سُورِيّا؛ إنْبِعاثُ الظَّلامِ، لِماذا؟! بقلم : د. عقيل الخزعلي
منذ اندلاع الأزمة في عام 2011 ، تشهد سوريا صراعاً معقداً ومتشابكاً على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، تحول خلالها البلد إلى مسرح لصراعات القوى الكبرى وتصفية الحسابات الإقليمية. ومع سيطرة “هيئة تحرير الشام”، المصنفة إرهابياً دولياً، على أجزاء من محافظة حلب وسعيها للتوسع إلى مناطق جديدة، تعود الأزمة السورية إلى الواجهة بشكل أشد تعقيداً، حيث تطرح هذه التطورات تساؤلات عميقة حول خلفياتها وأهدافها، ولماذا تحدث في هذا التوقيت تحديداً، وما الجهات التي تقف وراءها، والجهات المستفيدة والمتضررة منها، فضلاً عن السيناريوهات والتداعيات المحتملة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
خلفيات الأزمة
منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا، تحولت البلاد إلى ساحة صراع عسكري وسياسي متعدد الأطراف. برزت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) كأحد اللاعبين الرئيسيين في المشهد السوري، حيث نجحت في تعزيز وجودها في شمال غرب البلاد، مستفيدة من ضعف الدولة السورية والانقسامات داخل المعارضة.
في السنوات الأخيرة، حاولت الهيئة التكيف مع التغيرات السياسية والعسكرية من خلال تقديم نفسها كقوة محلية تهدف إلى إدارة المناطق الخاضعة لها، لكنها في الواقع تحتفظ بأيديولوجيتها الجهادية واستراتيجياتها التي تعتمد على استخدام القوة لتحقيق أهدافها.
على مدار الأزمة، تمكنت الهيئة من بناء شبكات تمويل ودعم لوجستي معقدة، استفادت فيها من فراغ السلطة في بعض المناطق ومن علاقاتها الظرفية مع قوى إقليمية ودولية.
وعلى رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية، فإن بعض الجهات الإقليمية قد استغلت وجودها لأغراض تكتيكية، مثل محاولات تقويض نفوذ الأكراد أو الضغط على النظام السوري.
اليوم، تسعى الهيئة إلى توسيع نطاق نفوذها خارج إدلب، مستغلة تراجع القوة العسكرية للفصائل المعارضة الأخرى وعدم قدرة النظام على السيطرة على كامل البلاد.
لماذا هذا التوقيت؟
من الواضح ان توقيت تحركات هيئة تحرير الشام لا يمثل مصادفة، بل يعكس حسابات دقيقة مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية الجارية، وأبرزها:
1.التغيرات الإقليمية
تأتي هذه التحركات في ظل تقارب تركي-روسي وسعي أنقرة لإعادة ضبط علاقاتها مع دمشق، مما قد يدفع تركيا لاستخدام الهيئة كورقة ضغط في مفاوضاتها مع النظام السوري والقوى الكردية.
2.انشغال القوى الكبرى
انشغال الولايات المتحدة وأوروبا بأزمات أخرى، مثل الحرب الأوكرانية وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط، أضعف التركيز الدولي على الأزمة السورية.
3.الفراغ الأمني والإداري
منح انسحاب بعض الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا وتراجع نفوذها الهيئة فرصة للتوسع وفرض نفسها كلاعب أساسي.
4.إعادة التموضع التركي
تواجه تركيا ضغوطاً داخلية لإعادة اللاجئين السوريين، مما قد يجعلها تتبنى سياسات أكثر مرونة تجاه الجماعات المسلحة التي قد تخدم أجندتها في الشمال السوري.
*الجهات التي تقف وراء التحركات
رغم تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، فإن تحركاتها لا تحدث بمعزل عن دعم مباشر وغير مباشر من قوى إقليمية ودولية محتملة، أهمها؛
تركيا، تشير تقارير إلى أن تركيا قد تغض الطرف عن توسع الهيئة بهدف تعزيز نفوذها في المناطق الشمالية لسوريا وتقويض نفوذ القوى الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، كما قد تستخدم الهيئة كورقة ضغط في مفاوضاتها مع النظام السوري.
قطر، هناك اتهامات بدعم غير مباشر عبر تمويل منظمات إنسانية تعمل في مناطق تخضع للهيئة.
الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، قد تستفيد واشنطن وتل أبيب من استمرار حالة الفوضى في سوريا لضمان عدم استقرار النظام السوري وتقويض النفوذ الإيراني والروسي، والعمل على احداث تسويات جديدة في المنطقة، مبنية على هندسة سياسية واجتماعية لا تخلو من دهاء.
الأطراف متضررة، أبرزها:
النظام السوري وحلفاؤه، إذ ترى دمشق وطهران وموسكو في توسع الهيئة تهديداً مباشراً لمشروع استعادة السيطرة الكاملة على البلاد.
العراق والاردن، حيث تخشى بغداد من انتقال عناصر جهادية ارهابية إلى أراضيها مما يهدد أمنها الداخلي.
السيناريوهات والتداعيات المحتملة
تتراوح التداعيات المحتملة لتحركات هيئة تحرير الشام بين استمرار الفوضى وتصعيد عسكري واسع النطاق:
١-استمرار الفوضى
قد يؤدي توسع الهيئة إلى ترسيخ التقسيم الجغرافي الفعلي في سوريا وزيادة تعقيد المشهد الأمني.
٢-تصعيد عسكري
قد يدفع توسع الهيئة النظام السوري وحلفاءه، بدعم روسي وإيراني محتمل، إلى شن عملية عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة.
٣-زيادة التوتر الإقليمي
قد تتصاعد التوترات على الحدود التركية-السورية، مع احتمال تدفق مزيد من اللاجئين إلى دول الجوار.
٤-تعزيز الإرهاب العابر للحدود
قد يؤدي هذا التوسع إلى انتقال العناصر الجهادية إلى دول مجاورة، مما يهدد أمن المنطقة بأكملها.
الخيارات والفرص
رغم تعقيد المشهد، هناك خيارات وفرص لمعالجة الأزمة:
التوافق الإقليمي
يمكن لتعاون (تركي-روسي-إيراني) أن يساهم في الحد من نفوذ الهيئة وفرض الاستقرار في المناطق المتضررة.
تعزيز الفصائل المعتدلة
دعم فصائل المعارضة المعتدلة يمكن أن يخلق توازناً يمنع توسع الجماعات المتطرفة.
إعادة الإعمار
قد يساهم تسريع مشاريع إعادة الإعمار في المناطق الشمالية في تقليل الاعتماد على الجماعات المسلحة.
الحلول الممكنة
١-الحل العسكري
شن عمليات عسكرية منظمة لاستعادة السيطرة على المناطق المتضررة.
الحل السياسي
دفع الأطراف الإقليمية والدولية إلى مفاوضات شاملة تشمل جميع الأطراف المؤثرة في المشهد السوري.
الحل الاقتصادي
تقديم حوافز اقتصادية لإعادة استقرار المناطق، مع تعزيز مشاريع التنمية التي تقلل من اعتماد السكان المحليين على الجماعات المسلحة.
وبالمُحَصِّلَة،
فأن التطورات الأخيرة في سوريا تعكس تعقيد الأزمة وتداخل المصالح الإقليمية والدولية. استمرار حالة الفوضى يخدم أطرافاً محددة على حساب استقرار البلاد ومعاناة الشعب السوري.
يتطلب الخروج من هذا الوضع إرادة سياسية حقيقية وتعاوناً دولياً وإقليمياً شاملاً لمعالجة جذور الأزمة وليس فقط التعامل مع تداعياتها.
إن مستقبل سوريا يعتمد على استعادة سيادتها ووحدتها، وهو أمر يتطلب توازناً دقيقاً بين الحلول العسكرية والسياسية والاقتصادية.