تفسير مُعضلة الإرادة الحرَّة: “سبينوزا” و”ستيندال” بقلم : د. نعيمة عبد الجواد
يلاحق الإنسان على مر العصور إرادته الحرَّة؛ لكنه كلما شعر أنه قد وجدها، يصطدم بواقع مرير يكتشف فيه أن أغلال العبودية تكبِّله بواقع مرارته تفوق ما اعتقده كلَّما حاول ممارسة تلك الإرادة، مما يدفعه للرغبة في تغيير واقعه بكل الوسائل، وحينئذٍ يتحوَّل لفريسة سائغة لكل من الإرادة الحرَّة والحرِّية.
ولقد حاول الفلاسفة على مرّ العصورتفسير تلك المُعضلة، وأحدهم الفيلسوف الهولندي “باروخ سبينوزا” Baruch Spinoza (1632-1677) الذي بحث منطقه الفلسفي لتفسير العلاقة بين الإرادة الحرَّة والحرِّية. ولأجل هذا الغرض، كان يحض على أهمية فهم طبيعة الأشياء من حولنا؛ لاعتباره أن ذلك أولى درجات بلوغ الحرِّية. لكنه كان يحذَّر من أنه لا يحاول أن يجرِّم أو يكرِّم ما حولنا من موجودات، فكان يكرر: “تحذيري هو أنكم لا يجب أن تفهموا أني أعزو للطبيعة الجمال أو القبح، أو حتى النظام أو الارتباك؛ فالخيال وحده هو من يرسم علاقتنا بالأشياء، وهو نفسه الذي يصوِّرها لنا جميلة أو قبيحة، شديدة النظام أو مريعة الارتباك.” مما يعني أن خيال المرء وحالته الذهنية، أو بالأحرى ارتياحه أو انقباضه من الأشياء والمواقف هي ما تدفعه للظن بأنها إيجابية أو سلبية الأثر. ومن ثمَّ، يعتقد “سبينوزا” أنه كلما فهم المرء وحقيقة شعوره أكثر، كلما أحب وضعه كما هو دون أدنى تغيير، أو بالأحرى يمكن القول أن الإنسان حينها يصل إلى حالة من الرضا تجعله ليس فقط يتقبَّل وضعه، بل أيضًا يشعر بالسعادة والسلام الدَّاخلي. ولقد عبَّر “سبينوزا” عن ذلك بقوله: “السلام لا يعني غياب الحرب؛ فالسلام فضيلة وحالة ذهنية ونزعة للخير والثقة والعدالة.”
لقد اهتم “سبينوزا” بالحالة النفسية للإنسان، وقدَّم تشريحًا تفصيليًا لما قد يدور في خُلد المرء، فأصبحت فلسفته أقرب إلى نصائح لتحسين الحالة النفسية، مما قد يدفع الفرد للإقبال على الحياة رغم صعوبة الظروف المحيطة به. ولقد التقط النزعة التقدمية تلك الكاتب الفرنسي ” ماري-هنري بيلي” Marie-Henri Beyle (1783-1842) الذي اشتهر تحت الاسم المستعار “ستيندال” Stendhal ، وكانت رواياته أقرب إلى مدوِّنات واقعية النزعة لحقبة حرجة من التحوُّل التاريخي والسياسي في فرنسا، فلم يغرق “ستيندال” في متاهات التيَّار الرومانسي السائد في القرن التاسع عشر، بل كان أحد الروَّاد البارزين في كتابة الرواية التي تعتمد على التحليل النفسي والحوار الواقعي، ذلك اللون الأدبي الذي ظهر بشدة في القرن العشرين، وإن توافرت محاولات متفرِّقة وغير مكتملة له في بعض الأعمال الأدبية خلال القرنين السابع والثامن عشر الميلادي.
لم يكن “ستيندال” طفلًا سعيدًا، بالرغم من انتمائه للطبقة البورجوازية التي تمتد أصولها للعصر الملكي القديم قبل الثورة الفرنسية، وكان كارهًا للأوضاع السياسية والاجتماعية في عصره؛ فلقد كان يؤلمه تفشِّي الزيف والانتهازية، وتقسيم المجتمع على أسس جائرة، تضمن سيادة الطبقات الثرِّية، وتحط من قدر الضعفاء والفقراء. ولهذا، كانت أفكاره ملتبسة تجاه الحقبة النابليونية، وما تلاها من عصر إحياء الحقبة البوربونية، وكذلك الحقبة الملكية التي تبعتها. فلقد كان يبحث عن العدالة والرَّاحة النفسية. وبالرغم من خدمته في الجيش وإعجابه بشخص “نابليون بونابارت “Napoleon Bonaparte لكنه لم يشعر بالرضا إزاء ما شهده. وأثَّر في نفسه ما عاصره من غزو “نابليون” لروسيا، وكيف سحق الشتاء الروسي الجيش الفرنسي. لقد عشق “ستيندال” تدوين التاريخ في رواياته جاعلًا منه مرآه تستهدف تغيير واقعه الذي حرمه من الشعور بالسعادة، وكأنه يطبق مقولة “سبينوزا”: “إذا رغبت في تغيير الحاضر، فعليك بدراسة الماضي”.
ومن أشهر الأعمال التي ألَّفها على الإطلاق كانت رواية “الأحمر والأسود” Le Rouge et Le Noir (1830) والتي نالت شهرتها العالمية الواسعة ليس فقط بسبب أنها رواية تعتمد على التحليل النفسي والحوار الدَّاخلي العميق، بل لأنها أيضًا تدوينًا صادقًا للحقبة التي دارت فيها أحداث الرواية، والتي تناقش معاناة الفرد عند السعي وراء طموحه في خضم مجتمع يسوده الفساد والأنانية. وبالإضافة إلى ذلك، فالرواية جسَّدت نشأة فرنسا الحديثة، التي كان يمزِّقها سطوة رجال الدين، وكذلك هيمنة الطبقات الحاكمة ومواليها على مقاليد البلاد. ولذلك، فإن عنون الرواية يرنو لذاك الصراع؛ فالأحمر يشير إلى البزَّات العسكرية والأسود هو لون رداء رجال الدين. وبين قطبي المجتمع يقف أبناء الشعب حائرين؛ فالطريق الوحيد للترقي داخل المجتمع وتحقيق الرفاهية يكون من خلال الانضمام لسلك الكهنوت أو التطوُّع داخل الجيش.
بطل الرواية “جوليان سوريل” أصبح شخصية أيقونية في مجال الأدب بوجه عام، فهو ابن الطبقة الريفية الفقيرة الذي يسعى لتحقيق النجاح والثروة كي ينتقل إلى طبقة أعلى، لأن المجتمع يفرض على أمثاله المكوث في نطاق طبقة المنشأ، والوسيلة الوحيدة للفرار تكون إما بالانضمام لزمرة رجال الدين أو التطوُّع داخل الجيش النابوليوني. وبالرغ من من أن “جوليان سوريل” حلم دومًا بأن يصبح أحد أفراد الجيش، لكن على غير إرادته يدرس الدين ويتفوَّق فيه لعله ينضم لسلك الكهنوت؛ والسبب هو صعوبة التجنيد داخل الجيش، لأن ذلك يتطلَّب واسطة قوية من الطبقات شديدة الثراء.
ومن الملاحظ أنه بالرغم من أن “جوليان سوريل” يمتلك المقوِّمات الصحيحة والإرادة الحرَّة لتحقيق طموحه، لكنه كان مسلوب الحرِّية، فهو أسير لظروف مجتمعه الجائر. وبذلك يؤكِّد مفهوم “سبينوزا” عن الفارق بين الحرِّية والإرادة الحرَّة، ويدلل على ذلك بأنه “لا يوجد في العقل منطقة إرادة مطلقة أو حتى إرادة حرَّة، لكن العقل قد يصمم على رغبة شيء أو آخر؛ لسبب يحدده آخر أيضًا، وذاك الآخر له آخر يحد من رغباته، ويسري الوضع هكذا إلى ما لا نهاية.” وهذا بالضبط ما حدث ل”جوليان سوريل”؛ فالإرادة الحرَّة هي وسيلة لقبول شيء أو إنكاره، ولذلك لا يمكن تعريفها على أساس أنها رغبة؛ فالرغبات أساسها الحُرِّية.
والغريب في تلك الرواية أن البطل بكل ما يملكه من مقوِّمات شخصية وذكاء وطموح استطاع الخروج من الدائرة الجائرة لأبناء طبقته، بل أيضًا استطاع أن ينضم لسلك الكهنوت، والحياة العسكرية، وعلاوة على ذلك، يصبح جزءًا من الطبقة الارستقراطية؛ فبسبب ذكائه ومعرفته بأصول الدين، قَبِل على غير رغبته وظيفة مدرِّس خاص لأسرة ثرية داخل قريته. ومن خلال تلك الوظيفة، تم ليس فقط ترشيحه لينال حظوة الانضمام لسلك الكهنوت، بل أيضًا قبوله والتمتُّع بمميزات قلَّما يحصل عليها مُستجد. لكنه يترك مكانه في الكنيسة بسبب ما آلمه من تفشِّي الخيانة والفساد داخل أرجائها. إلَّا أن ذلك لم يحطِّم طموحه وأحلامه، بل كان السبيل للذهاب إلى باريس حيثما وقعت فتاة أرستقراطية في غرامه، فما كان من والدها إلَّا وأن رفعه لطبقة النبلاء من خلال تنصيبه ضابطًا بالجيش، وذلك أيضًا من خلال الفساد المتفشي في تلك المؤسسة التي تفتح الأبواب لمن له القدرة المالية والصلات الاجتماعية.
وكما كان رجال الدين يقفون بالمرصاد لمن يحاول الخروج من عباءتهم، فلقد تم تدمير الزيجة والزج ب”جوليان سوريل” داخل أسوار السجن ليتم إعدامه بسبب جريمة قتل لم يقترفها؛ والسبب في ذلك أحد أفراد الكنيسة. وبالرغم من أنه تم تذليل الصعاب أمام “جوليان سوريل”، وبُرِّأَت ساحته من قبل السيدة التي اتهموه بمحاولة قتلها، بل وأيضًا عملت خطيبته على شراء القضاة وضمنت له البراءة، لكن “جوليان سوريل” رفض كل هذا واختار الحرِّية التي نالها بالتعبير الصريح عمَّا يجيش بصدره تجاه مجتمعه الفاسد الذي يُشترى فيه مصائر البشر بالأموال، وأول هؤلاء كان قضاة العدل والرحمة الذين ما هم إلَّا واجهة فاسدة. ومن ثمَّ، بنفس راضية سبَّ “سوريل” القضاة، وكشف زيف مجتمعه. لم يعنيه الحكم عليه بالإعدام ظلمًا لأنه “مارس إرادته الحرة” مما حقق له الحرِّية الكاملة التي جعلت يصعد للمقصلة والابتسام والسعادة والفخر يجعل منهم تاجًا يزين به حرِّية أبدية.
لقد اقتنع “جوليان سوريل” أن السعادة تكمن في الحرِّية الكاملة لممارسة الإرادة الحرَّة، وما دون ذلك يعد عبودية تسلب أغلى ما يملكه المرء، ألا وهو “حرِّية الاختيار”.