“الدعارة السياسية: حينما تصبح المبادئ مثل ملابس السهرة تُرتدى حسب المناسبة” ، بقلم : م. غسان جابر
في عالم السياسة، يبدو أن القواعد لا تُكتب إلا بممحاة، والمواقف تُصاغ بأقلام قابلة للمسح الفوري. ليس هناك “صديق دائم” ولا “عدو دائم”، بل هناك مصالح دائمة تتبدل وفقًا لاتجاه الرياح. اليوم، البطل المغوار يرفع شارة النصر، وغدًا يُمسك به رجال الأمن وهو يرتدي نظارات شمسية ليُخفي خيبة الخيانة. وبالمقابل، الخارج عن القانون الذي كان يُلقب بـ”رأس الفتنة” يصبح بقدرة قادر “القائد المُنقذ” الذي يُمسك بمفتاح الجنة الأرضية.
عهر الفضائيات: مصانع غسل الأدمغة وإعادة تدوير المبادئ
في هذا المسرح الكبير، تلعب قنوات العهر الفضائية دورها ببراعة فائقة. لا فرق بين “عاهرة الإعلام” و”عاهرة السياسة”، فكلاهما يتقنان تبديل الأدوار. قناة “الموضوعية المُطلقة” مثلاً، تخرج مذيعتها بحاجب نصف مرفوع، وابتسامة نصف صفراء، لتخبرنا أن “الشخص الفاسد” الذي أكل الأخضر واليابس قد أصبح الآن “رجل المرحلة” لأن الظروف تغيّرت! ربما أجرى عملية قلب مفتوح لتغيير مبادئه أو رُقيَّ على حساب ترقيع المصالح.
هذه القنوات تعمل كصالونات تجميل رديئة، تُجري “بوتوكس” للمواقف السياسية وتعيد نفخ المبادئ المتجعدة. اليوم ترى المذيع يمسح الأرض بشخصية سياسية، وغدًا يرفعها فوق السحاب، بينما يبتسم للجمهور كمن يبيع لهم حذاءً مستعملاً على أنه “ماركة أصلية”. الإعلام هنا يُشبه بائع السمك الفاسد؛ يرش عليه بعض الملح والكزبرة ليُخفي الرائحة الكريهة، ثم يقنعك بأنه طازج.
الجمهور: ضحية دوامة السيرك الإعلامي
أما الشعب، فهو مثل طفل في سيرك، يتابع الألاعيب البهلوانية السياسية ويصفق بحماس، حتى لو لم يفهم ما الذي يجري حوله. يشاهد قائد الأمس يتدحرج من منصة البطولة إلى قاع الخيانة في 24 ساعة فقط. لا ينقصه سوى “دليل استخدام” لفهم كيف يمكن أن يتحوّل الفارس إلى خائن بينما لم يتغير شيء سوى “الريموت كنترول”.
المواطن هنا كمن يركب قطارًا بلا محطة، كلما همّ بالنزول وجد نفسه في محطة جديدة باسم مختلف وشعار مختلف، لكنه القطار ذاته. يصرخ أحد الركاب: “إلى أين نحن ذاهبون؟” يجيبه المُذيع من الشاشة الصغيرة: “إلى حيث مصلحتكم، ثقوا بنا!”
السياسي المتلوّن: بطل في مسرحية “التموّه اللوني”
السياسي المحترف يُبدل مواقفه كما يُبدل لاعب كرة القدم قميصه بين الشوطين، والملفت أن الجمهور نفسه يصفق له في كل مرة. إنه أشبه بممثل في مسرحية رديئة، يتقن دور “القائد الشريف” في الصباح، ودور “الخائن العميل” في المساء، وكل ذلك بتوصية من مخرج خلف الكواليس يُسمى “المصالح العليا”.
السياسي هنا يتقن فن “التموّه اللوني” كالحرباء؛ يغيّر لونه حسب الخلفية، فإذا كانت خلفية “الوطنية” ظهر بلون العلم، وإذا كانت خلفية “الصفقات” ظهر بلون الدولار.
الإعلام: آلة لتزوير الشهادات الأخلاقية
شاشات التلفاز تحوّلت إلى ورش تزوير شهادات أخلاقية، تُمنح لكل من يدفع أو يُنفذ الأجندة المطلوبة. الإعلامي يخرج بوجه كأنه تلميذ مجتهد ليقول لك: “سقوط فلان كان نتيجة خيانته للوطن”. وفي اليوم التالي، يقول بوجهه نفسه لكن مع ربطة عنق جديدة: “عودة فلان كانت انتصارًا للوطن!” وكأن المبادئ كُتب مدرسية قديمة قابلة لإعادة التدوير.
الحل: أطفئ التلفاز وابدأ التفكير
كيف الخلاص إذًا من هذا المستنقع؟ يبدو أن الخلاص يبدأ من رمي شاشات التلفاز من النافذة واستبدالها بجرعة من التفكير النقدي. عندما نُدرك أن الإعلام هو مجرد تاجر يبيع ويشتري بالأفكار، وأن السياسة ليست سوى سوق نخاسة تُباع فيها المبادئ بأبخس الأثمان، ربما نستطيع أن نرى الصورة على حقيقتها: عالم من الدعارة السياسية، لا يخجل فيه أحد من تقبيل يد الأمس التي كان يقطعها اليوم.
إن لم تُفكر بنفسك، سيفكر لك الإعلام نيابة عنك، وسيعطيك نسخة جاهزة من الحقيقة. لكن كن حذرًا: هذه النسخة قد تكون منتهية الصلاحية أو مسروقة من متجر آخر! أطفئ التلفاز، واخرج إلى الشارع، حيث الحقيقة بلا “مكياج” ولا “إضاءة سينمائية”.
في النهاية، السياسة هي لعبة قذرة، لكن المشكلة ليست في اللعبة نفسها، بل في من يعتقد أن اللاعبين يرتدون ثياب الملائكة.
م. غسان جابر (قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)