2:06 مساءً / 11 ديسمبر، 2024
آخر الاخبار

الأبواق الإعلامية العربية المُنتفخة زمن الحروب ، بقلم : د. سرمد فوزي التايه

الأبواق الإعلامية العربية المُنتفخة زمن الحروب ، بقلم: د. سرمد فوزي التايه

الأبواق الإعلامية العربية المُنتفخة زمن الحروب ، بقلم: د. سرمد فوزي التايه


منذ أن تفتَّحت براعم الوعي العربي المُعاصر على الأحداث الغليظة والقاسية التي راحت تعصف بالمنطقة العربية برُمَّتها بشكل عام وما طال منها فلسطين المُحتلة بشكل خاص بين الفينة والأخرى على شكل حروبٍ واقتتالٍ ونزاعاتٍ مع المُستعمر والمُستوطن والمُحتل الإسرائيلي كرأس حربة يُسانده الكثير من الدول الغربية الشريكة والصديقة له وعلى رأسها الولايات المُتحدة الامريكية والمملكة المُتحدة، ليبرز ويظهر في كل مرحلة من تلك المراحل العصيبة ماكينة إعلامية عربية تراها تنتفخ بداية ثم ما تلبث إلا أن تضمحل وتخبو وتتلاشى بعد أن تكون قد زرعت مُحتوها المُتضخم في العقول العربية البسيطة التي تبحث عن حالة نصر أو شبه نصر توّاقة للعيش بأجوائها وأرجائها علَّها تنتشي لبضعة أيام أو حتى لساعاتٍ قليلةٍ على أمل أن تسترد عافيتها المنزوعة منها منذ بدايات القرن المُنصرم وتحديداً بعد الهزيمة النكراء والمُدوِّية والتي عايشتها فترة انتهاء وتقهقر حُكم الدولة العثمانية على إثر تداعيات الحرب العالمية الأولى؛ لتتوالى عليها بعدئذ النكبات والنكسات والانكسارات والهزائم.


لقد أبلت الأصوات الإعلامية العربية بلاءً حسناً في أجواء الحروب المُتعاقبة والتي كانت تنثُر وتنشُر بياناتها وتصريحاتها عبر أجهزة الراديو في ستينيات القرن المُنصرم، ثم ما لبثت أن تطوَّرت مع تطور التكنولوجيا لتركب موجة المحطات التلفازية المحلية فتنتقل سراعاً بعد ذلك وتعتلي ظهور المحطات الفضائية الإخبارية، والمواقع الإعلامية الالكترونية المكتوبة والمسموعة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي انتشرت انتشار النار في الهشيم.

هذا وقد أظهرت تلك الخطابات الإعلامية المُتفائلة فوق الحدّ المسموح به حُسن صُنعها وصنيعها خلال تلك الفترات المُمتدة والمُتتابعة في المراحل المُتلاحقة حتى تعلَّقنا بها جميعاً وبما جاء بمضمونها، وبنصوصها، وفحواها، وبريقها؛ لتغدو بمثابة النور الذي نتوق إلى رؤياه، ونرى بريقه في نهاية النفق على أملٍ منشودٍ نرنو إليه، ونعيش في ظلال أنفاسه، وتحت جُنحه.


لقد بدت أولى الصدمات والسقطات المُدوِّية للمُجتمعات العربية في براثن الإعلام والإعلاميين والتي أطاحت بها من عليائها بدايةً إبّان نكسة العام 1967 وتحديداً عندما أطلَّ الإذاعي المصري المُخضرم ” أحمد سعيد” عبر أثير صوت العرب قبل أن يستقيل من منصبه في ذات السنة على إثر تداعيات تلك الهزيمة العسكرية والإعلامية المُدوِّية! فقد راح سعيد يمتشق مايكرفونه خلال تلك الأيام الستة المشؤومة ليهبد ويزبد ويُبشِّر أبناء يعرُب قاطبةً من مُحيطهم لخليجهم أنَّه قد حان موعد الانتصار المُؤزر، وأن العرب سيرُدُّون الصاع صاعين للأبنة المُدلَّلة للولايات الأمريكية المُتَّحدة المُتمثلة بدولة إسرائيل المُحتلة وذلك جراء ما اقترفته من خطيئةٍ كبرى عندما أقدمت على احتلال جزء من فلسطين التاريخية في نكبة العام 1948، فراح ذلك الاعلامي القومي الناصري الذي رضع حليب القومية العربية وتنسَّم هوائها يصدح بصوته المُفعم المُنتشي بالنصر ناقلاً عبر الهواء مُباشرة البيانات العسكرية التي تُؤكِّد تقدُّم الجيوش العربية تجاه العدو الذي بات قاب قوسين أو أدنى ينتظر مصيره المحتوم بهلاكٍ أكيدٍ بعد تأكيدات الانتصارات غير المسبوقة التي راحت تُحرزُها تلك الجيوش الواثقة من نفسها على وقع مقولته الشهيرة :” تَجوَّع يا سمك”؛ كون العرب سيقومون برمي عدوهم الصهيوني في البحر ليلتهمهم سمكهُ دون رحمةٍ منه أو شفقةٍ أو عطف! ثم فما فتئت تلك الجملة يُردِّدُها الصغير قبل الكبير بكامل ثقتهم بذلك النصر الموعود، إلا أنَّ تلك العبارة وتلك الفرحة المُنتظَرة ما لبثت أن تلاشت وتبخَّرت بعد أن سقطت وسقط معها جميع مُريدوها ومُردديها سقوطاً مُدوِّياً مُروِّعاً أسفل سافلين على وقع حقيقةٍ مُرَّةٍ كشفت عن حجم الخسائر الكبرى التي مُنيت بها تلك الجيوش العربية الرخوة بعد تكبُّدها للهزيمة تلو الأخرى وعلى كافة الجبهات العربية؛ المصرية والسورية والاردنية وبهزائم فادحة أسفرت عن خُسران نتيجة الحرب لصالح الجيش الإسرائيلي الذي عمل على استكمال احتلال وقضم المزيد من الأراضي العربية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتاجها القدس الشريف من فلسطين التاريخية، إضافة إلى أراضي سيناء من مصر، والجولان من سورية والتي آلت وأدَّت لسقوط تلك المنارة الشاهقة المُسماة “صوت العرب” والتي كانت بمثابة المُحرِّك النَّفاث للجماهير العربية من المُحيط إلى الخليج بعد أن أخذت صيتها وسُمعتها وبريقها من اسمها كونها تتحدَّث باسم الكُلّ العربي، وتُقاد وفقاً للتَّوجّهات القومية للرئيس جمال عبد الناصر في حينه والتي أولاها جُلَّ اهتمامه كرافعةٍ من روافع المدّ القومي العربي في ذلك الوقت.


لا نعرف بالضبط على من نُلقي بالمسؤولية جراء ذلك الحدث الجلل الذي حلَّ بالأُمَّة العربية وأطاح بأركانها وكرامتها وهيبتها منذ تلك الأيام المشؤومة حتى يومنا الذي نعيش، لكن أحمد سعيد قد صرَّح قُبيل وفاته بأنه كان ينقل البيانات التي كانت تصله من مصادر رسمية مُلتزماً بإذاعتها دون تغيير أو تعديل أو تبديل، وإنه لم يكن يعلم أنَّ سلاح الجو المصري والسوري قد تم تدميره عن بكرة أبيه في الساعات الأولى لاندلاع الحرب! ومع هذا، فقد حُمِّل هذا الرجل أوزار تلك الكارثة لدرجة أنَّ الجميع قد نسوا أو تناسوا الحدث الرئيسي المُهين وراحوا يُلقون باللوم والعتاب عليه كونه حملهم وصعد بهم إلى أعالي القمم ثم القى بنفسه ومن واكب تصريحاته إلى القعر السحيق، ما حذا بميكرفونه الذي كان يُلازمه والذي رفع اسمه وأسهمه عالياً وجعله حاضراً في آذان المُستمعين ووجدانهم إلا أن يكون سبباً بالإطاحة به من عرشه وموقعه النافذ والكبير في قلوب وعقول الأُمَّة العربية جمعاء ليجعله يستقيل من منصبه بعد أشهر قليلة من يوم الهزيمة بسبب ما التصق به من شؤم تلك الواقعة والتي تُعد من إحدى أكبر خيبات الأمل للعرب في القرن العشرين ليظل أسمه مُرادفاً ومُلاصقاً لتلك المأساة وعنواناً لها حتى يومنا الذي نعيش.


في صورةٍ مُشابهةٍ، وفي أجواء أحداثٍ صادمةٍ لدولةٍ عربيةٍ من دول الوطن العربي المنكوب، ظهر على السطح إبّان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وزير الإعلام العراقي في عهد الرئيس السابق صدام حسين والمُتحدِّث الرسمي باسمه “محمد سعيد الصحاف” والذي أدار الحرب الإعلامية أيام تلك المعركة الضروس المُسماة ” أم المعارك” خير إدارة إلا أنه أبدع في تهويل وتضخيم صورة الانتصارات الميدانية التي كانت تحدث بين فترةٍ وأخرى ومن موقعٍ إلى آخر مائلاً إلى إنكار ما كان يحدث على أرض الواقع من غزوٍ حقيقيٍ لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية رغم أصوات الانفجارات وإطلاق النار الكثيف التي كانت تطال البلاد وتجتاحها وتعمل على زلزلتها قبل أن تجتاحها الدبابات والطائرات والآليات العسكرية الغازية؛ فكانت كل خطاباته وتصريحاته بمؤتمراته الصحفية المُنعقدة ليل نهار تُبشِّر وتُوحي وعلى الملأ بانتصارات القوات العراقية المُتتالية مُدَّعياً بين الفينة والأخرى أن القوات الأميركية باتت مُحتجزة بفعل بأس الجيش العراقي وقواته خارج أسوار بغداد، وأنَّ تلك القوات ستندحر بعد أن يتم قطع رأس الأفعى التي راحت تتمدَّد من جنوب البلاد إلى شمالها مروراً بالعاصمة بغداد ومركز القيادة والسيطرة، زاعماً بآخر مؤتمر صحفي له يوم السقوط المُريع بتاريخ 9/4/2003 أن ” العلوج” الأمريكان أخذوا ينتحرون بالآلاف على أسوار بغداد، بينما هم في الحقيقة كانوا يتقدَّمون بشكل مُضَّطرد إلى قلب العاصمة المدمي مُستبيحين شرايينها الرئيسية المُنهكة والمُنتَهكة!
لقد ظهر مصطلح ” العلوج” على السطح ولأول مرة في التاريخ المُعاصر على لسان ذلك الوزير الذي كان ضليعاً باللغة العربية ودهاليزها؛ فقد كان يُحسن ويُجيد استخدام مُفردات اللغة ومعانيها في خطاباته بكُل ثقة وقُدرة واقتدار مُوظِفاً بعض مُفرداتها في خطاباته الإعلامية ومؤتمراته الصحافية المُتتابعة لدرجة أنه لم يكد يخلو مؤتمر صحفي له من تكرار مصطلح ” العلوج” وغيره من المصطلحات الجديدة، والدميمة، والفصيحة، والجزلة، والغريبة والتي راح ينعت بها أفراد الجيش الأمريكي ومن لف لفيفهم من قوات التحالف واصفاً إياهم بالسُّم، والعلقم، والمُرتزقة، والأوغاد وغيرها من العبارات والشتائم والسُّباب اللاذع. وبسبب تكرار تلك العبارة – العلوج- في كل مؤتمر صحفي كان يعتلي به ظهر الفضائية الإخبارية العراقية والفضائيات العربية والعالمية الأخرى حتى ارتبط اسمه بهذا اللفظ وصار مُلازماً له في حِلِّه وترحاله وحتى في الصحافة الأجنبية التي أخذت تُردِّده دون أن تُفلح بتوفير ترجمة واضحة له رغم أنه أصبح محفوظاً عند الجميع عن ظهر قلبٍ وغيب.


بعد ست وخمسون سنة من الهزيمة والخيبة والسقوط المُدوي المُتمثل بما كان من أحداث النكسة، وبعد عشرون سنة من الذُّل والإحباط والانكسار بعد سقوط العاصمة العراقية بغداد واحتلالها، رحنا نشهد هذه الأيام المعركة الحامية الوطيس والتي نعيش أحداثها مشدوهين مذهولين ولأول مرَّة بالتاريخ بسبب الحجم المهول من التقتيل والتدمير والدماء والأشلاء المُتناثرة في خِضِم معركة ” طوفان الأقصى” أو ما باتت تُعرف بأحداث ما بعد السابع من أكتوبر! ففي أجواء تلك المعركة المحمومة، والأحداث الدامية التي تتفطَّر لها القلوب، وتفرُّ منها العقول، وتتجمَّد بسببها الدموع في المآقي والعيون؛ طفى على سطح الساحة الإعلامية وتحديداً فضائية الجزيرة الإخبارية القطرية وبكل اقتدار اللواء العسكري المُتقاعد، والمُثقَّف، والكاتب، والخبير الاستراتيجي الأردني ” فايز الدويري” والذي أبدع بالتحليلات العسكرية النارية والمُتفائلة وخاض في غمارها كخبير مُتمرِّس له اليد الطولى في هذا الشأن ليُشغل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة ومنصات التواصل الاجتماعي كافة بما راح يصدح ويُصرِّح به حتى لاح نجمه ساطعاً في أجواء السماء العربية الكالحة والحالكة والفاحمة، ليكون بالنسبة للشعوب العربية المُتعطِّشة لرذاذ النصر، أو وابل الفَرَج الذي يُؤمل أن يُؤتي أُكلهُ ضعفين، أو البلسم الشافي والماء الزُّلال الذي يروي العطشى، ويُريح النفوس، ويرفع من المعنويات وسُؤددها؛ فقد شغل هذا المُحلِّل الورى بتحليلاته المُستفزَّة والمُستنفرة للهمم والطاقات، والرافعة للأمجاد والحظوات، والوائدة للذُّل والامتهان المُتراكم والمُتراكب؛ ما جعله محط أنظار الكثيرين من المُتابعين العرب والعجم والذين راحوا يبحثون بين كلماته وإيماءاته وتحليلاته عن خيوط التفاؤل بين أكوام البؤس والعجز والخذلان.


لقد بات الدويري عنصراً بارزاً وجزءاً أساسياً لا غنى عنه من على شاشة الجزيرة الإخبارية منذ اليوم الأول لاندلاع معركة طوفان الأقصى، فقد بدأت إطلالته اليومية على تلك الشاشة الصغيرة بشكل يومي وعلى رأس كل ساعة ليقوم بتحليل الوضع الميداني في ساحات المعارك الضارية على ثرى غزة العزَّة، لتراه يُبحر ويغوص عميقاً في تحليلاته وقراءاته الدقيقة للفيديوهات الصادرة من هنا وهناك وتحديداً تلك التي كانت تحصل عليها الجزيرة من الجيش الإسرائيلي أو تستقيها من إعلام الجناح العسكري لكتاب الشهيد عز الدين القسام والتي كانت تُصوّر بطولات المُقاومين وبأسهم الشديد بأسلحتهم البسيطة على عدوهم الصهيوني المُدجَّج بالترسانة الحربية المُتطورة، والسلاح الفتّاك المدعوم من الدول الغربية سياسياً، وعسكرياً، واستخباراتياً، ومادياً، وإعلامياً ودون هوادة وعلى الملأ مُباشرة وبلا مُواربة أو تُقية أو مُواراة! لترى ذلك المُحلِّل الفذّ يغدو ويروح ويُكرر الكلام مراراً وتكراراً دون أن يشعر هو أو أحد من مُتابعيه بالملل أو التَّعب او الضَّجر؛ فغدا حضوره لا بديل عنه في تلك الأجواء والأرجاء ليبدو ثابتاً، راسخاً، واثقاً من نفسه أمام عدسات الكاميرات وقد تسلَّح بخبراته العسكرية الطويلة والمُمتدة لعشرات السنين، إضافة إلى ما كان يكتنزُه من فهمه العميق للُعبة الإعلام، وطلاقة لسانه والتي استعان بها ليُجيد ويُبدع العزف على أوتار عواطف المُشاهدين المُتعطّشين لأيّ خبرٍ سعيدٍ قد يرفع من الهِمَم ويُعلي من المعنويات والطموحات.


لقد تصدَّر اسم الدويري مُحركات البحث من على سطح الشبكة العنكبوتية بصورةٍ ملحوظةٍ وبوتيرةٍ عاليةٍ بعد الخامس والعشرين من شهر كانون الاول في العام 2023 على وجه التحديد وذلك بعد أن خَصَّه وحباه أحد مُنتسبي ومُقاتلي كتائب عز الدين القسام في مقطع فيديو مُصوَّر بعد أن قام باستهداف قوَّة إسرائيلية مُتحصِّنة في أحد المنازل بقذائف مُضادة للتحصينات ما أسفر عن سقوط أفراد القوة بين قتيلٍ وجريح؛ فخاطبه ذلك المُقاتل بعينه قائلاً له: “حلّل يا دويري”، ليستجيب له الدويري بدورة مُباشرة عبر ذات القناة  قائلًا: “سأحلل”، ثم قام بعد ذلك بنشر تغريدة له من على منصة ” إكس” مُسلطاً الضوء على الشرف الذي شعر به عندما كُرِّم بذكر اسمه من قِبل أحد أولئك المُقاتلين في غزة قائلاً: (أرفع رأسي وأشمخ، وربما تكون أجمل لحظات حياتي حين سمعتُ المُقاوم يُنادي باسمي، إنها لحظات الشرف التي أعلم أنَّ المُقاومين يُتابعون ويُثنون على ما أُقدِّمُه من جُهدٍ بسيطٍ بل ولا يُذكر أمام أصحاب الفِعل).


بعد تلك الكلمات الثلاث البسيطة “حلِّل يا دويري”، تحوّل المُحلل الدويري خلال ساعات إلى ” ترند” وعلم اجتاح اسمه مواقع التواصل الاجتماعي كافة لتزيد شهرته، ويعلو شأنه، ويخرج من بوتقته إلى الفضاء الرحب بكُلِ شموخ؛ فقد حملت تلك الكلمات القلائل العديد من معاني الوفاء من كتائب القسام إلى ذلك المُحلِّل العسكري والتي كانت بمثابة رسائل له وللعالم أجمع أن المُقاومة ليست بمعزل عن العالم الخارجي، وأنها تُتابع الإعلام بوسائله المُتباينة بشكل يومي ودقيق، وأنَّ هذا المُحلل إنما يحمل جراحها، وهمومها، وطموحاتها، وغاياتها ويُبرزها جليلة جليَّة أمام العالمين؛ فقد اجتاحت تلك العبارة العالم الافتراضي قبل أن تجتاح العالم الواقعي ليحتفي ويحتفل بها كل المُؤازرين والمُتضامنين مع المقاومة والشعب الفلسطيني المكلوم وكأنها قصيدة عصماء قد اخترقت القلوب والشعور الوجدان، واستقرَّت في قلب ولُبّ السامعين رضىً وقبولاً بصنيع هذا الرجل.


رغم الإشراقة الباهية، والطلة البهيَّة التي طالت الدويري، ورغم الهالة الناصعة التي كلَّلته واكتسته خلال ما يزيد عن سنة من الحرب الضروس التي أتت على الأخضر واليابس، وهشَّمت كل القيم الإنسانية ودُعاتها والناعقين باسمها ووسمها وقد حطَّمت الانسان الفلسطيني ونالت منه وتركته رماداً منثوراً بعد أن قتلته، وسجنته، وجوَّعته، وأصابته إصاباتٍ بليغة، وبعد أن شرَّدته، وهجَّرته من منزله المُهدَّم، وحيِّه المركوم بمدينته وقريته ومُخيمه المكلوم حتى بات هائماً مُلقى على قارعة الطريق شهيداً، أو جريحاً، أو أسيراً، أو مُشرَّداً، أو جائعاً، أو عطشاناً أو كل تلك الخصال معاً! ورغم ما ناله الدويري من الشرف الرصين على عتبة المأساة التي كشفت وفضحت البشرية جمعاء، إلا أنه قد ظهرت الكثير من الأصوات العالية والمُتعالية والتي راحت تنتقد أداء هذا المُحلِّل وتتَّهمه بالتهويل والمُبالغة والتضخيم للأحداث ولمُجريات الأمور وكأننا بتنا على عتبات وأسوار مدينة تل ابيب المنكوبة المُهجَّرة وقد طالها الدمار والخراب والتخريب، ونعقت على سطوحها الغربان! وكأننا صرنا نحن المُنتصرين حقاً لا المُضطهدين، ولا البائسين، ولا المُقتَّلين، ولا المُهجَّرين قسراً دون غطاء يقي حرّ الصيف وبرودة الشتاء، ودون كِسرة خُبز نُلهي بها الأمعاء!


يدَّعي بعض مُنتقدي هذا المُحلِّل السياسي الذي ذاع صيته وعلا شأنه على حساب أشلاء وأنّات الثكلى والمرضى والمصابين والأسرى، وجراحات الوطن المنكوب بنكباتٍ مُتواصلةٍ مُتلاحقةٍ، أنَّ أداء الدويري حَلَّق به وبنا في فضاء نشوة الانتصار قبل أن نلمسه أو نتلمَّسه أو حتى نشتم رائحته، ثم ما لبث أن قفز بنا قفزاتٍ بهلوانيةٍ عاليةٍ مُدويةٍ كدنا نُلامس السماء ونتحسس نجومها وأفلاكها فرحاً وابتهاجاً بما حققناه من الانتصارات المزعومة والتي راحت تُدغدغ الحواس وتُنعشها؛ فننتشي بها دون أن يكون لها أي أساس أو نقطة ارتكاز واقعية.


ليس من باب التشاؤم، ولا من بوابة الإحباط، ولا من شُبَّاك الانتصارات الوهمية والزائفة، فلا يعرف المرء منا بالتحديد على من يُوقع باللوم والملامة والعتاب على إثر تداعيات الأحداث الجسام التي حلَّت بالأمة العربية جمعاء في أجواء الحروب الهمجية المسعورة والمجنونة التي طالت كل مُكونات الوطن والمواطن العربي الضَّحية على مدى أكثر من نصف قرن من الهزائم، والنكسات، والاخفاقات المُتوالية والمُتتالية وقد كُنّا وما زلنا وما فتئنا نشتهي ونطمح ونُريد أن تتحقق نبوءة واحدة من نبوءات أولئك الإعلامين المُخضرمين والذين قد يكونوا بريئين من التُّهم المُوجَّه لهم بالتَّهويل والنفخ والتضليل، وأنَّ ما قاموا به كان إما بسبب الروح الوطنية العالية التي كانت تعتريهم وكانوا يتمتَّعون بها، أو بسبب ما كان يصلهم من الأخبار والمعلومات المغلوطة المُضللة والتي راحوا يستنشقونها فرحاً وفخراً وفخاراً، ثم عمدوا على إعادة تدويرها ونقلها بأبهى حُلَّتها لمُجتمعاتهم العربية التي كانت تتوق لسماع تلك النغمات والسيمفونيات التي تُدغدغ مشاعرها بالحصول على النصر المُؤزر ولو لمرة واحدة بحياتها؛ فطربت ورقصت على تلك الأنغام، ثم وقعت في مصيدة وفخ الأبواق الإعلامية المُنتفخة والتي كانت كَوَرَمٍ خبيثٍ وجد جذوره ومرتعه في العقول العربية التي سيقت نحو موتٍ مُحققٍ بفعل تلك الهزات الارتدادية المُزلزلة وقد أخذت تفتك بها لتلقى حتفها بسببها لا بسبب قنابل، وصواريخ، وطائرات، ودبابات الاحتلال التي كانت تُحلِّق وتتطاير فوق الرؤوس.

شاهد أيضاً

انطلاق برنامج انعكاسات فنية في البلدة القديمة بالخليل

انطلاق برنامج انعكاسات فنية في البلدة القديمة بالخليل

شفا – أطلقت وزارة الثقافة وبالشراكة مع منتدى شارك الشبابي، ودائرة الثقافة والشباب في محافظة …