” الخروج الأخير ” بقلم ، أ. خضير بشارات
من يوميات الحرب المسعورة على الوطن و قضيته العادلة والتي يشتد لهيبها يوما بعد يوم ما كان من اعتداء وحشي على مخيم طولكرم داخل حارة الحمام حيث ألقت الطائرة الصهيونية الحربية صواريخ موتها على مقهى وذلك مساء الخميس الثالث من أكتوبر ،
أسقطت إسرائيل نيران صواربخها على المقهى و هو يعج بالزبائن الذين يؤمونه هربا من واقع الحياة التعس ، يركنون إليه في المساء ليزيلوا عن أنفسهم ثقل النهار و أتعابه ، ففيه يلتقي الأصدقاء و يتهامسون عن وجع الحياة ، يحضره رجل كبير السن لينشر همومه عبر أدخنة الأراجيل ، تتلاقى الوجوه الشاحبة فهي تئن من مرارة الاحتلال الصهيوني و ممارساته اليومية ، فطولكرم و مخيماتها و قراها كانت ساحة لتدور عليها حرب الاحتلال و مواجهته على مدار سنوات الصراع مع العدو و اشتدت حدة الصراع في السنة الأخيرة بعد ما أعلنت المقاومة الفلسطينية حربها والتي عرفت بطوفان الأقصى،
نقل الجالسون حديثهم إلى حيث وحشية الاحتلال كما و نقلوا أصابعهم إلى محطات الأخبار عبر أجهزتهم النقالة يقلبون من صفحة إلى أخرى و ينقلون عيونهم حيرى و قلقة لما يحدث قصف عنيف ، أشلاء الأطفال ، جثث الرجال الشهداء ، رجال الإسعاف يعملون بلا كلل أو ملل ، نساء يصرخن ، مصابون تحملهم الأيادي نحو مشفيات المدينة ، النيران لازالت مشتعلة في الأماكن القريبة من المقهى، أضرار جسيمة أصابت الحارة ، ارتقى الشهداء ، كانت الأخبار تأتي تباعا لترصد عدد الشهداء و حالة المصابين ، و تصور هلع الناس الأبرياء، ثارت النقاشات داخل الجلسة المقامة في شرفة المنزل ، انتقادات لكل ما يجري ، يرفض يوسف تواجد رجال المقاومة بين الناس و الحياة اليومية و يقول : هذا غير معقول ، و لا يجوز أن يحضر المقاومون إلى المقهى أو إلى أزقة الحارات، لا يمكن أن تقصف أحياء فيها الأبرياء من أطفال و نساء و رجال و كبار السن و المرضى بحجة أن فيها مقاومون ، عليهم أن يتخندقوا في الجبال و داخل المغر و الكهوف ، بعيدا عن الأحياء المأهولة بالسكان ، لنتجنب مرارة فقد الأبرياء من نيران الاحتلال و عنجهيته و إن لم يكن يحتاج هو إلى مبررات ليقصف و يدمر ، ففي نظريته الأمنية الكل الفلسطيني مستهدف بل هو هدف لعصابة جيشه البربري ، و كثير ما يسوق يوسف أمثلة جلية واضحة لشخصيات ناطحت جبروت الاحتلال خارج المناطق المأهولة بالسكان خلال انتفاضة الأقصى و كان لهم الأثر الواضح على الأرض و سطر التاريخ تضحياتهم فلماذا لا تكون مقاومة اليوم على نفس النهج؟
اختلطت الأحاديث و اختلفت الآراء حول ما يجرى بين مدن الضفة و داخل المخيمات التي تملأ المقاومة أزقتها و كان آخرها حالة الشاب عبد الحكيم شاهين الذي خرج و تحدث عبر وسائل الاتصال الاجتماعي بعدة فيديوهات و هذا خطأ في النظريات الأمنية، فحماية الأشخاص واجب بعيدا عن كل الطرق التي تسهل وصول الاحتلال، مما جعل العدو يقتحم البلدة القديمة ليرتقي شهيدا ، فانصبت الاتهامات نحو أجهزة السلطة الوطنية فحدث الصخب في الشارع بين المؤيد و الرافض لكل ما يجري ، هذه حالة من مئات الحالات التي تقع دون أن يصحو المجتمع أو يستفيق من كبوته التي اطاحت به منذ زمن ،
تأتي الأخبار متواصلة من مدينة طولكرم خمسة شهداء و عدد من الإصابات و لازال العدد مرشحا للازدياد ، تواصل يوسف مع صديقه القديم الذي يقيم في المدينة المنكوبة، فقال مصلح :عملية الاغتيال في طولكرم استهدفت المقاوم غيث رضوان أحد قادة كتيبة طولكرم
في المخيم ، الهلال الأحمر – أولي ثلاثة شهداء جراء قصف الاحتلال مخيم طولكرم ، اكثر من عشر إصابات الله يستر دعواتكم للمصارين ،
ظل الجالسون يتابعون ما تقدمه صفحات التواصل من أخبار ، و يتبادلون الحديث غير المجدي حول الأوضاع القائمة في الضفة إلى أن بدأ الجميع بالانسخاب و مغادرة الجلسة إلى حيث يقيم ،
لم تكن نابلس افضل حالا من القرية التي تركوها خلفهم وحملوا أنفسهم عائدين إلى المخفية ، هدوء داخل السيارة التي أقلت العائلتين ، انشغل بسام في قيادة السيارة و متابعة أحوال الطريق حيث الأزمة المرورية اشتد من دوار نابلس الجديدة ، التزم يوسف الصمت طيلة الطريق إلا من قليل الكلمات مع ابنيه ، حديث الاختين لم ينته على امتداد الليل و الطريق ، الأطفال يحدقون بأعينهم إلى خارج نوافذ السيارة ، يتأملون أضواء الليل و يراقبون المارة و حركة الناس النشطة داخل المدينة ، ظلت أحداث طولكرم تحوم في المخيلة فما أن دخلوا منزلهم حتى انفتح الجهاز على صفحات الأخبار ليتابع ما يجري في الضفة الغربية،
ارتفع عدد الشهداء و المصابين ولا زال الرعب يخيم على أزقة المدينة و حاراتها ، تخطت الساعة الثانية عشرة صباحا و الليل يلقي بثقله على غزة و لبنان و مدن الضفة الغربية ، مداهمات ، إطلاق نار متبادل بين المقاومة الفلسطينية و جيش الاحتلال ، سماعات المساجد في نابلس تنعي الشهداء ، ولجنة تنسيق الفصائل تعلن يوم غد الجمعة الإضراب الشامل و الحداد العام لكل نواحي الحياة، وكأن يوم الجمعة و في ظل الوضع الأمني القائم يوجد حياة ، تجاوز عدد الشهداء في طولكرم و حسب صفحات التواصل العشرين شهيدا ، تهرع النساء إلى المشافي لوداع أبنائهن و أخوانهن ، كما يسرع الرجال و الصبية للمشاركة في مراسيم الشهداء و إلقاء النظرات إليهم ، يحرك يوسف إبرة الراديو ليستقر على أخبار الجزيرة التي تبثها إحدى المحطات ، قصف عنيف على بيروت تحاول القوات الصهيونية دخول الأرض اللبنانية لتسيطر على مواقع حيوية لكن قوات الرضوان التابعة لحزب الله تقف لها بالمرصاد و تصدها بل توقع فيها القتلى و الإصابات و عصابة الاحتلال تخفي هزائمها كالمعتاد ،
لم يكن صباح الجمعة اعتياديا رغم الصحو المبكر ، فكان صوت القرآن يصدح من إذاعة أجيال عبر الراديو الموجود بجانب سرير النوم منذ سنوات فلم تغن كل شبكات الأخبار المرئية المتنوعة عنه سواء التلفاز أو عبر التلجرام أو الصفحات المنتشرة عبر الفيس ، يبقى له دوي في السمع وخاصة ساعة الصباح و أخبار صوت إسرائيل التي يبث بالعربية، قلب المحطات بعد سماع القرآن و راح يفتش عما يجري في الوطن في صفحات الجوال، صباح شاحب و أليم رغم أشعة الشمس إلا أن الليل زادت مساحته ليقتطع من أجزاء النهار،
أنهت العائلة وجبة الفطور فهي لا تخلو من مشاغبة الأطفال و مشاكلهم للجلوس بجانب الوالد و يرافق تناول الطعام الحديث الذي تفرضه الصغيرات ، يراوغن أباهن و تنزلق الكلمات متقطعة من إحداهن لتكمل الآخرين ما يطيب لهما ، أعد الأب نفسه وخرج إلى المسجد لصلاة الجمعة ، تخلو الشوارع من المارة فالوقت لازال مبكرا على الحضور ، الشمس تنسحب إلى وسط السماء مع اشتداد حرها نسبيا وكأنه أعلى من معدله السنوي ،
يكاد يخلو المسجد من المصلين بضعة رجال ينتشرون فيه ، يقرؤون القرآن ، حاج يجلس على كرسيه يقلب عينيه يمنة و يسرة و كأنه يراقب شيئا ما ، يتحرك خادم المسجد باستمرار فهو شاب نشط يوفر الماء و يضع المحارم و يشغل المراوح يحافظ على عمله بجد و نشاط يجامل الجميع في مختلف أوقات الصلاة ، يدخل إلى المسجد رجل يبحث عن مكان مناسب ليلقي نفسه ومطقا أنفاس التعب و الألم وكأنه يتابع أخبار الوطن السليب و بيروت صديقة فلسطين في النضال و المواجهة ضد الاحتلال ،
ما أن اعتلى المنبر الخطيب حتى امتلأ المسجد بالمصلين وراحوا يزاحمون إلى الصفوف الأولى إن استطاعوا ، تحدث الشاب المتحمس عن الأوضاع الدائرة في فلسطين و لبتان باقتضاب و عاب على الناس. الذين يتحدثون بلسان التفرقة بين المسلمين ، وشدد على الوحدة بين أبناء الأمة للنيل من العدو فقال : هذا ليس الوقت المناسب للحديث هذا شيعي و هذا سني مشيرا بذلك إلى سماحة سيد محور المقاومة نصر الله الذي اغتاله الاحتلال في بيروت على طريق تحرير القدس ، كان حديثه وحدوي يتلاءم مع الحرب الدائرة رحاها في غزة ولكنه لم يستطع تسلسل الأحداث فجاءت الخطبة مرتبكة ، تحتاج إلى أكثر دقة في تقديم المعلومة و ترابطها وظهر الانفعال جليا عليه مما انعكس سلبا على موضوع الخطبة الذي هو اصلا مهلهلا و ركيكا ، أنهى الخطبة بالدعاء للمسلمين بالنصر و ذم الحكام الغرب و دعا إلى استبدالهم بما يحقق مصالح الأمة…
بعد العودة إلى المنزل راح يقلب صفحات الأخبار عبر التلجرام و ثبت إبرة الراديو على محطة فلسطينية تنقل مباشرة مسيرة الشهداء الذين ارتقوا مساء أمس في طولكرم ، غضب عارم تبثه أصوات المشيعين ، شعارات
تملأ الفضاء الطلق يعيد إلى الأذهان عصر الانتفاضة الأولى، يا أم الشهيد نيالك ياريت امي بدالك ، إلى غير ذلك مما يلهب مشاعر الناس و الجماهير ، يتابع الصحفي بصوته كل ما يجري من لحظة خروجهم من المشفى إلى حشد المسيرة داخل المدينة يتحدث بلسان الفلسطيني المعذب و ينقل الأحداث لحظة بلحظة ، معبرا عن الألم الذي يختلط في نفوس الأهل و الأقارب و الأصحاب كيف لا و هو واحد منهم ؟ تأتي الصور عبر محطات الجوال منسجمة مع الصوت الهادر داخل الراديو ، جماهير غفيرة، رجال مسلحون يطلقون الرصاص ، و فتية يلحقون الموكب تيمنا بالنضال الذي قدمه الشهداء ، نساء و رجال يعتلون المنازل لوداعهم ، تلبس أزقة المدينة الحداد على من تركوها تواجه صلف الاحتلال الصهيوني وحيدة ، تبكي النساء على أبنائهن كما الأخوات و الأصدقاء ، يْدخل الشباب الشهداء إلى منازل ذويهم ليكون الوداع اللائق بهم و يلقون عليهم نظرات الوداع ، يزف الصحفي الخبر النهائي ليضع المرحلة التالية للشهداء فقال :الآن سيكون الخروج الأخير للشهداء من منازلهم و من ثم إلى مثواهم الذي يليق بكراماتهم النبيلة ، توزعت المسيرة إلى أحياء المدينة و إلى مخيماتها ليرقد كل شهيد في مقامه الذي يليق به بين أهله و أناسه، وقفت محطة الراديو بثها عن مراسم الدفن ، لتنتقل إلى غرفة الأخبار أو إلى الأغاني الوطنية المعبرة عن الجماهير المحتشدة خلف الشهداء مما جعل يوسف ينقل إبرة الراديو إلى المحطة التي تبث عن قناة الجزيرة و من ثم أغلق الجهاز و تابع مجريات اليوم كما تشاء رتابة ساعاته ….