كيف تُعيد الضغوط تشكيل الهوية النفسية: بين الانهيار والنمو؟ بقلم : هنادي طلال الدنف
كيف تُعيد الضغوط تشكيل الهوية النفسية: بين الانهيار والنمو؟
الضغوط النفسية ليست مجرد تجربة عرضية تمر بها النفس البشرية؛ بل هي ظاهرة معقدة تُعيد تشكيل معالم هويتنا، تحدد نظرتنا لأنفسنا، وترسم خطوط علاقتنا بالآخرين. من منظور علم النفس الحديث، أصبحت الضغوط محورًا أساسيًا لفهم التطور النفسي الإنساني، حيث يمكن أن تكون عاملًا محفزًا للنمو الشخصي أو سببًا مباشرًا لتآكل الهشاشة الداخلية.
الضغوط النفسية بين صقل الهوية وتفككها
الهوية النفسية ليست ثابتة، بل ديناميكية تتأثر بالعوامل المحيطة والضغوط اليومية.
فالضغوط تُشبه المطرقة التي تعمل على تشكيل المعدن، حيث يعتمد المنتج النهائي على طبيعة المعدن نفسه وكيفية التعامل مع هذه المطرقة. على المستوى الفردي، تُعيد الضغوط تشكيل هويتنا النفسية من خلال وضعنا في مواجهة مباشرة مع ذواتنا الداخلية. في حالة النمو، تتطلب الضغوط منا التفكير في قيمنا وأهدافنا، مما يعزز وعينا بذاتنا ويصقل مهاراتنا في التعامل مع الأزمات. على سبيل المثال، نجد في البيئة الفلسطينية أفرادًا يحولون الصدمات اليومية إلى قوة تُغذي الهوية الوطنية والانتماء الجماعي. أما في حالة الانهيار، فقد تؤدي الضغوط المستمرة إلى تفكيك أسس الهوية النفسية، خاصة عندما تكون الموارد النفسية والاجتماعية للفرد غير كافية. ينتج ذلك عن التراكمات العاطفية السلبية التي تُحدث اضطرابًا في مفهوم الذات، وتجعل الفرد يشعر بالضياع وعدم الاستقرار.
المرونة النفسية: بين التحدي والاستجابة
المرونة النفسية هي واحدة من المفاهيم الحديثة التي تُفسر لماذا يستطيع البعض مواجهة الضغوط وتحويلها إلى فرص، بينما ينهار آخرون تحت وطأتها. تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من المرونة لديهم قدرة أكبر على تحويل المواقف السلبية إلى فرص للتعلم والتطور. في السياق الفلسطيني، تعتبر المرونة النفسية ظاهرة بارزة، حيث نجد أن العديد من الشباب الذين يعيشون في ظل ظروف الاحتلال والتهجير يستفيدون من هذه الضغوط في تعزيز وعيهم الثقافي والوطني، مما يؤدي إلى تقوية هويتهم الفردية والجماعية على حد سواء.
لماذا تستجيب الهوية النفسية بطرق مختلفة؟
يكمن السر في طبيعة الضغوط وخصائص الفرد نفسه. هل هي مؤقتة أم مستمرة؟ وهل تأتي من مصدر خارجي كالصراعات الاجتماعية، أم من داخل النفس كالقلق الوجودي؟ وهل يملك الفرد من الموارد الشخصية مثل الدعم الاجتماعي والقدرة على التكيف ما يعينه على مواجهة التحديات؟ كما أن التاريخ النفسي للفرد يلعب دورًا محوريًا، حيث يمكن أن تُصبح الأزمات الماضية أداة لتطوير استراتيجيات مواجهة فعالة، أو جراحًا تعمق هشاشة الفرد.
كيف نحوّل الضغوط إلى فرصة لبناء الهوية؟
لتحقيق ذلك، علينا إعادة النظر في مفهومنا للضغوط. فهي ليست بالضرورة سلبية، بل يمكن أن تكون قوة دافعة للنمو. من خلال التأمل في المعنى، يرى مدرسة العلاج بالمعنى (Logotherapy) أن الأزمات تمنح الإنسان فرصة للتأمل في أهدافه، وإعادة ترتيب أولوياته. كما أن المفهوم المعروف بـ”النمو بعد الصدمة” (Post-Traumatic Growth) يشير إلى أن الضغوط قد تكون دافعًا لإعادة بناء الذات بشكل أكثر قوة وتماسكًا. ويمكن للفرد أن يتدرب على التكيف مع الضغوط عبر تقنيات العلاج المعرفي السلوكي التي تُساعد على تغيير الأفكار السلبية وتحفيز التفكير الإيجابي.
الضغوط النفسية في سياق فلسطيني فريد
في فلسطين، حيث تصبح الضغوط جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، يظهر نموذج فريد من الهوية النفسية التي تتسم بالمقاومة والصمود. فالظروف القاسية، كالصراعات المستمرة، والتهجير القسري، والخسارات المتكررة، تفرض على الفلسطينيين مواجهة دائمة مع تحديات نفسية هائلة. لكن اللافت هو قدرة الكثيرين على تحويل هذه التحديات إلى محفزات تعزز الهوية الوطنية وتُعيد صياغة الذات ضمن إطار جماعي يدعو إلى البقاء والثبات.
الخاتمة: بين الانكسار والنهوض
لا يمكننا الهروب من الضغوط النفسية، فهي جزء لا يتجزأ من وجودنا الإنساني. لكن طريقة استجابتنا لها هي التي تُحدد مسارنا، بين بناء هوية قوية مرنة قادرة على التكيف، أو هوية هشة معرضة للانهيار. في النهاية، الضغوط النفسية ليست عدوًا دائمًا؛ بل يمكن أن تكون أداة نستخدمها لنكتشف قوتنا الكامنة، ونعيد تشكيل أنفسنا وفقًا لرؤية أكثر وضوحًا وثباتًا.
- – هنادي طلال الدنف – اخصائية نفسية – غزة – فلسطين .