كيف يتم التحكم بالأفراد ، بقلم : ربى عياش
يهيّأ لك أحيانًا أنك داخل لعبة كبيرة، وربما أنت مجرد جزء صغير يلعب دوره رغمًا عنه. ربما لا يعجبك سير الأحداث والحياة، ولكنك تجد نفسك مرغمًا أن تكون جزءًا من نظام، متفق عليه بشكل واعٍ أو غير واعٍ، تسير به الأمور بعشوائية منظمة، لكنها تخدم المطلوب: أن يتم التحكم بالأفراد.
بداية، إنّ ما يتم طرحه ليس بسياق “مؤامرة”، إنما بسياق رؤية لكيف يسير هذا النظام العالمي، خاصة في ظل انفتاح المجتمعات على بعضها، وتواصلها وربطها من خلال تطور الأدوات، ما سهّل التحكم بها، وأعطى فرصة لنخبة النظام، أي الأقوى، بتطويع أدواته من العلم والمعرفة والتكنولوجيا لإحلال واقع معين لتسيير المجتمعات وضبط أفرادها، أي الأضعف.
تستطيع القول، الأمر أشبه بتعاون نخبة النظام وقادته وصفوته بكافة القطاعات، من السياسة، إلى الاقتصاد، إلى الأمن، إلى التكنولوجيا، إلى المؤسسة التعليمية، والمؤسسة الدينية، إلى الإعلام وصناعة الفن بكافة أشكاله وغيرها من القطاعات للوصول إلى الهدف المنشود: أن يتم التحكم بالأفراد.
ربما لا أحد يريد القضاء على البشرية تمامًا، في النهاية الأفراد هم من يعملون وينتجون السلع التي تريد النخبة بيعها، وهم سوق الاستهلاك ذاتها التي سينتهي بهم المطاف لشراء ما تبيعه النخبة. إذا لا أحد يريد القضاء تمامًا على الأيدي العاملة التي تدفع الأموال والضرائب للنخبة. لكن، ربما سيتم التضحية بهم كقرابين بين الفينة والأخرى، وسيتم زجهم بحروب عبثية قادرة على تضخيم خزائن النخب وشركات الأسلحة. يقولون السلام غير مربح، أليس كذلك؟
ثبت على مدار التاريخ البشري، أنه من الممكن أن يصبح الأفراد جزءًا من النظام المعهود والمنشود، والدليل أن نظام العبودية والإقطاع لطالما كان معهودًا، وربما لم ينتهِ؟ الفخ يكمن بأن يصبح الأفراد جزءًا من اللعبة ثم يصعب إقناعهم لاحقًا بالانفصال عنها. ثم لاحقًا ربما سيفعلون كل شيء للدفاع عن الهيكلية الموجودة حتى وإن كانت هي سبب مأساتهم ومعاناتهم، وقلة ستكون واعية بحقيقة المصفوفة. لكن كيف يحدث ذلك؟
الحبال التي يمكن أن يتم ربط الأفراد بها كثيرة، بداية من لقمة عيشهم، بتعزيز “العبودية الاقتصادية”، وأعتقد أن التطرف في تطبيق النظام الرأسمالي، والشذوذ الذي طال تطبيق هذه المدرسة في العقود الأخيرة يُلقي بثقله على الأفراد والمجتمعات، وكان من أفضل الوسائل للسيطرة على الأفراد. المال، حبل غليظ يُربط حول رقاب الأفراد، حيث بداية يتم تهديدهم بسرقة فُتاتهم، والمشكلة أنه مع تقدم العصور والسنوات، تجد أن الفُتات بدأ يتلاشى ويتقلص ويصبح في أغلب الأوقات وهمًا.
جلّ ما يملكه الكثيرون هو وهم الامتلاك، فالمرء في العصر الحديث، يسكن منازل لا يملكها، ويقود سيارات لا يملكها، يصرف ببذخ على كماليات لا يملكها ولا يحتاجها حقيقة. وبذلك يتم ربط الأفراد بالديون، بالبنوك ما يجعلهم عبيدًا للشركات، للحكومات أو للأحزاب، أي لمن يمسك اللجام.
من المفترض أن النظام الرأسمالي يقوم على الحرية المالية وحرية السوق ومنح فرص للجميع بالتنافس والكسب. لكن ما نراه اليوم هو مجرد احتكار للسوق ومحاولة النخبة البقاء وصراع بين حيتان الشركات. أقل جائحة قادرة على هدم واقع ومستقبل الكثير من الأفراد، وإخراجهم من المشهد بسهولة، خاصة بعد جائحة كورونا وتعاظم الصراعات والحروب وسقوط الكثير من الدول. تجد أن السوق بدأ بسياسة تقليل عدد الأفراد وتقليص الأجور ومحاولة استخدام واستغلال أقل موارد ممكنة للحصول على أكبر وأفضل نتيجة ممكنة، في الوقت الذي يتم فيه استغلال حاجة الفرد للصمود في عالم باتت فيه تكلفة العيش باهظة حد الموت من شرق هذا العالم إلى غربه.
أي، يتم توفير كل الظروف القاهرة للأفراد، وبيئة ممتلئة بالتحديات للصمود، ثم استغلال ذلك بمنح الأفراد الفُتات. ومن خلال هذه المعطيات هناك فرصة للسيطرة عليهم وإسكاتهم وإجبارهم بشكل صامت وناعم على التنازل عن جزء من حقوقهم وكينونتهم، والحصول على طاعتهم وأصواتهم.
ثم يأتي دور الإعلام، فيتم الترويج على مدار الساعة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الشاشات، لأفكار تساعد على تعزيز ثقافة الاستهلاك، وربط معنى وقيمة الأفراد بالأشياء. تتم صناعة مجتمعات تنافسية، تعيش على المقارنات، تملك صورة غير واقعية عن ذاتها والآخر. وفي الحقيقة، ما يتم الترويج له ما هو إلا وهم الرفاهية، وهم المناصب، وهم الأنا العظيمة، وهم الإنجازات. فيهرع الإنسان ليل نهار يركض في عجلة فئران، ليصل في النهاية إلى لا مكان، لأنه لن يقنع ولن يرضى بأيّ شيء، ويكتشف أنه بالكاد يستطيع الصمود في هذا العالم لدفع إيجار منزله أو لشراء منزل يؤويه وتعليم أطفاله ودفع فواتيره وتوفير كفاف يومه.
ثانيًا، السطوة والقهر والقوة الغاشمة، من أهم الأدوات للسيطرة على الجموع سياسيًا، حزبيًا، اجتماعيًا، اقتصاديًا ودينيًا. يتم الترهيب باستخدام “زي القانون”، ووضع الأفراد تحت المراقبة باستخدام الأدوات التكنولوجية والرقمية المتطورة.
ثالثًا، تفكيك المجتمعات والأسر، من خلال عفن فكري، وتشويه فكر الإنسان وتعطيل بصيرته من خلال الدين المشوّه، وشحن الجماهير بأفكار متطرفة قائمة على الخوف والكره والضغينة والعنف. يتم تقسيم الناس وتفريقهم عبر أوهام دينية، جندرية، طائفية، حزبية، فكرية، شكلية، إثنية وعرقية، ما يخلق صراعات وعنف لا ينتهي بينهم، ثم يسهل السيطرة عليهم. وكيف يتم ذلك؟ من خلال دعاة الرعب من إعلام وكهنة، وبث أوهام وأساطير وخزعبلات الأولين.
رابعًا، يتم التحكم بهم من خلال استغلال نزعات الأفراد الظلامية، وطموحهم الأعمى للوصول إلى السلطة. الغالبية تشتهي امتلاك زمام السلطة، فـ”الفرد يودّ أن يصبح دكتاتورًا، وقلة من لا يشتهون التضحية في المصلحة العامة من أجل منافعهم الخاصة”. هكذا تم وصف العامة في كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”. بمعنى الجميع مستعد للتضحية بالجميع من أجل فُتات أكثر، ومن أجل أن يصبح من النخبة. حينها ستجد أيضًا منازعات بين الأحزاب بسبب حب الوصول إلى السلطات، والزهو بالمظاهر والألقاب والرئاسات، كل هذا عبارة عن فوضى شاملة وغياب النزاهة وللإنسانية، لتسهل السيطرة عليهم.
وهنا نصل إلى أهم ما يمكن أن يملكه الأفراد: البرمجة العقلية، والوعي الجمعي في المجتمع، الهيكلية الأخلاقية للمجتمعات.
وكيف يمكن الحكم على البرمجة العقلية للأفراد؟ الأمر بسيط، أرني المعطيات ليسهل توقع المخرجات. مثلًا حين يكون الفساد في المجتمعات أمرًا مستساغًا تهلك الأمة. يقول ليو تولستوي “الشخص النظيف يتجول بحذر حول الأوساخ، ولكن بمجرد أن يتعثر، يتسخ حذاؤه؛ يصبح أقل حذرًا، وعندما يرى أن أحذية الآخرين كلها متسخة، فإنه يخطو بجرأة في الوحل؛ ويتسخ أكثر فأكثر”. هكذا تبدو إستراتيجية الفساد حين تتغلغل في ثقافة المجتمع وسلوكه.
إن الفساد الإداري في مفاصل الدولة ومؤسساتها يصبح من أخلاقيات الشعوب، والدول الفاسدة التي لا تمتلك سلم أخلاقيات وقيم واضحة في التعاملات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وتفتقد للرقابة والمحاسبة يسهل السطوة والسيطرة عليها، ويسهل وضع الأشخاص الخطأ في الأماكن الخطأ. يسهل تحليلها، تفتيتها، العبث بواقعها ومستقبلها، نهب خيراتها واستعمارها لاحقًا. ويسهل شراء أفرادها من جهات داخلية أو خارجية.
حين لا يملك الفرد هيكلية أخلاقية وقيمية، تسهل خيانة الحقوق والقضايا. أنا أؤمن أن القضايا موجودة لإقامة وتعزيز واقع يحترم الإنسان وحقوقه، وليس التضحية بالأفراد لأجل القضايا. وهنا يكمن الفخ غالبًا، حين يتم شحن الأفراد بشعارات وتتم التضحية بهم بغوغائية باسم الوطنية والشرف والدين، ثم كل ذلك يودي بهم إلى الهلاك وضياع أكثر لحقوقهم دون وعي منهم، ويصبحون هم ضحايا “النخبة” وأنفسهم.
ثم يتم تحويل القضايا إلى “دكاكين” ومصدر رزق للكثيرين، ومن الممكن العبث بحقوق الناس بسهولة. كما قال نيلسون مانديلا “إذا قبضت المال ثمنًا لنضالي؛ سوف أتحول من مناضل إلى مرتزق”. فيبدأ يختلط على الإنسان التفريق بين المناضل والمرتزق، بين صاحب الحق والمنتفع.
ثم، ماذا سيكون أفضل لتفكيك المجتمعات من الانتفاضات والثورات المشبعة بشعارات وطنية قومية أخلاقية دون وجود قادة ورؤية وبديل إنساني للموجود؟ ماذا سيكون أفضل من ذلك لإضعافها وإخضاعها وتدمير بنيتها الفكرية والمادية والسيطرة على أفرادها؟ برأيي، الثورات والانتفاضات دون هدف واضح ونبيل تصبح مجرد فن خلق الفوضى، ويتحول الأمر إلى عشوائية غوغائية في التعاطي، إلى انتحار جمعي وتدمير للأجيال وتناحر بين الجماعات وتقسيم للبلاد والأفراد ونهب للثروات.
ثم المشتتات.. إذا أردت ضرب دولة أو مجتمع، اقضِ على شبابها بالخمر والمخدرات والصخب والتفاهة. كل هذا يندرج تحت الإلهاء والتخدير والمشتتات عن واقعهم البائس. انفصال عن أنفسهم، عن حقيقتهم، تخدير مشاعرهم، تعطيل فكرهم، يعزز من البلادة والخمول والخنوع لواقعهم. يتحولون لأدوات بيد حزب أو قائد أو جهة حاكمة لتوفير الفتات لهم، فيصبح من الصعب الثورة على بؤس واقعهم والسلاسل التي تكبّل حياتهم.
إن غياب قيم إنسانية قادرة على برمجة الوعي الجمعي البشري بطريقة سليمة لإنشاء مجتمعات محترمة مسالمة وأفراد قادرين على التعايش بينهم، وغياب تطبيق واحترام القانون الإنساني الذي يضمن لأكبر قدر ممكن من الأفراد حقوقهم وحقهم في الحياة الكريمة، وغياب النزاهة والأخلاقيات والقيم النابعة من الفطرة السليمة للأفراد، من الأسباب الرئيسية لنشاز المجتمعات البشرية في عصرنا الحالي وسبب هلاك الأمم.. إذاً، ما الحل؟
أعي أن المجتمعات تحتاج إلى عقود طويلة لإصلاح ما تم إفساده خلال العقود الأخيرة، لكن على الإنسان البدء من مكان ما في ترتيب هذه الفوضى، والبدء باقتلاع العفن، سواء بإيجاد نظام اقتصادي مختلف، عادل ومتوازن لتحرير الأفراد، أو بتطبيق القانون في المجتمعات بالعدل لضبط سير المجتمعات وحماية حقوق الأفراد لا لاستبعادهم، أو بكسر الأفراد للأصنام وعدم التبعية ليبدأ الناس بتحرير عقولهم وذواتهم وإيجاد صيغة تناسب إنسانيتهم بدلاً من الخنوع لأفكار بالية.
كما من المهم أن يبدأ الأفراد بأنفسهم بمراجعة ذاتية وحقيقية لأخلاقياتهم وعقائدهم وأفكارهم وتعاملاتهم وثقافتهم، وهنا يكمن دور المؤسسات الثقافية التعليمية الدينية، والإعلام لمساعدتهم. كما قال دوستويفسكي “نحتاج إلى حرب جديدة أسلحتها الكتب وقادتها أهل الفكر وضحاياها الجهل والتخلف”.
في النهاية، على الإنسان البدء من مكان مّا، فهناك الكثير من العمل المطلوب إنجازه، ولن تأتي كائنات فضائية لإنقاذه. إما أن يبدأ بالإصلاح في وقت قريب، وإما أن يبقى يدور في ذات الحلقات الظلامية، ويبقى قابعاً في قعر الجحيم، وحينها ستثبت توقعات جورج أورويل حين قال “إذا كنت تريد أن تستشرف صورة المستقبل، تخيل حذاء يدوس ويدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدين”.