الاعداد وإدارة هذه العليات، في توظيف البيئة المدمرة، والتكيف مع معطياتها، بم يناقض هدف العدو المتمثل في جعلها بيئة طاردة غير قابلة لتمركز البشر بشكل عام والمقاتلين بشك خاص. وتتلخص عملية التوظيف في الاستفادة من هذا الدمار للتخفي والاقتراب من العدو الى مسافات غير متوقعة، وذلك بالاعتماد على المعرفة السابقة بأسرار طوبوغرافيتها. ويتمثل ثاني عناصر الاعداد في الرصد الدقيق، وذلك بالاستفادة من طوبوغرافية الدمار، فعمليات الانقضاض والطعن بالخنجر تبدأ من اكتشاف الهدف ومتابعة تحركه، واختيار لحظة الانقضاض التي تخضع الى محددات، تتلخص في تحديده ومتابعته في حالة الثبات والحركة. وموقع تموضعه وهيئته في حالة الثبات، وطريقة تحركه في حالة الحركة، وطريقة سيرة، هل يسير في خط طولي ام عرضي، والمسافة بين الافراد. كذلك فان الاجهاز على قناص ومساعدة، يستدعي رصدا استثنائيا، خاصة وانه غالبا ما يتموضع في مكان مرتفع، ومحمي من ثلاث جهات، ويركز دوما على الجهة الرابعة لاقتناص فريسته.
رابعا: اعداد الافراد: هذا النمط من العمليات يحتاج الى درجة عالية من اليقظة النفسية والذهنية والبدنية. ان حافز الرغبة في المقاومة وحده، لا يكفي لكي يتمكن مقاوم واحد من طعن مجموعة من ثلاثة او أربعة افراد. سواء كانت في حالة توقف، او في حالة حركة، بشكل عرضي او طولي، وثمة مسافة تفصل بين افرادها مع اختلاف بناهم الجسدية، مع احتمال تغيير امكنتهما لحظة تعرض أحدهما للهجوم. ان انجاز هكذا مهمة يستدعي جاهزية نفسية وذهنية وبدنية متقدمة، تتم من خلال عملية بناء متواصلة، تتم من خلال التوجيه السياسي والاعداد البدني للمقاتلين. وإذا كان التوجيه السياسي يحتاج الى اذن تسمع وعين تقرأ وعقل يستوعب، فان الاعداد البدني يستدعي جسدا يتحرك في فضاء وليس جامد في مكان، إضافة الى متطلباته الأخرى. ومن خلال قراءة لغة جسد المقاتلين والفضاء الذي يتحركون فيه، كما يتبدى في عشرات الأشرطة المصورة يمكن الاستنتاج ان المقاومة قد اعدت وخططت ووضعت في اعتبارها كل المتطلبات والتقلبات.
ان مستوى أداء المقاومة بعد مرور أكثر من عام على اندلاع معركة طوفان الأقصى، بسير بنسق متصاعد وقادر على التكيف مع متغيرات الواقع الميداني، الامر الذي يدركه العدو، ويعوض العجز في مواجهة ذلك، بالانتقام من المدنيين، والامعان في استراتيجية الأرض المحروقة، التي زرعتها المقاومة الباسلة بزهور المستحيل.