حرب حتى إشعار آخر ، بقلم : ربى عياش
إثارة غضب البركان سهلة، لكن محاولة إخماده تبدو عملية أشبه بمعجزة. إنها حرب حتى إشعار آخر، والصراعات الدائرة ستولد صراعات غير منتهية. وجل ما ينتظر المنطقة المزيد من المعاناة والاستنزاف على كافة الأصعدة. لأن تفجير البركان أمر يسير ولا يكلف شيئًا سوى رمي حصاة واحدة. ولكن كان على الجميع توقع حجم الضرر والمقاساة التي ستكلف المنطقة والعالم لاحقًا. كان على الجميع أن يكون حقيقيًا مع نفسه، مدركًا تمامًا لنتائج ثوران البركان.
إنه لن يبقى من الشرق الأوسط سوى رماد. وهذا المشهد المتردي المخيف يسيطر على واقع المنطقة وربما سيسيطر لسنوات طويلة قادمة. ما يحدث اليوم يكتب واقع أجيال كثيرة قادمة، وملايين الناس يدفعون وسيدفعون الثمن باهظًا من حياتهم وأحلامهم وأجسادهم وأموالهم وسلامهم واستقرارهم وتجاربهم البشرية وممتلكاتهم وأراضيهم وثقافتهم وإنسانيتهم. العالم بأكمله سيدفع الثمن أخلاقيًا وإنسانيًا وثقافيًا وفكريًا بشكل مخيف لأجيال لاحقة.
ما يحدث اليوم، ساعة بساعة، حدثا بحدث، سيؤزم المشهد ويجعل الملايين يعلقون في منتصف النفق المظلم. سيعانون من الاقتصاد المتردي الذي يُتوقع أن يتردى أكثر. سيسيرون في طرقات غير معبدة ودروب هشة وبصيرة معطوبة. سيمشون بخطوات متثاقلة في مسار غير واضح، وسيصبحون جزءًا من صورة مشوشة.
أهذا ما كان يستحقه الإنسان؟ بالطبع لا. حتى وإن كان يعاني من ظلمات بصيرته ويظن أن في الجحيم خلاصه. على المستيقظ أن ينتشلهم أو يحاول على الأقل قيادتهم لمستقبل أفضل، لواقع يحترم وجودهم وإنسانيتهم، أفضل من هذا الواقع المأزوم والمتشرذم.
في النهاية، الحياة حدثت، وما حدث حدث. وهناك من قرر المسار المنشود للملايين من أهالي المنطقة، وألقى بالجميع في قعر الهاوية. وللأسف، لا خيار للعودة إلى ما قبل ما حدث. الشرق الأوسط يحتضر، وربما قدره أن يشهق شهقته الأخيرة ثم يولج من رحم موته “شرقًا أوسطَ جديدًا” بحدود مختلفة وأطراف مغايرة وثقافة أخرى وبرمجة معاكسة.
إذًا، هل سيكون شرقًا أوسطَ أفضل؟ لم أقل ذلك. قلت جديدًا، لكن من المرجح أن يكون مخيفًا أكثر. لماذا مخيفًا؟ اُنظر إلى الشرق الأوسط، ماذا تجد؟ المنازل استبدلت بالخيام، المياه ملوثة، الطعام استبدل بمعونات هشة، المدارس مدمرة والمستشفيات على شفا انهيار. وجل ما يملكه الأفراد بين مشاهد الركام وأشلاء الجثث مزيد من الغضب والسخط على واقعهم وعلى كل الأطراف التي جعلت حياتهم جحيمًا.
إذا، أي بذور تتوقع أن يتم غرسها الآن؟ وأي ثمار تتوقع أن تقطفها الأجيال القادمة؟
التغيير يحدث يومًا بعد يوم، إثر موقف تلو الآخر. هل التغيير للأفضل؟ لا يبدو ذلك. لا أحد قال إن التغيير دائمًا يكون للأفضل. لكن، كل شيء قابل للتغيير. أو ربما، ربما، ستكتفي المنطقة بتكرار التاريخ وتجسيد ماضيها في حاضرها. أن تبقى المنطقة أسيرة لعنة الدوران في حلقات مفرغة. أي، بعد مئة عام من اليوم قد تبدو الخريطة مختلفة. كالعادة، تتم إعادة ترسيمها بين الأطراف وفرض تغييرات ديموغرافية وجغرافية. والتاريخ يشهد على ذلك. فلطالما كان يحدث ذلك، والشواهد كثيرة، بصراعاتها وحروبها ومعاركها.
ثم، ماذا علينا أن نفعل في ظل كل هذا؟ لا أعلم، حقًا لا أعلم. إن الإنسان يكتشف أنه أضعف من أن يغير شيئًا في هذا العالم، أوهن من أن ينقذ هذا العالم من غرقه في وحل السياسة والصراعات. لكن علينا تغيير المسار. أن تتم برمجة البشر ببرمجة عقلية وفكرية أغنى وأفضل. لأن جورج برنارد شو قال “من لا يستطيع أن يغيّر عقله، لا يستطيع أن يغيّر شيئًا”. لذلك، إن لم يبدأ الناس بالاستيقاظ وتغيير المسار الذي ينتهجونه، إن لم تعلُ أصوات الحكمة على صوت الفوضى، إن لم يبدأ صوت العدالة والحق في الظهور أكثر، لن تشرق الشمس من جديد على الشرق الأوسط وسيبقى وكرًا للرعب حتى إشعار آخر.
من الضروري، بعد الحرب، العودة إلى النواة وتجميع طاقة المجتمع من جديد. أن يلملم الأفراد أشلاءهم، أفكارهم، طاقتهم، علمهم، والاستثمار في أنفسهم بحكمة. رفض التبعية لأي جهات وتكون الغلبة للمصلحة العامة.
لكن ما أراه الآن، بحسب ما يحدث الآن، لعل البعض سيقاتل في الساحات إلى آخر رمق، وآخرون سيقفون على ضفاف المشهد ينتظرون انتهاء الحرب ليجمعوا بعدها الغنائم. لكن، يومًا ما، بعد شهر، سنة، أو سنوات، سيعلو صوت الصمت، وسيتوقف إطلاق النار. لا بد من ذلك. لا حرب تبقى إلى الأبد. سيعود كل مقاتل إلى منزله من جديد، وسيجلس كل ناطق باسم جهته على طاولة التفاوض. والمنتصر في أرض المعركة سيخط واقعًا يشبه أهدافه وتطلعاته، وسيفرض مشيئته على الجميع. ثم نبدأ بعدها حقبة جديدة، مع إرث مظلم. سيتم توريث كم هائل من الاحتقان والغضب والسخط في قلوب الأفراد للأجيال القادمة. وكل 20 عامًا سيثور البركان من جديد.