رؤى 6 صراع الأجيال احدى مسببّات اضطراد الضغوطات النفسيّة والاضطرابات السلوكية ، بقلم : د. غسان عبد الله
ظاهرة الصراع بين القديم والجديد ، ظاهرة قديمة جديدة لم ولن تتوقف ، اذ هي من الحتميات والمستلزمات الطبيعية ، لاحداث التطور المنشود وفق نهج عمليتي التقييم والتقويم على أسس علمية مهنية .
أجتهد في القول بأن احدى مصادر اذكاء الضغوطات النفسية والاضطرابات السلوكية بين الافراد في مجتمعنا الفلسطيني ،وعلى اختلاف الفئات العمرية والنوع الاجتماعي والخلفيات الثقافية ومستويات التعليم ،هي حالة الصراع الضامر أحيانا والبائن أحيانا أخرى بين الأجيال بهدف التغيير سعيا للتطوير .
تحتدم حدة الصراع هذا ، حال ما يتعلق الأمر في الموروث العقائدي والثقافي والاجتماعي، كون جيل الشباب يعتبروجود مثل ذلك عائقا لانجاز التطور والانعتاق من الحالة الحاضرة ، في حين يعتقد الجيل الأكبر هذه المحاولات بمثابة تمرد ، وعدم انصياع للعرف العقائدي والاجتماعي , مما يزيد الطين بلّة ، تشابك واقحام تناقضات عديدة أخرى وتناقضات عديدة بين وجهات النظر القديمة والجديدة .
واجه المجتمع الفلسطيني في الوطن المحتل، أزمات خطيرة هدّدت ولا تزال تهدد، نسيجه الاجتماعي، ونظامه القيّمي، وتهدد قيمه الجمالية والاخلاقية، وربما انسحبت على اهداف وقدرات الشعب للخروج من حالة الاضطرابات السلوكية التي انتابته ولا تزال تنتابه ، وبالتالي تؤثر على مستقبله. بمعنى اّخر هي ازمة/ أزمات ناجمة عن تفاعل عدة عوامل منها ما هو قادم من خارج البناء الاجتماعي، ومنها ما هو انعكاس للواقع السياسي السيء وما يرافقه من عنف ومصامات دموية ، ولن يفوتنا الاشارة هنا الى نمط التربية والثقافة الحزبية لبعض الفصائل السياسية ، والتي تذكي الفئوية ونهج الاقصاء والتفرد ، الأمر الذي يؤدي الى تعميقها وصب الزيت على نارها ،كما هناك عوامل من داخل البناء الاجتماعي ومنها على سبيل المثال، صراع العلاقات والادوار بين مختلف الأجيال ومختلف فئات وقوى المجتمع.
لعل استمرار هذه الحالة السياسية ، وما ينجم عنها من عنف وإرهاب منذ أعوام خلت ، والعجز المشهود في وضع حد لها ،قد عمّقت الازمة /الأزمات اكثر فأكثر ،جراء التدهور الاقتصادي المتفاقم، وبلوغ الوضع المعيشي مدى من الصعوبة لم يبلغه من قبل، حيث ينتشر الفقر ويتسع نطاق الجهل والامية جراء التخريب بعيد المدى على العملية التربوية التعليمية، ناهيك الى عدم كفاية موائمة الخدمات الطبية والصحية المطلوبة بكل أنماطها، ولعل خدمات الصحة النفسية أبرزها ،والتي لا تفي بأقل الحاجات .
نرى ّ أزمة البناء المكتظ وعدم توفر الساحات و غياب مرافق الترفيه في المواقع السكنية الحالية وعدم تبني ثقافة تأمين مكتبات بيتية من قبل الأسرة ، اذ تعمد غالبية الأسر الى تأمين مرافق استقبال للضيوف واسعة وأخذ القروض البنكية لشراء سيارة للعائلة ، بدلا من الاهتمام بإيجاد مصادر تثقيفية توعوية اّمنة غير التلفار ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الأسرة،قاطبة ،فريسة سهلة للغزو الثقافي والذي قد يؤثر سلبا على القيم والأخلاق فتأخذ بالانحسار ان لم يكن التردي ،فتتفاقم الاضطرابات السلوكية ،في ظل غياب رقابة الوالدين للمصادر الثقافية المتاحة داخل البيت ،مما سيؤثر حتما على بقية مكونات المجتمع وهياكله الاساسية والوسيطة والثانوية ذات العلاقة الوثيقة بالتنشئة الاجتماعية او الضبط الاجتماعي..
هنا نكون عرضة لمزيد من الانهيار والتراجع بسبب ذلك ، ولنا في التريخ عبرة وخير شاهد ، بدليل أن حضارات ومجتمعات عديدة انقرضت واختفت من الوجود لا بسبب الفقر ، بل نتيجة للانهيار والتردي الأخلاقي ،ولنستذكر هنا قول الشاعر ” انما الأمم هي الأخلاق ان بقيت وان ذهبت ذهبو” ، وقبل ذلك تركيز جميع الديانات السماوية عل أهمية الأخلاق كنهج حياتي ‘ فعلى سبيل المثال ورد في القراّن الكريم ما يقارب الثلثين من التركيز على الأخلاق كممارسة والثلث الأخير على الشعائر والعبادات ، وكذلك الحال ، ما تدعو اليه الديانة المسيحية وفق ما ورد في الانجيل المقدّس .
أحد المظاهر السلبية لحالة الصراع بين الاجيال حول سلطة القرار الاجتماعي، ما نشهده من صراع وتنافس( غير ايجابي ) شديد لدرجة فرض المواقف والميل الى التفرد في اتخاذ القرارات ، ليس فقط داخل المؤسسات ، بل وأيضا وسط الأسرة الواحدة . ، الأمر الذي يتيح توفر التربة الخصبة والأجواء الملائمة لنهج التذمر ودوام التوتر وسط الأجيال الشابة، وخير مثال على ذلك : مواقف الدفع المسبق للمركبات والذي تم فرضه بالبرشوت على الشعب دون أن يرفق ذلك حملات توعوية سواء في المدرسة أو من خلال المؤسسات الرسمية والأهلية، ومانشهده من سلوكيات بعض الشبان على حواجز الاذلال أو حين مراجعة مؤسسات لاستكمال معاملة ضرورية ( بعيدا عن التعميم) جراء غياب الثقافة والوعي بالسلوك االصواب .
مثال اّخر ، هجوم الأجيال الشابة على جوانب مختلفة من اركان البناء الاجتماعي، هجوم على نظام القيم الاجتماعية، العادات والتقاليد ،النظام التعليمي، الاسرة والوجهاء وقادة المجتمع المحلي، ومس مباشر بالأبنية الوسيطة كالجمعيات والاتحادات والمؤسسات المهنية وغيرها، مما أدى الى ارتفاع ملحوظ في حالات التنمر المجتمعي والاقتتال الداخلي الأمر الذي قوّض فرص معززات واستدامة السلم الأهلي ،وما نشهده من حالات الاندفاع الشبابي في ذروته خاصة هذه الاّونة، مما يوجد اضطرابات سلوكية تتعارض مع مصالح وطبيعة النسيج الاجتماعي وضوابطه، الأمر الذي يعمّق من حالات الأزمات الاجتماعية كما نشهد هذه الأيام .
ليس من باب المبالغة القول بأن هذا الجرح هو من اخطر ما يهدد ليس فقط النسيج الاجتماعي، بل وأيضا الانضباط والاستقرار النفسي لدى جميع فئات المجتمع ، وهذا يقودنا الى السؤال القديم الجديد : ما العمل اذن ؟
كثيرة هي الأسئلة والتحديات الخطرة امام خبراء وعلماء النفس و الاجتماع وامام قادة الشعب السياسيين , بدءا باتجاهات صراع الأجيال الدائر في الوطن المحتل , واتجاهات الأزمة داخل البناء الاجتماعي, والى أين ستقود؟ وما مدى تأثير هذه الأزمة على اهداف الشعب الفلسطيني ومستقبله؟ مطلوب البحث عن حلول من خلال تضافر الجهود للحد من تواصل مثل هذه الأزمات وان أمكن القضاء عليها ، وضرورة ايجاد بدائل تحافظ على النسيج الاجتماعي، وفي نفس الوقت تضمن نفض الغبار عن الفاسد ، حلول تضمن بناء متكامل ومحاولة معرفة ما اذا كانت استعادة الهيبة للسلطات التقليدية وليس على حساب أي طرف كان!!
اقول ذلك وفي ذهني الاعتقاد بان الاتجاهات النفسية للشعب تجاه الواقع المأساوي الحالي، هي على النحو التالي:
⦁ في البداية، كانت الناس مشاركة وجامحة للتغيير .
⦁ في خضم الحدث بات البعض متفرجا ثم أضحت الغالبية متفرجة وكأن لسان حالها يقول ” طلعت بعدت عني بسيطة” .
⦁ لاحقا ، أخذ البعض يتذمر ويهمس بأن ما يجري هو بمثابة مصدر خنق لحريته الشخصية، وكأنها شكل من أشكال العقوبة.
ان هذا التراجع في المشاعر والاتجاهات النفسية، له اسبابه الموضوعية التي لا ترد كلها للعامل الذاتي، بل ربما كان نصيب العوامل الخارجة عن ارادة الشعب هي صاحبة الحصة الأكبر في هذا التراجع، ولعل تشخيص ما يحدث على ساحة الميدان الاجتماعي، يساعدنا في هذا التراجع وبعض اسبابه .
ولسوف احاول في العرض اللاحق تسليط الأضواء الى احد فروع الانساق الاجتماعية في البناء الاجتماعي الفلسطيني خلال حقبات تاريخية متفاوتة ،وبالذات على مجموعات الشبان المطاردين، وفئات الأسرى المحررين وأبناء العئلات الثكلى ،الذين اعتقد اننا بصمتنا تجاه قضاياهم ومعضلاتهم نساهم بغير قصد منا في العزلة المطبقة حولهم وتهميشهم ، متناسين أن هذه الفئات ، بالطبع، مسكونة بطاقات ثورية هائلة اذا ما احسن استخدامها، بدلا من تركها تتجه نحو التخريب ،يتوجب توجيهها نحو مسار النضال الوطني والبناء وبالتالي تبدأ غالبية الاضطرابات السلوكية بالاختفاء والتلاشي اذا ما أحسنا التعامل معهم.
وأخيرا نقول اذا كان بيننا من هو معني بالمحافظة على النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتصويب العلاقات الاجتماعية ، فهو مدعو للمشاركة في متابعة الموضوع والمساهمة بأي جهد ممكن، وأي جهد ستكون له آثاره الايجابية بسبب ندرة الاهتمام بالعمل في مجال الصحة النفسيّة والعمل الميدان الاجتماعي، اضافة الى ضرورة ايلاء منهاج التربية الوطنية قسطا وفيرا من محتوياته، على هذا الجانب الهام ، مع التركيز على تكثيف العمل الجماعي لدفع نهج حل النزاعات بطرق سلمية ( نقترح هنا الرجوع الى ” استراتيجية السلحفاة في حل النزاعات – للكاتب) وتعزيز لغة الحوار كأسلوب حياة وهما الركيزتان الأساسيتان في مجابهة العنف( بكل أشكاله) والحد منه ان لم يكن القضاء عليه.
إقرأ أيضاً : رؤى (5) الحاجة الى توطيد العلاقات الاجتماعية ، بقلم : د. غسان عبد الله
إقرأ أيضاً : رؤى (4) ، اّليات للانتقال من حالة الهشاشة الى حالة المناعة النفسيّة بقلم : د . غسان عبدالله
إقرأ أيضاً : رؤى (3) ألثالوث المحرّم عند التعامل مع طفلك بقلم : د. غسان عبدالله
إقرأ أيضاً : رؤى (2) ، العنف ليس قدرا ، بقلم : د. غسان عبد الله
إقرأ أيضاً : رؤى (1) لمواجهة اّثار العنف المحلي ، بقلم : د. غسان عبدالله
إقرأ المزيد حول الدكتور غسان عبد الله – القدس