شفا – بعض من كتابات الكاتبة سحر سليمان وهي كاتبة سورية وتقيم في فرنسا
بطاقة تعريف الكاتبة
سورية من مواليد الرقة 1966
متزوجة ومقيمة في باريس
تكتب القصة القصيرة منذ 1997 وتنشر في العديد من الصحف والمجلات السورية والعربية
ونالت العديد من الجوائز
الإصدارات
مجموعتها الأولى “حرق الليل” صدرت عن اتحاد الكتاب العرب عام 1997
والثانية “الهجرة من القدر” عن وزارة الثقافة عام 2003
تكتب الشعر النثري
الأعمال المعدة للطبع
مجموعه قصصيه ثالثة ومجموعه شعرية
حالة عامة لفنان متفرد
مضطرباً كبر كان هائج, كصيحة غضب, هكذا كان. والصباح الربيعي يقدم ورقة اعتماده للذاكرة. ويرزم مابيصره فوق أرففه السندسية , وتصفع الرائي عبارة سطرها ذات يوم على ورقة صغيرة قصها من هامش صحيفة يحملها ودس الورقة في جيب سترتها . حين قرأتها عرفت أنه صاحب الورقة نفسها التي كتب عليها: ((يا لله علمني لغة الطيور)) هذه الورقة التي غلفتها ضد صدأ الأيام وأطرتها لتعلقها جانب أول لوحة أهداها إياها. لكن هذه الورقة الثانية تحيداً ماذا سأفيد منها, بل أين سأعلقها؟ كانت نار الأسئلة تلهب دمي فقد مللت لعبة تبادل رسائل الغرام التي تعيد بي الذاكرة إلى مرحلة مراهقة مضت منذ زمن بعيد وخلسة ذات صباح دونت على قصاصة ورق بحجم الكف صباح الخير: قلتها لك ولم أكتبها ومنذ ذلك اليوم أغلقت كل أبواب الخير في وجهي لعل ذلك لأني أدركت بحدس حواء أن الحزن سيرافق رحلتي معك وفعلاً رحلت عني وعن مدينتي حتى بلا وداع أو رنين هاتف معتاد كما كنا اتفقنا , أو عبر ورقة صغيرة ترسلها خفية إلى شرفتي , هذه الشرفة التي كثيراً ما تغنيت بظلامها, عصافيرها, ورودها, حوريتها جمع لوحاته وحقائبه وغادر . متى وكيف . إلى أين……؟؟ سألت طويلاً و كثيراً وكأن آثارك قد أمحت, أو كأنك رحلت إلى كوكب آخر وماذا تفعل امرأة حَزمت حقائب قلبها معلنةً الهجرة. إلى أين تروم الوصول أيها القلب مع رجلٍ كهذا ؟ أجل, كثيراً ما سألت قلبي هذا السؤال و أين ستفرد بعد غيابه حقائبك ؟ هل أصبحت امرأة مخذولة . أم مكسورة ؟ وتلاشت أشلاؤها على بقعة من الأرض التي ترفض الامتصاص وأيضاً لاتقبل الرفض كتب لها مرة أخرى بعد أن مرّ زمن طويل على غيابه مسوّغاً: إنه لا يريد لأبيض ألوانه أن يمتزج بسواد دمعها المكحل مردداً: (لا يمتزج الأسود والأبيض , وجود أحدهما انتفاء للآخر ) هكذا كتب حول اللوحة التي وصلتها . لوحة امرأة يمتد على وجهها سلم خشبي وفراشة تريد أن ترتقي أعلى السلم كي تستقر على شعرها, شعر المرأة المتناثر وصلتني اللوحة دون عنوان مرسلها مع بطاقة بخط يده قد كتب عليها: ((قال العرافون: (ستحب امرأة تجعلك تسهر الليل تحت شرفتها وسيكون قلبك أسيراً في قفص عصافيرها كطائر خذله جناحاه ).)) علقت اللوحة على الحائط الذي خصصته له , لأوراقه المرسلة ولوحاته . قصاصات الورق واللوحات والبطاقات جعلتها تعلق و تهز رأسها قائلة: ((لو أنك أتقنت لغة قلبي لكان القلب عصفوراً هائماً يطير إليك على الدوام )) ومضت أيامها برتابة محضة ألفتها روحها من قبل , وعلمت أن القلب لا يخفق عالياً لرجل آخر, وكانت تقتات الذكريات التي كثيراً ما أبكتها وآلمتها وآلمت أنوثتها المثكولة . وكم شعرت بنقص في نفسها وربما أفكارها ووعيها وجسدها حين هجرها طائعاً راغباً ورحل ربما إلى امرأة أخرى اختارها عاشقاً لكن لماذا يتقصد أن يجعلني أعيش شعوراً يعذبني؟ ولماذا يحرص على آخر خيط لما يزل بيننا ؟ لماذا يترك نبض القلب موارباً ؟ ولماذا لا يترك نباتات القلب تتصحر وتجف ؟ كل مدة يجعل زخات مطره تهطل على أرض القلب فتحييها, هل لأنه يعرف جيداً أنني مازلت أفكر به وأتذكره كرجل أتقن لعبة الحب وأتقن تغيير الأقنعة وتمثيل دور المحب؟ هل يخلق حالة عشق وهمية تسيطر عليها رائحة أنثى وطيف أنثى؟ حين أذكر كلماته أستنشق رائحة الغدر والهزيمة المرة لقلب أنثى تفوح من تلك القصاصات فتنتشر رائحة الغبن ولون الدموع في المكان. ((نقيضان لا يلتقيان, الأبيض ليس بديلاً, كما أن الأسود ليس مساحة, إنه كذب )) وضعت خطوطاً حمر تحت كلمتي الأبيض. الأسود . هل الأبيض عاطفتها وقلبها وأحاسيسها المرهفة؟ وهل الأسود هو أصداء الكذب والحالة التي آلت إليها أيامي؟ كثيراً ما كنت أجلس و كأني في حافلة أود السفر . أجلس وأقرأ كل ورقة بتسلسلها الزمني و كثيراً ما كنت أبكي وألوم الروح. أما الآن فتمر هذه الأوراق أمام عيني عشرات المرات في اليوم لكنها كبقايا أثرية لرقم طينية لا أستطيع فك طلاسمها, لا تمت للفة الآرامية أو الهيروغليفية , إنها لغة خاصة وحده صاحبها يعرف كيف تُكتب وما نوعية الحبر الذي يستعمله. ومتى وكيف ؟؟؟ انقطعت رسائله بغتة, هادنت لوحاته الصمت وارتكنت كلماته الغياب فغدت أشبه بمزاح مطر الصيف ونسيته. أجل نسيته. نسيته فعلاً ما عدْت أن رجلاً بحياتي مرّ يحمل اسمه. شكله. لونه. وفعلاً نسيت كيف التقينا . تعارفنا. أحببنا تراكمت عدة ذكريات فوق رصيف الذاكرة الأولى وكأني بدأت حين أذكره أدخل قبواً متعمداً لأبعد عدة ذكريات بعيدة وأنتشل ذكرياته منها كي أذكره وهذا ما لا أريده لروحي الآن. وذات مساء بعد أن أنهيت من عملي مررت بصالة العرض الوحيدة في مدينتي لأجد حشداً كبيراً من الجمهور وملصقا تعلن عن معرض لفنان. فدخلت لألقي نظرة على اللوحات وأعرف من هو الفنان الذي يُحتفى به على هذا النحو. آآآآآآه …. إنها لوحاته هي. لوحاته التي أعرفها كما أعرف وجهه الذي تغير كثيراً وعلى بعد أمتار وقف رجل أعرفه, وأعرف رائحته, مراوغته, جانب ذلك الرجل وقفت امرأة تمتشق بطولها كل نساء اللوحات و كأنها هي, ولا تعلم أن كل لوحة قد خص بها أكثر من امرأة مقنعاً كل واحدة منهن بأن اللوحة تخصها وحدها. اقترب الرجل الذي أعرفه جيداً و قدم وردة حمراء لتلك المرأة التي تتوجه إليها عيون الحضور في الصالة إلا عينيّ اللتين كانتا موجهتين إلى وجه الرجل, أريد أن أتسلل إلى ملامح وجهه ونبضه كي ألتمس صدقاً يفتقده كثيراً,لعلي أعرف أيّة امرأة الآن أمامه .
_ أشكر المرأة التي أحببت منذ أن خُلقت…… ووجم وجهي .
_ أشكر المرأة التي تساعدني منذ أكثر من عشرةِ أعوام…. صُعقت
_ الوردة لكِ سيدتي … ملهمتي … صوتي وملامحي.
إن في شعرها سواد لوحاتي و بياض اللوحة عطر روحها . جمدت خطواتي وكأنها ألتصق بأرض الصالة مجبرة . كيف يتحدث عن امرأة يحبها أكثر من عشرة أعوام وآخر أوراقه الهامشية مكتوبة إليَّ منذ سبع سنوات فحسب ؟ أي قناع يضع, و أي رجل يتحدث, ما رقمه, عدده, اسمه ؟ خرجت من الصالة أحلق تحت حبات المطر وأنا أكتم بداخلي قهقهة شائكة لماذا يقدم لها اللون الأحمر الذي ينفيه من لوحاته ؟ هو يعشق الأبيض الذي لا يعيشه . فأين هي مساحات اللون لأبيض في قلبه؟ . تذكرت آخر ورقة كتبها , فوقفت أمامها طويلاً أقرأ كلماتها و قطرات المطر تنثال من شعري وثيابي , أستمد الدفء من ورقة وأحرف حقّاً هي أصدق من كاتبها الذي قال يوماً: ((يا لله علمني لغة الطيور… فقلبي عصفور معلّق في غرفتها…. يا الله علمني لغة الطيور كي لا يخونني طائر قلبها حين يحادثني … )) الآن تلوذ بعيني رائحة نجوم بيضاء لم تمطر أبداً على رأسي. تأملت اللوحة مع هذه الكلمات طويلاً, ودلفت إلى عتمة لأمحو من عيني نكهة الألوان المزيفة ……. فلم أشعل ضوء غرفتي هذا المساء .
لعبة النوم
تبدأ الليلة بسيكارة لكنها قد لا تنتهي بعلبة سجائر . هكذا اعتدتُ أن أُلاعب النوم بالسكائر المطفأة كل ليلة , بعد أن فارقت صديق الأعوام الثلاثين واكثر أرفع الغطاء عاليا ,جيدا , حتى أتأكد من انه قد غطى جسدي وراسي . لتزورني أطيافك وكلماتك فأحاول الهرب منها إلى اليقظة في عملية أغاضة للنوم الذي يهرب من جفوني. فأوشوش لروحي أنني سأنهض واصنع الشاي وأشعل السيكارة و …و…….و…. النوم يدنو مني بخدر لذيذ, يداعب الوسن أجفاني وإذا أغمض عينيَ تعاود صورتك الظهور أمامي فافتح عيوني بسرعة كي اتاكد من ثبات الأشياء حولي وأعاود ملاعبة النوم ثانية أغمض عينيَ مجبرا وارضخ لاستعيد لحظاتك الأخيرة المرَة وأنت مستلق على سرير المستشفى فاقد النطق والحركة يمنعك جبروتك….من أن تبدو ولو لحظة في موقف الضعف. و أن تمسك بالقلم و تكتب ماتريد النطق به . لكن لماذا لاتمسك بالقلم و تكتب لي مايدور على لسانك دون أنا تصلني أحرفه بلغة سليمة مفهومة؟ ترفض أن ترد علي وتبقى عيناك تنتظران لحظات الإغماض الأبدي, مازالت روحك حتى الأنفاس الأخيرة عنيدة , رافضة , متمردة , مازالت الدروس الأولى التي تلقيتها من الملاّ”1″ تقرع أذنيك لتستمر عذابات حياتك و أنت الرجل حقاً بينما وهي المرأة الضعيفة الخائفة اختارت اقرب الطرق كي تتخلص من حياتها وأبقى أنا جنيناً في أعماقها. النتيجة لديها كانت واحدة رغماً من الخيارات الكثيرة للوصول إلى نحبها, أن تزوجت أخاك فالفضيحة ستلم بالعشيرة وربما بالقرية والقرى المحيطة بها حين يكتشفونني جنيناً . وإن هربت مع حبيبها” والدي ” أ؟أيضا, الرصاصة أو الخنجر ينتظران جسدها الغادر, لذلك قررت أن تنهي حياتها و تقضي نحبها منهيةً فضيحتها بيدها, فالموت يلبسها كما تلبس ثوبها, وأنا الآن لا أريد أن ألومك أو أقاضيك على الرغم من مرور تلك المدة كلها , فما أورثك إياه الملاّ لم يكن باستطاعتك أن تتخلى عنه أو تتراجع. و مما زاد الأمر تعقيد وصعوبةً وفاة أبيك وتسلم عمّك زعامة العشيرة, وهناك للزعامة أمور يجب أن تفرض هيمنته وسيطرته بان يطيع الجميع أوامره إلا يرفع احد نظراته بوجه الزعيم, فقرر زواج ابنته منك. كيف لا وأنت ابن عمها . ولكن كيف أوافق وأنا اعلم بعشقها لقريب لها. ثم حاولت بشتى المسوغات أن تبعد نفسك عمّا يرغبه الزعيم . حاولت أن أتهرب من الموافقة على ما يريده عمي ” الزعيم ” لتتحول هيمنته على أخي الأصغر لكن عبثاً كنت أقنعه بعدم الرضوخ لرغبة عمي إلا انه كان يسوغ ذلك بقوله: أنها عرضنا وشرفنا وعلينا أن نستر عليها. لكني اعرف طيش أخي وجنونه فهو سيقتلها مفتخراً بأنه غسل عاراً كان سيصبغ وجوه رجال العشيرة كلها. كيف اوجد الحل ؟ و كلمات أبي مازالت تتردد أمامي : إياك أن تطأطئ الرأس . دع روحك متمردة ضد الأعراف و قوانين العشيرة برمتها. لكن ما مصير تلك المخذولة ؟ انه يرتسم أمامي, جسدها يقطر منه الدم الغامق وهي مرمية على ارض قد ضاقت بجسدها الطفو لي, فالعشيق عشيقها رحل بعيداً بعد أن رُفض طلبه الزواج منها عدة مرات و العذر انه ليس بأبن عمها المباشر , وهي تتوارى بجسدها لكن فضيحتها تزداد نمواً , هل أكون أنا من قد عجل بقتلها ؟ موتها, انتحارها, كيف لي أن أتزوجها وأنا اعلم أن كل مسام جسدها تختلج شوقاً و حباً لرجل آخر سواي ؟ كيف اقتل قلباً نبض وخفق مرة وأعلن التحدي ؟ والأبشع من كل هذا كيف أسجل طفلاً على اسمي وهو ليس مني ….ولو انه قريب لي…. لكنها …. ابنة عمي كانت الأقرب والأسرع والأقدر منا جميعاً على اتخاذ القرار حين صبت الكيروسين على جسدها وأشعلت عود الثقاب, لكنها ولخشيتها على الجنين وليس على روحها التي بدأت النار تستطعم لحمها هرعت إلى وسط الدار تستنجد وتصرخ: هوارى, هوارى,هوارى “2”.وكان صراخها المدوي يشق سكينة المكان, إلا أن النار كانت أسرع منا جميعاً مثلما هي صاحبة هذي النار التي التهمت اللحم البض و القلب النابض والأحلام الجميلة و العشق الذي داهمها ذات مرة إثر سهرة في تلك الأراضي المشرفة على السهل فاستسلمت مع ضوء القمر الفضي , وكانت تلك الليلة بحبها الفضاح . رفضت أن يرافقها احد حين قررت أخذها إلى المدينة لإسعافها. اليست خطيبتي ؟ الست الوحيد الذي يعلم بحملها أنا وأمها المسكينة المغلوبة على أمرها ؟ لقد أسرّت لي بذلك حين حاول أبوها أن يجبرني بالزواج بها فطلبت لقائي سراً, وكيف أنسى ذاك اللقاء حين ارتمت على كتفي ليست أما ولا حبيبة ولا أختا ولكنها إنسانة , أنثى ظُلمت لأنها أحبت و صدقت .انتحبت بذل ولوعة ومرارة وطلبت أن لا أوافق على طلب أبيها فهي لاتريد لي المهانة و الغبن . لكني شددت على كتفها, أنني معها. في المستشفى قلت: أني زوجها وهي حامل بطفلي ولم تستطع تدارك النار التي اشتعلت بثوبها ثم بجسدها, قال الطبيب : قد بلغت حروق جسدها درجة كبيرة لكننا سنحاول قدر الإمكان الإبقاء على حياة الجنين و كمحاولة لإرضاء روحها “التي ألقت بها للنار لكنها حين شعرت بجنينها يرفض أن تأكل النار حياته وحلمه استنجدت بي ” وهاأنا ذا أوافق لكن اشترطت على الطبيب أن يبقى أمر الجنين سراً بذريعة: كي لا يأخذه أهل زوجتي مني. لكنه يحتاج إلى حاضنة ليكمل أيامه. رضخت مرغماً وحين استلمت الجثة رافقتها إلى القرية وحدي . شعرت بها تنام بعمق بعد أن ارتاحت من الحيرة التي أكلت عينيها و جسدها . ها هي تغفو وحيدة, عارية, لا تخشى علوا بطنها ولا حروق الجسد, حزمت صرة الثياب واتجهت معلناً الرحيل دون عودة أبدا إلى تلك الديار لتستمر الرحلة إلى هذه اللحظات. فأنت الآن شابا وستفهم ما قصصته عليك. اطلب لروحها المغفرة و الرحمة . هي ماتت, لكن والدك مازال حياً وأخاله يعتقد انك احترقت في أحشاء أمك. فلا يجرؤ على السؤال عنك أي فرد من العائلة وأنا بغربتي الطويلة أخفيت كل ما يتعلق بك عنهم . أنت دوائي ودائي وداؤود ” داوي ” ابني وابن أختي . أنهى حكايته وراح في غيبوبة مرضيّة , دامت اشهراً ليزفر بعدها آخر أنفاسه وهو مرتاح الضمير. وقد أدى الأمانة , أفشى السر ليتركني العب لعبة النوم والنار, كل ليلة فانا أحاول أن استعيد طقس أمي الليلي حين أشعلت النار بجسدها, استعيد حروقها, واستمع إلى صوتها, يصرخ بي وسط السنة النار, وتمد يدها إلى أن اسمع صراخها: آآآآآآخ لِمن آ…… خ …..لِم…. ن “3” وتذوب أحرف كلماتها في النار التي صهرتها وحرمتني منها, وأنا يا أمي……….؟ أيحق لي أن ألومك ؟ أحاسبك على عشقٍ فتك بكِ وبي ؟ أم اعتب على من تولى تربيتي و تعليمي ! وتحمل مشاقاً لاتنتهي ليوصلني حتى هذا العمر, ويجلسني أمامه كل ليلة يسكب الشاي ويدخن, ويتحدث تارة, ليمسح دمعة انحدرت حتى شاربه الأسود.قصة امتدت ثلاثين عاماً علمت من خلالها إننا غرباء قادمون من ارض بعيدة, داهمها الحرب لتشتت أسرته. ولحرصه علي بعد أن توفيت زوجته ” أمي ” هرب بعيداً عن الحرب, هكذا كان يخبرني, انه مشتتون ضالون لا يعلم أحدهم أخبار الآخر . لكنه الآن يخبرني بصدق قصتي التي لا يشابهها إلا تصرفي الناري. فأنا كل ليلة أُطعم النار بعض الأوراق وعلب الدواء والسكائر لأجري محرقة أمامي من نوع خاص .
“1” : الملاّ : هي مرتبة دينية عند” الأكراد ” أي الشيخ
“2” : هوارى : مفردة باللغة الكردية تعني ياويلتي .
“3” : آخ لِمن : مفردة باللغة الكردية تُقال في حالة الحزن والقهر .
البديلة
هل هي روح أمي التي فارقت جسدها بعد أن وضعت طفلها الخامس والأخير هي من لعن هذه الدار ؟ وهل للأرواح لعنات تصيب الأمكنة في كل الأزمنة؟؟! انه البناء ذاته يقبع في زاوية شارعنا ,تقابله المقبرة التي حُولت الى مقصف أو خمارة ,تحول هي الأخرى الشراب في الكؤوس إلى دبيب نمل وخدر في عقول الرجال , فيتحولون إلى أشباه أجساد في آخر الليل, أنها المقبرة التي تضم جسد آمي ولا زالت روحها كأرواح الأولياء الصالحين تحوم في المدينة مابين المقصف والبناء الذي ليس بالمهجور ولا بالمسكون, بقي مثل أوابد التاريخ مهجورا فلم يرض مالكه أن يبيعه فهو يحمل اسمه, ومازالت أرمته الطبية تشير الى ماكانت عليه حالة المنزل سابقا, هُجر البناء, فلم يعد الأطفال قادرين على البقاء فيه ولو ليلة ,ولا احد يدرك السبب أو يتذكره, كانت روح أمي ليلا تنتقل في غرف البناء وطوابقه ,ثم تعود الى لحظة مفارقتها الأولى للجسد, خرج جسدها وحيداً غريباًعن روحها.خرجت من الباب الحديدي الأسود الكبير بعد أن ولجته وأنا صغيرة مع أمي وجدتي وصرة ثياب المولود الجديد الذي ستضعه أمي ,وهي ظانه أن كثرة الأطفال ستمسك بالرجل كما تظن بقية النسوان ,لكن أمي ماتت ولم تستطع كثرة الأطفال أن تمسك به أو تعيده إلينا ,لم تستطع القابلة التي ولَّدتنا جميعاً أن تولَد أمي ليلتها فلجأت جدتي أم أبي إلى الطبيب الوحيد في المدينة ترجوه ولم يرفض طلبها, والجيرة القديمة فرضت عليه ذلك. ذهبنا ليلاً الى منزله الذي خصص منه القبو مستشفىً صغيراً لمرضاه في حالات الضرورة ,دخلت جدتي مع أمي وبقيت أنا مع صرة ثياب القادم الجديد. بدأت اسلي نفسي بالنظر الى جدران القبو وبعض البقع الحائلة اللون الملطخة على الحائط, ترى كم طعنة سكين استطاع الطبيب مداواتها ؟ أو كم رصاصة غدر استطاع أن يخرجها من أجساد المرضى الذين ملكت أجسادهم هذه المقاعد المتهرئة الجلد؟؟ خرجت جدتي من الغرفة لتقطع عليَ متعة النظر وتبشرني بولادة الأخ الخامس. وبهذا بقيت الابنة الكبرى والوحيدة, تناولت جدتي صرة الثياب وعادت إلى الغرفة فلحقت بها كي اقترب من أمي المنهكة ووجهها المتعرق الأصفر . بينما الطبيب وجدتي يدبران أمر المخلوق الجديد وهو يعلن ضيقه وتملله من حياة سُحب إليها رغماً عنه.بدأت امسح عرق وجه أمي ,واقبل قطرات الدمع على خدها ,فانا اعرف حزن أمي لأنها تلد ولا احد في الخارج ينتظر البشارة بالمولود الجديد.تناولت من يد جدتي طفلا خرج للتو من رائحة أمي ودمها ,رحمها ,عرقها , طفلاً مازال لايجيد إغماض عينيه, طفلا مازال يستطعم شيئا ما عالقاً في فمه, كنت بين لحظة وأخرى تمد يدك لتمسك بشي قد الفته لكنك افتقدته فجأة, تخشى السقوط فما زالت صدمة السقوط الأول تسيطر عليك, انشغلت بالتحديق إليك وتفحص معانيك بينما أمي تحاول أن تنزع خاتماً من أصبعها وجدتي تنزع عن أذنيها القرط,قالت جدتي : ابقي عند أمك بينما اذهب دقائق وأعود . خرجت جدتي بسرعة يسبقها الطبيب الذي قال لها بضع كلمات لم اسمعها جيداً. بقيت معك ومع أمي ووجهها الأصفر,وكان الدم لم يدخل لحظة الى عروقها الصغيرة الظاهرة ,وضعتك جانب أمي واقتربت منها لأجيب عن سؤالها :(الم يأت أبوكِ)؟ أجبت على سؤالها بحركة من رأسي تومئ بالنفي ,وكأني أخشى النطق.احتضنتك أمي وهي تتأمل وجهك الصغير , ربما تبحث فيه عن منقذ أو ربما برقية حضور لي أبي , أبي الذي لم نره منذ مدة طويلة,ودائما كنت اسأل نفسي : أين يذهب أبي ؟ولماذا لاياتي إلينا ؟وكيف تحمل أمي ؟فوالدي يأتي وقلما يختلي بها, لكنها فور عودته إلينا تنسى مدة غيابه الطويلة وتحاول بشتى الطرق أن تزهو بعلو بطنها بعد غيابه بأشهر وكأنها تبرهن لهن أنها مازالت مرغوبة لديه ,مازال زوجها الذي يحبها ,والدي لااعرف طبائعه لأني لم اقترب منه ولو لمرة واحدة , لا اعرف مايكره وما يحب,متى يغضب,ولماذا ؟ لكنه كان يبدو أحيانا كنمرٍ حين ينقض على أمي ويعلو صراخها, يضربها ,فتستنجد بجدتي التي تأتي راكضة لتخلصها من بين يديه , بينما أنا وإخوتي نتكور معاً ونقبع في الزاوية , نراقب مايحدث بخوف ,الى أن يغادر أبي المنزل فنشعر بالأمان ,وماهي إلا مدة قصيرة بعد غياب والدي حتى تعلوبطن أمي وكأنها لم تضرب وتهان ,هذه العلاقة مازلت لاافهمها ,يغيب والدي طويلاً فتقع مسؤوليتنا على أمي وجدتي أكثر, وكلما سألت أمي عن أسباب غياب والدي ولماذا, والى أين ؟ تنهرني بإجابة مقتضبة . فأمي كانت تضيق بهذه الحالة لكن ….لم يكن هناك حل أخر فلا منزل يأويها غير منزل جدتي التي تشعرنا وتشعرها بالمهانة والذل وأننا عبء عليها, فوالدي كما تردد دائماً:(يبزر أولاد وهي تعلق بهم ) (فمتى يقصف الله أعمارنا حتى ترتاح منا )(فبذرة العاطل عاطلة) لازال كلام جدتي يرن بإذني كلما خلوت بنفسي وتذكرت أننا لم نشبع يوماً من طعامنا لأنها ليست قادرة على ملء بطوننا الفارغة , فالطبخة لاتكفينا يوماً واحداً , وأمي دائما ترد عليها: (أولاد ياعمتي وهذا وقت طعامهم ولعبهم ) عادت جدتي الى عيادة الطبيب بعدما رهنت خاتم أمي وقرطها عند المرأة الارمنية لتدفع للطبيب ثمن العلاج , فأمي تمر بمرحلة خطرة لان الولادة أنهكت جسدها الضئيل, وهو ضعيف البنية وقد حذَرها الطبيب مراراً من الإنجاب لأنها كانت تعاني من مرض السكر , لكن أمي كانت لاتبالي وتحاول أن تنجب اكبر عدد من الأولاد, ولم تكن تدري بأنها ستغادرهم لتتركهم أمانة بعنقي.تناولت جدتي الصغير لتلفه جيداً وتعود به معي الى البيت فأمي كان عليها البقاء عند الطبيب . وضعتك في فراشي, اشتم فيك رائحة أمي, دمي ودمها.لم تكمل الساعة الأولى حين أخذتك بين يدي, والآن أيضا بعد مرورعدة ساعات أنت لي كي اعتني بك فجدتي كان عليها العودة للمبيت عند أمي.أنا أمك الآن ابنة الثالثة عشر عاما. أحادثك, أقبلك, ألقمك بعض السكر مع الماء كما أوصتني جدتي, كحلت عينيك بكحل أمي العربي الذي كانت تصنعه بنفسها لتكحل عينيها الجميلتين ,وقبل أن ينشر الضوء بساطه الفضي كاملاً عادت جدتي الى البيت أيقظتني والدمع يفضح ما تخبئه,أيقظت بعض النسوة من جاراتنا. مابك يا جدتي ..؟ أين أمي…؟ بقيت الأحرف معلقة ولا جواب ……….ضمتني جدتي, ولأول مرة أجدها طيبة, حنونة كأنها أمي, فحين تلم المصيبة بنا كم نجد أرواحنا طيبة وحنونة ورقيقة, علمت من حضن جدتي , ودموعها أن أمي لن تعود إلا محمولة , مغمضة العينيين , ماتت أمي , آتى بها الرجال من منزل الطبيب محمولة في حرام شتوي اسود اللون, مازال ذلك اللون الأسود يغطي عيني وحياتي. أخذت جدتي الحرام الأسود المصنوع من شعر الماعز, فقد صنعته أمي بنفسها وحزمته مع بعض الأشياء التي تحبها من ماضٍ عزيزِ كان لها. استلقت أمي على فراش رتبته جدتي في وسط الدار كأنه أعد لعروس, القوا عليها الغطاء ولم يتركوا منها إلا وجهها الذي عاد إليه لونه الحنطي المشرَب بالاحمرار . ستنام أمي الليلة ملء عينيها دون أن تستيقظ مراراَ لأجلنا, ستنام وحيدة بلا مؤنس . صباحاً شيعها أهل الحي وبعض العارف. تركوها هناك وعادو ,ولم تعد , وأنت لازلت بين يدي , كأنك آلهة مقدسة, أخشى وضعك في السرير المخصص لك أو حتى بقربي على الأرض, وكأني إن أبعدتك عن حضني فسأحرمك حضنا أميا وأشعرك باليتم. كانت النسوة يقمن بكل الأعمال المطلوبة للعزاء, أنا وجدتي نتوسط النسوة وقد ألبستني جدتي شالاً لامي كي أتقبل التعازي, كانت النسوة يقبلنني وينظرن إلي واليك بإشفاق, يضغطن على يدي وكتفي كعون لي. حُرِمت حليب أمي, حنانها, طيبتها, لكن لن أجعلك تُحرم مني أنا ,أنا حليبك , حضنك , حنانك,سأكون قدر استطاعتي بديل أمي لك , وكنت طيلة عشر سنوات بديلة أمي, فجدتي لم يطل حزِنها على مصيرنا بعد أن فقدنا أمي, فتوفت جدتي تاركة لي وحدي الحزن والحاجة عاد أبي بعد مدَة طويلة من ولادتك ووفاة أمي, لكنه لم يحتمل كلماتنا ونظرات جدتي فتركنا ثانية ليسافر, وهاهو الآن ليجدنا وقد أصبحنا بلا حاجة لعون احد.لكنه كان دائما يتذمر ويردد:المنزل يحتاج لامرأة كبيرة ترعاه وتدبرأموره وأمورنا الآن ,بعد أن أصبحت أنت في العاشرة من عمرك ,الآن نحتاج إلى امرأة نحتاج الى العون وقديما كيف كنا نتدبر أمورنا ؟أين كماتت.بي حين انتظرتك أمي ؟ وحين ولدت؟ وحين ماتت……..؟ وحين لحقت بها جدتي……..؟ أين كنت عندما كنا بحاجة ماسة للرعاية , لأب ,لكبير,؟أين كنت بعد أن ذقنا الذل, المرارة, الحاجة, أين كنت حين كانت جدتي تُشعرنا بالمهانة والذل, بد أن وقف إلى جانبنا أناس غرباء. عاد أبي الآن يتوسط الرجال من معارفه, الذين اخذوا يلحون عليه بالبقاء والزواج فالمنزل الذي دُبرت أموره فتاة في الثالثة عشرة من عمرها لاتستطيع تدبيره الآن بعد أن بلغت الثالثة والعشرين من عمرها , وشوش احدهم في إذنه ,أن لاحاجة لدفع مهر أو أية تكاليف فالصفقة جاهزة والمقايضة متساوية ,عرض:خذ وهات .وينتهي الأمر . راقت الفكرة لأبي الذي يبحث عن الحلول الجاهزة فهو لا يحب أن يتعب نفسه بالتفكير أو العمل. تمت خطبة أبي ,وخطبتي ستتم .بكيت ,توسلت ,هددت ,لكن اللعبة كانت قد انتهت والاوار قد مُثلت وانتهى العرض المسرحي. وأنا……….سألتني يومها وأنت تمسح دموع عينيك بوجهي:أنا عند من سأبقى عند أي بديلة عوض أمي, أنت البديلة أم زوجة أبي البديلة؟؟؟؟؟ لم يشفع لك البكاء يومها ولا هروبك من البيت, كنت تحتج احتجاجاً طفو ليا ذهب مع روح أمي التي مازالت لعناتها تطاردنا.طاردت المقبرة فحوَلتها الى مقصف وطاردت منزل الطبيب فحولته الى بناء مهجور طاردت جدتي فأخذتها إليها , وطاردتني وطاردتك ,فوالدي سيتزوج ولا سبيل الى ذلك إلا أن أكون أنا البديلة وكنت ليلتها ,ليلة زفافي بديلة لامي بامرأة أخرى أم ًَلك وزوجة لأبي.
الهجرة من القدر
تهب الحكايات والأقاويل في حارتنا كما تهب زوابع العجاج في الصيف ، فتغشى الأبصار ، ويتعالى السباب والشتائم لتطال كل شيء ، مقدسا كان أم ملعونا ، فتختلط هذه الزوابع بدمائنا ، ومع ذلك يستمر تيار الحياة في الجريان ، بإصرار وعناد يحمل معه ركام الأيام والساعات بل والسنوات ولا يخلف سوى الأسى أو الفرح القصير .
قلت (حارتنا) وأنا أعني كثيرا بهذه الكلمة المفردة ، فهذه الحارة بركة فيها كل أنواع السمك ، منها المقيم دائما ومنها الطارئ الذي يعاود الهجرة والترحال ، بعد إنتهاء مواسم القطن أو حصاد القمح طالبا لعمل جديد ورزق جديد ، ومن هنا تأخذ كل حكاية فيها لونا مغايرا ومجرى مختلفا تبعا للشخصية التي تلعب دور البطولة .
فأمام بيتنا. افتتح عسكري متقاعد من أصل شركسي محلا متواضعا ، معظم بضاعته حلوى وألعاب للأطفال وكان يقف عملاقا أشقر متين البناء ، ينتعل حذاء عاليا يصل إلى ما تحت الركبة من الجلد الأسود مزينا بمهمازين من الفضة ، وعلى رأسه قلبق من جلد الخروف ، وله شارب مفتول خطه الشيب ، وعينان صافيتان زرقاوان بلون الفيروز القاسي ، تلقيان الرعب في قلب أشجع الرجال وبيده على الدوام عصا من الخيزران يجلد بها حذاءه فتصدر عنه طرقعة عالية ، تزيده هيبة .
كان الرجل يجلس في صدر الدكان الذي لم يجرؤ زبون على الدخول أو شراء شيء منه ، فالصغار فروا مذعورين كالأرانب ، والكبار ينظرون إليه بحذر ودهشة ، ويوما بعد يوم يئس الرجل من بيع بضاعته ، فوضع كرسيا خشبيا عاليا وكأنه عرش وجلس عليه ، يدخن النرجيلة ، ويستعيد ذكرياته بلذة وكسل معددا المخافر التي خدم فيها ، والقرى التي مر بها ، والحناشل واللصوص الذين انهاروا بين يديه أذلاء خائفين ، وحصانه الأدهم الذي تعرفه كل مناطق الجزيرة وعفرين وبادية الشام كما تعرف فارسه ، وحين يداعب النوم أجفانه ، يغلق المحل وينصرف في موكب صاخب يصدره حذاؤه ، وصوت مهمازه الفضي أو يظل غافيا على الكرسي ، وخرطوم النرجيلة بين أصابعه الثخينة ، ورائحة الدخان تفوح من شواربه الكثة ، وذات يوم بينما كان خور شيد يحمل صندوق ” البوية ” ويمر من أمام دكانه …… ناداه بصوت آمر :
-أنت يا ولد ……… تعال
وجاء الصبي كالمصعوق.أمام الرجل ، فمد له قدمه وتابع تدخين النرجيلة ، ففهم الصبي ما يريد ، فانحنى على الحذاء يلمعه بينما فر أخوه علو باتجاه البيت .
ومع مرور الأيام بنى الرجل صداقة مع بعض المتقاعدين الذين جاؤوا من الحارات الأخرى ، فأحضر عدة الشاي والقهوة المرة وطاولة الزهر التي شهدت أعنف المعارك بينه وبين آكوب الأرمني قبل أن يهاجر ، آكوب الذي كان في اللحظات الحرجة يتمتم بصلاة قصيرة بلغته القومية فيثير غضبه لأن الله استجاب له بسرعة ووقف إلى جانبه ، فيقذف ببعض الشتائم الشركسية الصغيرة التي لا يفهمها الأرمني ، لأنها باللغة الشركسية ، وهكذا قنعا ولم يختصما ، فهذا يصلي بلغة لا يفهمها الآخر وهذا يشتم بلغة لا يفهمها صاحبه ، وعند نهاية اللعبة يتصافحان ويضحكان من القلب ، يومها اكتشفت الحارة الخائفة أن الرجل الذي بث الرعب قي القلوب ، مسالم ووديع كطفل كبير ، فأصبح أحد أركانها ، والمستشار القانوني لأهلها في المنازعات والخلافات .
ولكن ليست حكايات حارتنا من جنس هذه الحكايا ، لها هذه النهاية السعيدة ، فقد تتخذ الأحداث أحيانا جانبا مأساويا وفاجعا إلى درجة لا يمكن أن يقوم بها إلا أناس من جنس أبطالها ، كما جرى في حادثة أخرى ، حادثـة (( فرحة ))
كنت أرى (( فرحة )) كثيرا .
أراها حين أذهب في الصباح إلى مدرستي،أنا أنحدر من التلة التي يقوم عليها منزلنا ، تقف أمام مأواها الذي كان يوما طاحونة ازدهرت أحوالها وشهدت عصرا ذهبياً ، بصوتها الأصم القوي الذي يتصاعد ليهز الحارة ورائحة البشر والحيوانات والطحين وضحكة صاحبها آكوب الأرمني التي تتردّد وهو ينحني بجسمه الربعة المتين على الأكياس ليدفعها إلى جوفها الهادر ، وهو يمسح العرق على جبهته العالية ، آكوب الذي لا يعرف من أين جاء ؟ هكذا تواجد في الحارة ، بنى الطاحونة ، وكان وحيدا مع كلبه ، يخرج بعد انتهاء العمل إلى النزهة أو صيد السمك في الآحاد ، وفي الليل يتحول آكوب إلى كائن آخر ، يجلس إلى الطاولة وزجاجة العرق أمامه ، يطعم كلبه ويشرب ثم يندفع في غناء حزين ، يبكي أناساً وأياماً لا تعرف عنها الحارة شيئاً، ثم يبدأ حكاية طويلة ، يرويها بلغة أخرى للكلب وحده فهو الوحيد الذي يفهمها .
ويوم توقفت الطاحونة بسبب انتشار الأفران حزن آكوب كثيراً ولأول مرة في حياته ، يكتشف أنه وحيد ومهجور ومقطوع من شجرة ، فاختفى من حياة الحارة فجأة كما جاء إليها وإذا كانت حارتنا تنسى أشياء كثيرة فإنها بالتأكيد ما زالت تذكر اليوم الأخير قبل رحيل آكوب أو اختفاءه الغامض بشيْ من الحسرة والألم
فمنذ الصباح الباكر أفاق الرجل من نومه ، دار طويلاً حول الحارة النائمة ، كأنه يرى بيوتها وحجارتها وأشجارها وأزقتها الضيقة لأول مرة .
ولأنه كان يشعر بالاختناق بشدة،ذهب الى النهر وكلبه يتبعه وهناك جلس على صخرة يراقب جريان الماء الهادىْ
تحت شمس دافئة وقلبه يخفق بشدة ، ولم يُحضر معه عدة الصيد ، بل ظل ينعم بالدفْ وجمال المنظر وكأنه يقيم صلاة خاصة للماء والرمل الناعم ، ثم عاد إلى الطاحونة أعد طعامه ، وشرب قدحاً ونام .
وعند الغروب جاءإلى دكان صديقه الشركسي وهناك جلسا متقابلين وللمرة الوحيدة لم يشتم آكوب أو
يرتل صلاته الغامضة ، ولم يدمدم صديقه بلغته الشركسية ، لعبا طويلا ً بصمت . وبدون اعتبار للربح أو الخسارة وفي الليل أشعل آكوب كل ما عنده من الشموع وكأنه يقيم قداساً أخيراً ثم بدأ يشرب ويغني أغانيه
الحزينة التي طالما سمعها الأهالي من بعيد ، وفي لحظة جنون مد أصابعه إلى الأزرار فانطلق هدير الطاحونة قوياً يرج الحارة هذا الصوت الذي نسيه الناس منذ زمن بعيد .
وفي الصباح اختفى آكوب ، وصوت الطاحونة وقيل هاجر إلى أمريكا ومع ذلك ظل صوت أغنيته الحزينة يتردد في أماسي الآحاد .
كنت أرى فرحة أمام الطاحونة المتهاويةإلى السقوط ، وكانت تبتسم وفي عينيها سماوات من دفْ قديم وحزن آسر تعتق على مر الأيام فأصبح له معنى آخر تتزود به في أيامها الباردة ، وليالي الشتاء الطويلة ، حين يتكوم إلى جانبها ذاك الجسدان الناحلان طلباً للحماية فتدفع عنهما قسوة الوقت بالابتسامة و الحكايا السعيدة
التي تكثر فيها من أوصاف القصور والحلوى ، ونور القنديل الهرم يساعدها في رسم جو أسطوري ، فيشيع
شعور حار ان بالمساء،أمل ، بينما تقف الآلة العملاقة ككائن خرافي من الخشب والحديد تفوح منها رائحة الدخان والطحين والعث الذي خلفته الرطوبة .
ثم أراها في المساء ، بعد أن تكون قد انتهت من الخدمة في البيوت التي تحتاج إلى خدماتها الصغيرة وهي تقف مثل شجرة أمام الباب تنتظر عودة الصغيرين من رحلتهما اليومية ، وهما يحملان صندوقي ” البويه “
المزينين بالمرايا والخرز الأزرق ، وقد انحنى القدان الناحلان من الثقل الباهظ وفي جيب كل منهما تخشخش القطع النقدية الصغيرة بفرح ، وقد تلوث أصابعها بخليط لا يمكن تمييزه من الألوان وإذا ما تأخر
الصغيران لشأن من شؤونهما فإنها تندفع كالمجنونة في أزقة الحارة ، تبحث عنهما ، فتسأل كل من تصادفه
كبيراً كان ام صغيرا
-هل رأيت علو وخور شيد ؟ ثم تضرب وجهها : نادبة بحرقة :
-خور شيد…ربي….. أو ووف يا ربي .
فإذا ما رأتهما قادمين، أسرعت إليهما ملهوفة، تضمهما إلى صدرها،، ويعود السلام إلى روحها
والهدوء إلى وجهها الشاحب .
هذه هي ” فرحة ” أما بقية الاسم فلا أحد يعرفه ولم يحاول أحد معرفته ،لأن الحارة تفقد ذاكرتها أحياناً
فقبل خمسة عشر عاماً جاءا الى الحارة ، رجل شاب وفتاة سكنا عند امرأة عجوز وعمل الرجل عتالا في مواسم الصيف ، فقد كان يملك جسداً قوياً ومعافى ، أما في باقي الفصول ، فقد كان يجلس في سوق الهال بانتظار من يحتاج إليه . في إفراغ حمولات الشاحنات القادمة محملة بالخضار والبضائع ، وهكذا سارت حياتهما هادئة غامضة ، وصامته فلم يعرف أحد عن الرجل والمرأة شيئاً ، ومع الأيام نسيتهما
الحارة ،وبعد ان ولدطفلهما الأول والثاني ، واستمرت الحياة على وتيرتها حتى قتل الرجل في حادث فاجع
وهو يعمل ، فاحتلت المرأة مع ولديها مبنى الطاحونة المهجور ، بحجة أن الحيّ أبقى من الميت ، فالغائب بحكم الميت وآكوب لو عاد فلن يسكن هذا الحجر .
كل ذلك تعرفه الحارة ، ولكن الجزء المفقود الذي لم تعرفه الحارة هو الجزء الأهم لما سيأتي من حكاية
عاشت في قرية من قرى الشمال ، تتاخم الحدود ، وكان اسمها الحقيقي ” دلبرين ” ولم تكن تعلم يومها أن ذلك المعلم القروي الذي اختار لها هذا الاسم يوم ولدت إنما كان يرسم مصيرها الذي قادتها إليه خطاها العمياء، فقد كانت جميلة ، ومن عائلة ميسورة قياساً إلى أهل قريتها لها أب شيخ وثلاثة أخوات وأخ مازال في سنته الثالثة ، تقضي وقتها في تطريز الثياب وحياكة البسط التي اشتهرت
به قريتها وكان من الممكن أن تسير الأمور بشكلها المألوف لو لم يظهر في حياتها ( عارف ) ذلك الراعي الوسيم الذي جاء من قرية أخرى يحمل خنجراً ومزماراً وشوقاً لأنثى تشاركه رحلة حياة طائشة
ومجنونة ،كانت تعلم أن الزواج به مستحيل ، فأبوها يكره الرعاة والفقراء وإن العيش بدونه مستحيل ،
ومن هنا أختارت الهروب معه دون تبصّر بالعواقب ، ومن مكان إلى مكان حتى استقّّرا في الحارة ،
حارتنا التي تفتح قلبها للجميع .
كانت فرحة تظن أنهم نسوها ، نسوا (دلبرين ) التي حملت في مساء عاصف ( بقجة ) ثيابها وهربت حتى هي نفسها تظن أنها أصبحت امرأة أخرى ، باسم آخر ، بقلب ودم غريبين ، ومع ذلك ظل قلبها يقظا وروحها لا تنام كالسمك ، فمثل عارها لا يمكن أن يغسله سوى الدم ومن هنا كان يمتد سهرها طويلا في المساءات العاصفة ويوما في مساء بارد وعاصف . تأخر فيه علو وخور شيد ، كانت داخل الطاحونة توقد قنديل الكاز وقد خيم عليها ظل كئيب وشعور غامض بالخوف ، وإذا بحركة خلفها ظنتها في البداية صادرة عن الأخوين ، فالتفتت رأته ينزرع أمامها طويلا رشيقا يذكرها بأبيها في شبابه ، وقد برقت عيناه بشّر وشوق قديم للذبح ، لم يتكلم ، فتلمست رقبتها لكن الخنجر كان أسرع منها ، فسقطت تغرق في دمائها وانسحب مخلفا وراءه الصمت والدم .
وذهلت الحارة ، عاشت ليلة عصيبة ، فما حدث لا يحدث إلا في حالات نادرة ، ومع ذلك بدأ الحدث يتراجع وتتراجع معه الإثارة وظل علو وخور شيد ، يحملان كل صباح صندوقي ( البوية ) المزينين بالمرايا والخرز الأزرق وينطلقان إلى الساحة العامة والمقاهي بحثا عن الرزق ويوم غادر الحزن عيونهما ، رحلا إلى جهة مجهولة وراء الطريدة ، وقد اعدّا للهجرة الخنجر والعزم والشوق إلى الذبح .
القلب الملون
صرخت به: أنه قلبيا أرجوك لا.. ديرسم لا .
ومددت يدي، لأبعد يده عن عنقي، ويدي الأخرى تتلمس مكان الدم الذي بدأ ينزف من عنقي، أصرخ
ديرسم ! أصرخ ويدك مازالت تريد المزيد من دمي النازف لا . لا . واستيقظت مذعورة وأنا مازلت أصرخ بك وأمد يدي لإبعادك ! حاولت أن أتبين الوقت، لكنَّ الستارة المسدلة تزيد من عتمة الغرفة، أيعقل أن أكون قد غفوت كلَّ هذه المدة ؟ فمنذُ الثانية عشر ظهرا، وأنا ملقاة على سريري، أجل أيعقل أن يكون الليل في ساعاته الأخيرة ؟ أشعلت الضوء لأتبين الوقت يا…! إنها الثانية صباحا مددت يدي أتلمس عنقي لازالت السلسلة الذهبية معلق فيها تلك القطعة الملونة بـ( كصك وصور وزر ) تلفت لأنظر حولي ، كانت هناك أشياء مبعثرة ، صور أشرطة ، أوراق كثيرة قد كتبها ( ديرسم ) أرد ت الخروج من غرفتي كي أتنفس الهواء ، فبرزت جمجمتك المعلقة تحت الضوء كأنها تسألني أين تذهبين ؟ والعبارة التي خطتها يدك : ( حتى جمجمتي تصرخ : أحبك يا علم بلادي ) أردت الخروج لكن تمنعني عيون أبي وأمي اللتان تنظران إليَّ ربما شفقة أو حيرة ، فوالدي قد التقى بدير سم قبلي وعرف قراره قبلي أنا بل وشجعه : لا أريد لأحد من أهلي أن يرى تلك الحالة التي شاهدوني حين عدت ظهرا ، انهمار دموعي ، حزني ، كنت أسرع بالخطوات كي أصل سريري ، أرتمي عليه أبكي بلوعة من فارق أمانيه وشاهد تبعثر الحلم وشظايا زمن مضى تجرحه .
أبعدت الورقة والشريط الذي كان يغلف هدية ديرسم لأجد صورا قد جمعتني معه وشريطا قد سجله بصوته فيه أغانيه الأثيرة لديه ، لقلبه ، وأوراق عدة بخط يده ، وما فاجأني هو صورة شعاعيه لرأس ، مؤكد أنه رأسه رأس ( ديرسم ) قمت بتأطير الصورة وعلقتها تحت الضوء بطريقة طبية . هذا الاعتكاف أو الحصار الذي أرغمني عليه ديرسم أم أنني أنا من أرغم نفسه عليه ، فقد دخلت غرفتي وأنا أنوي أن أهرب من عالمي الآخر هل نويت أن ..؟ ربما أحاسب نفسي أو … ربما أعاقبها، أو ربما… أشحذ همتها وصبرها على الانتظار ( فدير سم لم يكن طائشا أبدا ولم يكن يخضع لأية إغراءات أو وعود حين قرر هذا الرحيل فقد لمست ذلك في أعماقه من خلال علاقتنا التي امتدت لخمسة أعوام متتالية ، كانت معرفتي به سطحيه إلى أن جاء اليوم الذي تسلم فيه ديرسم مهمة قيادة الاجتماعات بنا ، فقد كنا رفاقا تجمعنا مبادئ وأفكارا عدة ، وأرضا واحدة ، تبعثرت فهو ليس أهوج حتى يتخذ قراره بهذه السرعة ، مؤكد أنه منذ زمن طويل ويحسب له ويفكر به ، وهذا ما أعرفه عنه خلال اللقاءات التي كانت تجمعه بوالدي ، والده الذي كان يوكل إليه بعض المهام ليختبر قوته وصبره ، كبر ديرسم وكبرت مهماته ، كثيرا ما كان يردد أمامي : لا تترددي ولا تتورعي عن انتقادي وتقريعي لأن هذا تحديدا سيفيدني أكثر وهناك أشياء كثيرة يا( مها باد ) أكبر من همومنا أحلامنا الصغيرة المتواضعة ، هناك حلم بوطن وأرض واحد ة يرفف عليها العلم الجميل بألوانه الزاهية ( قوس قزح ) وحين أهمس لأبي بذلك يروح أبي ليحدثني عن ديرسم وأهله وفجيعتهم ، ويقول بتنهدات كانت توجع صدره : يا ابنتي نحن ولدنا هنا ، وكبرنا ، توارثنا البيت ، الأرض ، الهوية ، النسب ، ولم تحرق أرضنا أمامنا بمحاصيلها ولا تهدم لنا بيوت نحن بنيناها ، ولم نرحل عنوة عن قرانا ، والرصاص في قلوب أولادنا وأقاربنا ، ويكمل والدي الحديث عن ديرسم وعشيرته ، وكيف شردت ، وعملت بوحشية ، وترحل روحي مع ذكريات بعيدة عشتها مع ديرسم الذي كان في أية مناسبة تجمعنا يغني أغنيته المحببة لقلبه .
الآن عرفت لماذا كان يؤديها كأنَّها صلاة يغنيها بوله صوفي تذوب الروح مع رقة كلماته ونغمات العود كانت كلمات الأغنية :
( لنا بيت بنيناه بأيدينا
سهرنا الليل نرعاه
زرعنا فيه من أحدا قنا وردا
وخططنا على جدرانه الوجدا
ولم جاءنا الصبح ...هدمنا ودسنا ما زرعناه
وكان سيد البيت حبيبي ... آه ما أحلاه ... !! )
الآن فقط أعذر لك حزن عينيك ، وجهامة ملامحك وصعوبة القرار الذي اتخذته ، كنت في البدء مثل ما هو حال أي فتاة تلاحظ عينيّ من يهتم بها فأكثرت من قراءاتي المتعددة ، وحواراتي ، أسئلتي مع أبي كي أتزود من أفكارهم ، أعيش محنتهم ألتزم أكثر و أنشط أكثر في المهمات التي تسند إليّ ، وذات يوم بعد أن انتهى اجتماع ( ديرسم ) بنا ، ونحن نهم بالخروج ووسط الأصوات التي تعالت أتاني صوته : طالباً مني الانتظار قليلا ، لنستغرق أكثر من ساعة ، وأكثر لم يقل لي أيًّ كلمة خارج موضوع الاجتماع ، لكني بحدس الأنثى فهمت شوقه ، فلقد كان بجدية أخرى ، وحديث مختلف تماما ، ومن يومها تتالت اللقاءات ، ورغم الحزن والتشتت فقد عشقته ، عشقت حلمه ، حزنه ، عشقت تلك السلسلة التي لا تفارق أصابعه بألوانها التي أعرفها كما أعرف لون دمي ، لكن لماذا اختار ( ديرسم ) اليوم تحديداً ليلتقي بي ، وينهي مشوارنا الذي بدأناه منذ زمن ، هل ليجدد الزمن ؟ أم ليقتل الانتظار ويغلفه ضد صدأ الأيام القادمة التي سيكتب فيها الحزن عليًّ .؟ هذا ما أكده هاتفه الليلي حين أتاني صوته متحشرجاً يريد لقائي في صباح اليوم التالي…
وصباحاً خرجت حسب الموعد الذي حدده لي ، التقيته في سيارة وهذا الغريب في الأمر ، كان جالساً في المقعد الأمامي قرب السائق ، فتح لي الباب الخلفي لأصعد .
-صباح الخير- قلتها بصعوبة
-صباح النور: رد هو والسائق معاً . انطلقت السيارة وأنا أنتظر التفاته منه ، أو كلمة أو نظرة ، لكنه بقي يتابع ذوبان الإسفلت تحت عجلات السيارة ، انتظرت وانتظرت كثيراً ، والسيارة التي أجهل وجهتها فقد خلفنا المدينة وراءنا ، لم أتمالك نفسي أكثر فسألت ديرسم :”Eme Herin Ku. ” إلى أين سنذهب . .
سألته بلغتنا كي لا يفهم السائق حيرتي إلا أنَّ السائق نظر إليَّ من خلال المرآة مبتسما فعرفت أنه من أحد معارف ديرسم الذي التفت إلي فشحت ابتسامتي الصغيرة ، لتتحول إلى شرود مع ديرسم ، ووضعه ، إنه يخبئ شيئاً في صدره ، يخفيه عني ، تذكرت أول لقاء لي معه وأول ضحكة سماوية انطلقت من حنجرته ، أخذتني أحلامٌ كثيرة ، وكبيرة ، لبيت يجمعنا وطفل يحمل دماءنا ووطن يلتم بقراه التي تناثرت ومدنه ، كان مجرد أن أردد اسم ديرسم تبتسم لي الدنيا وتأخذني إلى الجبال البعيدة ، لقد شجع والدي ارتباطي به ، بت لا أخشى ذكر علاقتي معه بل أعلنها بشيء من النشوة والفرح ، أمام أهلي الذين يحترمونه ، ويحترمون أهله ، فقد كنت أخطو معه بثقة ، دون خوف ، كانت تلك الأيام أجمل ما سأبقى أذكره منك يا ديرسم خلال عمري القادم .
لقد كنت حلقة الوصل بيني وبين كلّ ما هو حي ونابض ، قطع شرودي دخان سيجارة ديرسم ، إنها المرة الأولى التي أراه يدخن فيها ، فهو لا يتعاطى الخمر ولا يدخن ، وكثيراً ما كنت أستفزه قائلة : كيف تحيا دون دخان وخمره ونساء . راقبت عصبيته وتوتره ، وهو يمسك السيجارة ، وذقنه التي طالت خلال هذه المدة . والشيب الذي بدا واضحاً . أي سرٍ تخبئه في صدرك يا ( ديرسمي ) الجميل ؟ توقفت السيارة معلنة الوصول . تلفت حولي لا بيوت ولا أشجار ولا أيُّ شيء يدل على معالم الحياة هنا في هذه الأرض القاحلة. ترجلت من السيارة وأنا ألحق به فقد أخذ بيدي ومشينا ، بخطوات حتى بان الفرات صغيراً وبضع أشجار مبعثرة ، جلس ( ديرسم ) وأجلسني أمامه . بتُ معه وجهاً لوجه قال : أتينا إلى هنا لأذكركِ بأول رحلة قمنا بها حين قرر الرفاق الاحتفال بعيد ( النوروز ) فيه ، تذكرين النار أول دبكة تشابكت خلالها أصابعك مع أصابعي ، مدّ يده ليمسك بيدي . هنا تشربين من الفرات قبل أن يشرب منه أي كائن قبلك في المدينة ، هنا تشربين نخب . وصمت . . . . ليعيد ترتيب الكلمات ، تشربين نخب الهمسة الأولى ، واللمسة الأولى ، والفراق الأخير ، تسارعت نبضات قلبي ، شدهت عيناي وهما تتعلقان بعينيه طالبة المزيد من التوضيح بينما عيناه تبحثان عن مكان آخر تخبئ فيه نظراتها .
مها باد: دعيني أكمل حديثي قررت أن أحقق رغبة أبي المرحوم بالمهمة التي كان يحلم بها لولا المنية التي كانت أسرع من حلمه، فقد جاء كل شيء بعد دراسة طويلة، حسبت فيها الأمور بتبصر وحكمة فهناك بلادٌ
تنتظرنا، متناثرة، أشلاء دولة كانت تبحث عن أجنحة تنام تحت فيئها، ولأنكِ مثلي، من دمي، ولفتي، ستفهمين. ضعي الحب والعواطف جانبا .
مها باد: ومد يده لتتوجه عيوني إلى وجهه، الأرض بحاجة إلي، ولكِ ولكل من تناثروا بعيداً، بحثاً عن الأمان والاستقرار ! ، لا تجيبي الآن ! ، اسمعيني فقط ولكِ الأيام الآتية فكري فيها، فأنا مثلما أعشقكِ، وتحشرج صوته، فللمرة الأولى يفصحُ عن أحاسيسه ولكن أي أو متى. . . آه . . . ؟! وهذا التراب الذي بنهال على روح أيام طويلة ، جمعتنا . هي الآن تتوارى تحت التراب ، ما أريده أن تتماسكِ أكثر وتبقي بحماسك ونشاطكِ وروحكِ الطيبة المعطاءة التي عهدكِ بها , فأنا قررتُ أن أحقق حلم أبي في تلك البلاد
صحيح أن المهمة صعبة لكن ليست أكثر صعوبة وقسوة من رؤية تلك الجبال، تلتهمها النيران وتخترقها قذائف الأعداء، لقد سُرقنا وحُرِمنا وتشتتنا في أصقاع العالم كله، نحن لنا أرض ولغة لكن لا علم تستطيع أن نغرسه فوق أي أرض نختارها. مها باد : وانتصب واقفاً مثل سيف بتاراً ليمسك بيدي كي أقف معه أمامه . وقفت ألملم تبعثر جسدي وانهياره الذي زاد أمام دموع ( ديرسم ) : أي مرادفة في كل اللغات تساوي دموعه أية حجج أو تسويفات أقنع فيها حزني المفجع والمخنوق مثلما هي ديارنا المثكولة والمؤودة هناك . ضمني لصدره بقوة وراح ينتحب وكأنني العلم الذي سيزرعه هناك ويخشى ضياعه ، وتسربه مع دموعه ، زفر بقوى قائلاً : قد أعود وقد ؟ .
غطيت فمه بأصابعي لئلا ينطق بمكروه . لكنه أكمل :إذا بقيت حياً ستصلكِ أخباري بالتأكيد وإذا . . .
لكنه لم يكمل طأطأتُ رأسي الذي أثقلته الدموع . مد يده إليَّ بعلبة صغيرة قد غلفها بأوراق وشرائط ملونة كان قد حرص على أن تكون ألوانها كألوان القطعة التي يحملها في السلسلة التي لا تفارق يده ، أخذت العلبة منه تاركه يده تبعد وشاحا عن عنقي ليرى إذا كانت السلسلة الذهبية مازال معلقا فيها القلب الفارغ ستبعديه عن عنقكِ . . ؟ ألم ترددي أكثر من مرة : أن القلب الحقيقي أصبح فيه نبض آخر وحلم أكبر ، وكأنني أعلم بمصير هذا القلب الذي سيدوم فراغه منك يا ( ديرسم ).
هززت رأسي دون أن يعلم ماذا وشوشت لروحي . أخرج القطعة الملونة بألوانها القوس قزحية المفرحة ووضع القطعة المعدنية في السلسلة الذهبية وعلقها على عنقي بعد أن أخذ قلبي الفارغ الصغير ، وابتعد ليرى السلسلة على عنقي : كم هي رائعة على عنقكِ الذي يزيدها جمالاً . علق بابتسامة يشوبها الحزن ، أمسك بكتفي ، وبدأنا نمشي وهو يحدثني : عن أناس كثر رحلوا مبتعدين ومخلفين ورائهم أطفالاَ جياعاَ وعراة ، وقرى تتهتك وتباد ، بوحشية ودمار هناك نسوة ” البيشمرغا ” تضيع مع أسلحتها ، وحدود الوطن المبعثر المشتت هناك أطفال يأكل عيونهم الذباب الفج سالباً طعامهم ودوائهم وطفولتهم .
عاد السائق حسب الموعد الذي حدده له ( ديرسم ) ، ديرسم الذي فتح لي باب السيارة الخلفي وقال : اصعدي
وأنت ؟ سألته ـ فأجابني : أنا من هنا سأنطلق في مهمتي ، ومد يده ليصافح السائق ، ويودعه ثم ليصافحني مصافحة الغرباء ، وقد كست وجهه لمحة أسى وفجيعة ، آتية ، أشار إلى العلبة أن : احتفظي بها جيداً افتحيها ، اسمعي الأغاني اقرئي الأوراق فقد أعود ذات يوم وأطالبك بها ، هاهو مرة أخرى يزرع في أيامي
القادمة بذار النبات الذي يتسلق للغد انتظاراً ولهفة .
وهل عاد الذين رحلوا من قبل . . ؟ هل عاد خوشناف وآزاد وبهزاد ونوشين . أغلق باب السيارة وكأنه أمن علي الإغلاق في صندوقي الخشبي انتظرت أن ينطق شيئاً ، لكن عيناه كانت تحملان إليًّ صورة القاضي محمد ، الجبال وأنهار الوطن وعزيمة ذلك الشيخ الذي ورث حب الزراري أباً عن جد ، إلى أن قضى نحبه بعيداً عن خريطة الحلم، استعرضت في عيون ديرسم أسرار طيور القبج والحجل ، وورود المكان الرائع الذي يهدده الخردل وحبر المؤامرات والمؤتمرات وأنا . . . يا ( ديرسم ) . حبنا ، طفلنا ، بيتنا ، غدنا ، جبالنا ، ألواننا القزحية . وبين كل ذلك انهرت باكية فما كان منه إلا أن أبعد يدي عن عيوني وقال : تماسكي فمنك أستمد القوة والصبر . . . !
فما كان مني إلا أن اختصرت الأعوام الخمسة وكلّ الجمل والحكايا والأحلام ، وقلت له ما كنت دائماً أردده على مسمعه وكأنني أضع طوق الأمانة بين عينيه قلت :
” Ez BE`YITe Be’KeSiM “
وأغلقت الباب ، باب السيارة جيداً ليعود بي صديق ( ديرسم ) إلى بيتي وغرفتي التي آوت فجيعتي الأولى وحلمي الأخير
دخول الروح
لا . . ..لم أكن نائمة أو حتى أشعر بالنعاس لا أبدا فقد كنت في قمة نشاطي الصباحي: وأنا أكمل قراءة الرواية : رواية شرف لصنع الله إبراهيم رغم أن بعض صفحاتها جعلتني أشعر بالملل للاستفاضة الطويلة في تفاصيل مملة وإسهاب في أحداث لا تقدم للقارئ شيء إلا أنني أتابعها بسبب الفضول كي أعرف ماذا سيحل ببطلها ومع ذلك أقرأها الآن وأنا أشرب القهوة بعد أن أنهيت عملي المنزلي وتفرغت للقهوة ولشرف ..وقتها فقدت الوعي . . لا لم أفقده لأنني استعدت الوعي وعلي هنا أن أقول إنني وقتها أستعدت وعي بعد أن فقدت ارتباطي بالعالم المحيط بي صحوت ليس من اغماءة أو نوم أو فقدان الوعي لا إنما الأنسب أن أقول انني صحوت حين دخلت روحي الى منزلها ثانية أي جسدي شعرت بوخزة مؤلمة في إصبع قدمي .. وعلى الوخزة التي آلمت ساقي بل قدمي كلها شعرت بأنني أستعيد إنتمائي للعالم الذي يحيط بي .. أتلمس الموجودات ككائن للتو قد خُلق .. جاء من العتمة .. يتلمس ما يحيط به وهو القادم للتو رويداً رويداً يتنفس وينظر الى الأشياء بدهشة لبدء علاقة من الترابط بينهما حاولت جاهدة أن استرجع وببطء شديد رحلة فقداني للوعي ومتى بدأت وكيف كانت أول الاشارات للغيبوبة تفقدت فنجاني القهوة على صحنه لم يتحرك ..وصفحة الرواية التي كنت أمسكها بين أصابعي كأنها شبه مدعوكة بقوة رأسي قد مال عن الوسادة التي أتكئ عليها .. تركت نفسي على وضعيتها وأستعدت عملية ما قبل دخول الروح لكن لم أفلح في أية محاولة .
فلم أكن قد متُ .. ولا أصابني هبوط ضغط ولم أشعر بصداع أو دوخة … أو … أو …
لكنني مؤكد بل مما أثق به وأتيقن منه أنني كنت قد متُ لكن كم طالت مدة موتي وكم أستغرقت من الزمن .. مؤكد أقل من دورة الساعة الزمنية لأنني أذكر انني جلست أكمل الرواية في الحادية عشر والآن الوقت أقل بقليل من الثانية عشرة ظهراً
طيب .. ماذا رأيت .. سمعت أين خرجت الروح ؟!وكيف عادت؟! وفي خروجها أين كانت وماذا رأت أو سمعت
كل هذه الأسئلة دونتها الى جانب تاريخ هذا اليوم والشهر والعام والساعة… في مفكرتي الصغيرة وتركتها على أحد رفوف المكتبة كي أعود إليها بعد فترة من وأرى أي الاحداث ترافقت مع عودة روحي ودخولها في إصبعي واستقرارها في حلقي أو عيني أو قلبي لا أدري .
عدتُ بعدها أتابع حياتي الثانية التي وهبت اليّ وأنا بين الحين والآخر أسترجع تلك الدقائق الحرجة التي مرت بها روحي .
احاول أن امسك بزئبق صورها … أبعد نفسي عن ما يحيط بها من أحداث وأشخاص كي أدخل في ذلك الجو أكثر أسترجع تلك اللحظة التي سبقت دخول الروح ثانية هذه العدمية أو السديمية .. هذا الأنفصال الكامل عن العالم وعن الجسد أين ذهبت .. أتعمق أكثر بتلك الحالة لكن أعود بدون أي جواب أو نتيجة..
بدأت أتناسى تلك الحالة أو أدعي نسيانها كي أتابع حياتي وأكمل بعض الأمور .. التي من ضمنها متابعة الإنترنت بشكل مستمر ومتواصل وأول ما اطالعه تلك الصحف العراقية بالأخص صحف المعارضة تحديدا لأن تلك الصحف منعت من الدخول الينا لذلك أتحين الفرصة كي أقرأ أهم الأخبار الذي كان آخرها إعدام /40/ شاب حاولوا الفرار ..
جاء إعدامهم حسب التعليق في الصحيفة بعد سجن وعذاب تم اطلاق النار عليهم ضحكت على الخبر وهل من المتوقع بعد السجن والعذاب أن يُطلق سراحهم ليحيواُّ أصحاء أقوياء ولماذا كتبوا كلمة النار ولم يذكرو كلمة الرصاص بدأت أقرأ الخبر الذي شغلني بهدوء وكان كالآتي : حملة إعدامات جديدة ضد سجناء معتقل الرضوانية والعميد بهاء الدوري ينفذ الحكم ضد /40/ سجيناً .
بدأت أقلب صفحات الأسماء فكان من بينهم اسم طلعت حسين وقفت عند هذا الاسم …وحالة من فقدان الرشد أو النطق حالة من عدم الاستيعاب أول ما تضرب في المخ خلايا الذاكرة والحاضر فتصبح عديمة الانتماء لأيّ أوان حالة من الهامشية تعيشها وأنت هش .
أول شيء فعلته بعد أن شعرت أني استعدت توازني ولو قليلاً واصبح بامكان عقلي الفصل ما بين الأمور ورحت أقلب صفحات المفكرة لأرى تزامن الأحداث فكان تاريخ صدور تلك الجريدة في 22/6/2002 وتم الإعدام في تمام الحادية عشر ظهرا … عدت للأرقام .. والمقارنة والربط .. إذاً انه التاريخ نفسه ذلك المدون في مفكرتي وبنفس التوقيت الزمني …
إذا .. معذورة روحي حين لاترد عليّ وقت أسألها ماذا رأيت وأين كنت ؟ فقد كانت هناك ترفرف مع الأرواح التي رفرفت عالياً.. مسكينة هذه الروح التي شهدت كل تلك الرصاصات وهي تخترق تلك الصدور والرؤوس حزينة هي روحي كيف استطاعت أن تستدل على بيتها أو مأواها في طريق عودتها بعد الذي رأته .
أطفأت الجهاز ونهضت استرجع ببطءْ وبطءْ شديد تلك الحالة التي مرت بي واسترجعت ببطءْ أشد تلك الوخزه المؤلمة التي شعرت بها في إصبع قدمي اليسرى إذاً خرجت الروح فجأةً مع حادثة إعدام طلعت في سجن أبي غريب الواقع في ضواحي بغداد . بعد ساعات أو دقائق أو أيام لم أعد أميز الحالة أو الوقت الذي كنت أعيش فيه بعد قراءة الخبر لأول مرة حالة من غثيان الروح ودورانها في حلقة الضياع فهي من ضاعت أم ضيعت ؟..عدت إلى موقع الصحيفة المعارضه كي أعاود قراءة الخبر بهدوء . فقد كان الخبر عن/ 44 / سجين سياسي منهم من لفقت له تهم دينية وسياسية تم إعدامهم رمياً بالرصاص في منطقة بسماية العسكرية الواقعة على طريق بغداد الصويرية وسوف تسلم الجثث إلى ذويهم على شكل دفعات أسبوعية .. أطفأت الجهاز
ثانية فما نفعي بهذه التفاصيل الآن لكن كيف جاء طلعت من ايطاليا الى حيث هذا المعتقل .. وعدت إلى يوم /10/3/و آخر اتصال هاتفي منه حين أخبرني أنه ترك ليبيا منذ أكثر من شهر وهو الآن في ايطاليا وقد سنحت له الفرصة ليتصل ويطمئنني عنه لأنه سيمكث في ايطاليا مدة لايعلمها حتى تسنح له فرصة التسلل إلى هولندا ثم إلى السويد ورغبته كانت بدولة السويد لأنها الوحيدة التي تسمح بلم الشمل ولم يكن يعلم أن روحه الواحدة تفرقت عن جسده فكيف لشمله أن يلتم لكن على ما يبدو أن الفرصة لم تسنح له ففضل العودة إلى ليبيا ليتابع عمله السابق كمحاسب في إحدى المحال التجارية التي تقع وسط مدينة بنغازي أثناء عودته ومروره بتركية أسلمته السلطات التركية إلى السلطات العراقية فهو تعرض لمثل هذا الموقف العام الماضي حين أسلمته السلطات التركية إلى السلطات العراقية في كردستان الشمال .. ومن الشمال أيضاً أعاد الكرة للعودة إلى ليبيا والعمل هناك حتى يستطيع بعدها تدبير النقود للسفر إلى الخارج .
وبقي هكذا يعمل ويخبئ النقود حتى يجرب السفر ثانيةً أو يقامر ويغامر ليُمسك ويفكر بالهرب اذاًطلعت كان يعرف بنهايته لأنه كثيراً ما كتب لي في رسائله أنه فقد كرامته وعزة نفسه حين غادر منزل أهله الأول ، فقد كان يقيم مع أهله الأول في كركوك لكن
السلطات العراقية رَحلت أهله وهي تطبق سياسة التعريب فقد هُجرت أُسرته مع أربعة عشر أسرة كردية وعشر أسر تركمانية تم تهجيرهم من منطقة التوز كوبري إلى قضاء علي الغربي بمحافظة العمارة ،وحين احتج بعض أفراد هذه الأسر المهجرة قامت الأجهزة الحاكمة باعتقال عدد من أبناء هذه العوائل وكذلك مصادرة أملاكهم وبعد أن أصبحوا دون مأوى وهم مُهجّرين في دولتهم وقتها قرر طلعت السفر أو الهجرة الحقيقية رغم شعوره وحنينه بأن روحه تتنفس من العراق وعيونه لا نور فيها أو ضوء إذا غادرت سماء العراق وكيف يفكر عاشق أن يخون أو يغدر بمن يعشق فإن خسر العراق فخسارته لا تعوضها أي ربح مهما كبر وعلا لكن لا بد للمعشوق أن يعذر أو يبرر فلا مفر من الهجران ياعراق حينها لم يجد أية دولة عربية تسمح له بالسفر إليها إلا ليبيا وهنا كتب لي مرةٍ إن ” تلك الأناشيد التي كنا ننشدها ونحن طلبة في المرحلة الابتدائية حين نحيي العلم وسماء الوطن بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد ..”
وجدت أن كل تلك الكلمات مجرد كلمات فارغة فلا وطن للإنسان العربي سوى جسده الذي يحمله كمنزلٍ مؤقت وحقيبة سفر فحين نويت السفر لم أجد ولا دولة عربية تفتح لي بابها وحين سافرت إلى ليبيا كنا مثل الخنازير نقبع في زاوية السفن .. هل تصدقين في مصر توسلت كي أخرج فقط وأشتري دفتراً صغيراً وقلماً كي أُدون عليه بعض مشاعري وأحزاني لكني مُنعت من أن أخرج وتطأ قدماي أرض الكنانة وحين وصلت إلى ليبيا 1996 .. كنت في فورة شبابي وقد أنهيت خدمة العلم والوطن وحصلت على شهادة في الهندسة المدنية .. هل تصدقين ، بحثت عن مهن لايتقبلها عقل الإنسان العربي . عامان وأنا أبحث من محل إلى أخر ومن تاجر إلى أخر ومن شارع الى آخر .. أعيش على ما يمدني به العراقيين الكثر في ليبيا إلى أن استقر بي المطاف في
بنغازي كمحاسب في محل تجاري لكن وجدت نفسي منبوذا لأني العراقي الذي يخشونه في تعاملهم بعد أن استقر بي الوضع وعملت قليلاً جمعت بعض الدولارات وأرسلتها للأهل الذين لا مأوى لهم .. كي تساعدهم في تأمين سكن يليق بأسرتي التي تركتها خلف ظهري دون مأوى .
عامان وأنا أعمل حتى قارب عام 1999 على نهايته داعبتني فكرة السفر مع رمضان البصراوي إلى الخارج فنذهب هو إلى الأردن وأنا إلى تركيا .. هل تصدقين أنني لم أنزل على أرض المطار التركي أعادوني مباشرة لأن الكومبيوتر التركي لم يستوعب عقله جواز سفر لإنسان عراقي فعدت أدراجي إلى ليبيا أما رمضان فقد امسكوه وأعادوه حيث السلطات العراقية وقد اتصل بي يبكي يقول: تصور يا طلعت قَبلت أقدامهم كي لا يعيدوني إلى العراق حتى أشفق علي الضابط وأعادوني للأردن أرجوك ساعدني بمبلغ أستطيع العودة فيه إلى ليبيا .. دائما نهاية مطافنا تكون ليبيا …..
عاد رمضان إليّ وبقينا نعمل فترة وحلم السفر الى أية دولة فيها بعض الأمان والاستقرار والكرامة وتحقيق الذات لما تزل تراودنا حتى علمنا أن البعض يؤمن فيزا إلى رومانيا فدفعنا ما يترتب علينا كسلفة لثمن الفيزا ..وانتظرنا يوم وشهر ولا نتيجة حتى أخبرنا ذات يوم الشاب الذي سيؤمن لنا الفيزا أن شرطة المطار في بوخارست لا تستقبل أي جواز سفر عراقي وأن النقود التي دُفعت كسلفة لثمن الفيزا ماتت علينا .. وقتها علمنا أنه لا مفر لنا غير البقاء في ليبيا ولكن طيور الطيطوى التي آلفها حزن العراقيين لم توقف أجنحتها عن التصفيق وترديد كلمة “شيلوا … شيلوا ” التي تتسلل الى أرواحنا بين الحين والآخر كلمنا داهمنا الشوق الى الأهل والعراق والى الكرامة والحياة الحرة .. قبل أيام اتصل بي أحد أصدقاء رمضان من السويد وهو شاب من مدينة بابل اسمه عماد كان يعاني مثلما نعاني في ليبيا ولكن الحظ وقف الى جانبه حين قرر التسلل من دولة الى أخرى حتى استقر الآن في السويد وهو يعمل في مطعم وأعلمنا عماد أن هناك شخص يدبر هروبنا الغير نظامي إلى السويد مروراً بالأراضي الأ ردنية والتركية والبلغارية حتى إيطاليا ثم هولندا وأخيراً السويد وسأعيد رسائلكِ التي لدي اعتبريها أمانة لديكِ بمجرد وصولي إلى السويد واستقراري سأرسل لك عنواني كي تعيدي إلي الصور والرسائل .. . وفعلاً تسلمت بعد فتره طرد بريدي مسجل .. عدت وأنا أحتضنه.. هذه الرسائل حصيلة خمس سنوات هي علاقة ورقية غرائبية ما بين طلعت وبيني .. أما كيف تعرفت إلى طلعت فهذه لها قصة أُخرى ..
كنت أتصفح مجلة الجيل علماً أنني أقرأها باستمرار لكن هذه هي المرة الوحيدة التي أفتح على باب التعارف وفي باب المراسلات تبحث عيني كعادتها دائماً عن جنسية صاحب العنوان فإذا كان عراقياً قرأت الاسم والعنوان كاملاً وحين قرأت اسم طلعت حسين نظرتُ الى جنسيته كان عراقياً فأرسلت له رسالة قصيرة جداً فيها عنواني ورغبتي بمراسلته إذا لايمانع ..ووصلني الرد من طلعت بإنه لم يرسل لأي مجلة عنوانه للتعارف ومع ذلك فهي مؤكد مجرد دعابة من صديق له .. وهو يرحب بصداقتي ولا يمانع في استمرارية الرسائل . هكذا كانت البداية ولم أتوقع
أن الصدفة ودعابة ستجمعني بهذا الرجل لأعوام على الورق لاصرح له وأعترف بكل الجرأة والافصاح عن مشاعري تجاهه وأني أحبه . . . . نعم أحبه حقيقة ولست ازعم وأشعر به رجلاً كاملاً في حياتي وأيامي ولم تشعر روحي في أي وقت ما أنه رجل من ورق لكن لا أعرف ماذا اسمي هذا الحب المهم أنني أحبه وأحب ارتباطي معه .. فهو حب يريحني كثيراً حيث أشعر أنني ملتزمة مع شخص ولست حره .. أو عاشقة قيد الطلب لأحد رغم أن علاقتنا فيها الكثير من الغرائبية في بدءها وتوطدها واستمراريتها حتى في رفض طلعت حبي له أو مصارحتي بحبه وهو الذي رفض أن أمثل له الحبيبة فقط لأنه يكره التصنيف بل يريدني الأم والأخت والإبنه يريدني حواءات كثيرات في حواء هي أنا .. طلعت كان يصغرني بأعوام كثيرة لكني كنت أجده الأدرك والأوعى مني كثيراً لبعض الأمور أو إدراكه أعمق من إدراكي لقد اختلق يوماً أسماه عيدنا عيد تعارفنا فهو كان الأدق في استخدام المفردة.. وأنا كنت ألمس في كتاباته ورسائله التي بلغت 245 صفحة خلال تلك الأعوام الأربعة وما يقارب أل 8 مكالمات هاتفية إحداها بدأت في الثانية عشر والنصف ليلاً واستمرت حتى ا لرابعة صباحاً يومها كان يسهر ليدقق حسابات الشركة وفجأة لمع في ذهنه أن يحاول الأتصال بي .
ولأول مرة ومن أول مره استجابت الخطوط الهاتفية .. كانت تلك هي المكالمة الثانية” احسست.. إنه يريد قول : أحبك ولايريد ودائماً تلك الكلمة تصل الى أذني دون أن ينطقها بأحرفها الواضحة .. .كنتُ أشعر من خلال من كلماته .. التي كان يقولها بين الحين والأخر طبعاً هنا أنا أعترف إنه هو من الأشخاص الذين يحترمون ويقدرون أنفسهم ومواقفهم فقد كان بأمكانه أن يقنعني بحبه ويُشعرني أنه يموت حباً فيَّ ولكن إلى متى سيبقى مجرد كلام .. ولماذا وهو الغير مستقر في أيّ أرض ولا يعرف لحياته أية جهه فمره كتب لي أن فتاة فلسطينية إلتقاها في بنغازي وتكررت اللقاءات معها وحين شعر بتعلقها به .. شرح لها حياته وصعوبة استمرارية العلاقة بينهما فهما المعذبان الباحثان عن أرض يسميانها وطن ما أية أرض ثم إنه لايعلم ماذا يستجد من أمور معه ولايريد أن يعذبها طبعاً هذه كانت اشارة واضحة يتقصد ارسالها إليّ وقد وصلتني كاملة ومره أُخرى كتب لي أن صديقه سفيان من الموصل قارب عمره الأربعين وأن أمه تتمنى زواجه وهو فعلاً يحب فتاة مغربية تعرف إليها مثلنا عن طريق المراسلة وهل تصدقين أن الفتاة عرضت عليه أن تأتي وعلى نفقتها إلى ليبيا كي يعقدان قرانهما لكنه رفض .. ليس كرهاً بها بل رأفة لوضعها فد يكون الآن في ليبيا وغداً ربما في كردستان أو تُعلق قامته على عامود مشنقة في الرميثة هكذا هم مناضلوا العرب والعراق تهون أرواحهم عليهم لكن يعذبهم أن يرخصوا أرواح الآخرين . . . كنت أستشف من كلمات وأمثلة طلعت عن الأخرين إنها عنه وعني .. لكن لا يريد أن يؤلمني أكثر لأنه يحبني وإذا كان هو قد أحبني ذات مره فأنا أحببته عمراً .. فحين تتأخر رسائله عن موعدها أبدو كعود ياسمين فقد استقامته وجرد من زهور ثيابه وبياضها.. وكنت أضيع في براري من الخوف والأسئلة والأماني .. أشعر أن وجه مدينتي دامع وحزين مثلي وحين كان يلم بي الشوق كرياح تعصف وتبعثر ذاكرتي
وأشواقي نحوه أقطف وردة من حديقتي وأكتب تاريخ تلك العاصفة عليها واخبئها ليفاجئني برسالته التي مضى عليها في طريقها إلي عدة أيام قد أُرخت بنفس اليوم الذي بعثرتني فيه العاصفة كانت علاقة غرائبه بكل ما تملكها الكلمة .. حين رحل عنه صديقه عبد الرحمن الكردي كتب إلي رغم أني كنت أيامها زعلانه منه ولا أرد على رسائله والسبب كان تأخره وانشغاله لعدة ايام عن الرد على رسائلي كتب لي أنه حزين جداً ومشتاق إلي جداً وإنه يتمنى لو يموت الشرطي العربي حارس الحواجز ويتمنى لو يستطيع أن يختصر الزمن والمسافة ويلغي كلمة الحدود بين الدول جميعها ويأتي فقط ليراني . . .
الآن وأنا أكتب هذه الكلمات علمت لماذا رفض أن يكتب لي أنه يحبني .. رغم أنه كان يقول أنه مشتاق إلي ومحبوبته أنا وأعز ما يملك ودائماً يبدأ رسالته الحمد لله الذي وهبني إياك أنت من دون النساء أدركت الآن لماذا كان يحيد بكتابته عن التطرق لمواضيع القلب والشوق واللهفة كان يوجزها بتوقيع صغير في نهاية الرسالة يضم اسمه واسمي أو بين الحين والآخر يتقصد أن يكتب كلمة يكون لوقعها رنين يداعب الروح ويغلفها ضد صدأ الجفاء و النسيان ويعلقها على عامود الإنتظار …. كم كنت نبيلاً وطاهراً ومقدساً وشفافاً يا طلعت سالت من عيني دمعة سقطت على كتفي بعد أن انحدرت عن عظمة وجنتي لحزني العميق بأنني لم ألتقيك فكم كان الزمن قاسياً وبخيلاً علينا . . . الساعة الآن الخامسة والربع صباحاً وصوت طلقة رصاص قوية .. جاءتني .. لم أعرف من أين مصدرها.. تابعت كتابة كلماتي لكن الطلقة الثانية كانت الأقوى .. ليس حلم يقظة ولا خيال إنه صوت إطلاق الرصاص في شارعنا .. تركت الورقة ونهضت أفتح النافذة وإذ بعدة رؤوس مثل رأسي قد أطلت من النوافذ والشرفات المطلة على باحة المقصف التي تقابل منزلنا .. خرجت إلى الشرفة لأستطلع الخبر مثلهم .. لكن مع الطلقة الثالثة وصل لي ولسكان الحي ممن أفزعهم صوت الرصاص عواء كلب يحُتضر. الطلقة الثالثة كانت هي الأعلى والأقوى بل والأقرب للروحه فقد عوى الكلب عدة مرات عواء حزين مفارقٌ ومغدورٌ ثم مات . . . بعدها ركب الرجل سيارته وخرج من باب المقصف إلى منزله لينام أو يشرب القهوة الصباحية وكأن يده ما امتدت الى زناد المسدس وأزهقت روح .. وعدت أنا إلى أوراقي .. وصوت تلك الروح التي تئن وهي تخرج متألمة قادني الى تساؤلات عدة
كيف خرجت روحك يا طلعت .. وبأية رصاصة الخامسة أم التاسعة أنّت وارتمت طائِعة . . . ؟ وكيف تحملتها فأنا حين عادت روحي إليّ .. وخزتُ أنيت بوجع وتألمت يا ترى بأية طلقة خرجت الروح روحك استحضر الآن تلك المناظر التي كانت تبثها قناة تجريبية للمعارضة عن إعدام الأكراد وكيف كان يُربط الرجال إلى أعمدة خشبية وتُشد أقمشة على عيونهم وكيف يبدأ رمي الرصاص عليهم ثم يتم دوران الرجال حولهم ورميهم بالرصاص ثانيةً .. وكأنهم يوزعون عليهم حبات السكر طلقة .. طلقة على الماشي ثم يأتي الأخر ليرمي طلقة على الرأس وهكذا إلى أن تخر تلك الأجساد على الأرض . . وحين يلمسون يد أحدهم ولا يزال نبضه مستمر يأتي آخر
ويسدد طلقة لا تبعد سوى القليل القليل عن جثته المرمية على الأرض لتكون تلك هي الطلقة المميتة أي اللعنات تلبستهم وأي الخطايا لاحقتهم منذ يوم بلبلتهم وأي حزن عشعش في سواد ملابسكم منذ يوم “كربلاء”.. وأية أرض تطاردونها الآن .
مضى على غياب طلعت أشهر بعد ذلك التاريخ لم أعد أرغب بتصفح جريدة معارضة أو حتى أية قناة تبث أغنية عراقية شعرت أن الحزن والألم الذي تركه طلعت بغيابه الذي لم يعتذر عنه أو يبرره بغيابه الحاضر دوماً معي وفيَّ .. هذا الوجع الذي أعيشه وأنا استحضر صوته .. عذاباته .. أحكامه ومواقفه .. يئن ُ القلب ألماً ودمعاً لكن مهما تألمت وتعذبت بدخول روحي إليّ وعودتها ليس أصعب مؤكداً من ألم طلعت والأخرين في خروج أرواحهم… من أبدانهم .. ومن عيونهم وأفواههم تلك الروح الحزينة.
أعدت فتح الظرف الكبير الذي ضم رسائلي المعادة ورسائله والصور التي تبادلناها والأشرطة ..
قرأت أحب رسالة منه لنفسي تجاوزت السبعة وعشرين صفحة وكذلك صورة له قرب بحيرة ناصر في ليبيا حين جاء للبحيرة كي يرمي البخور الذي أرسلته له كي يحرقهُ علّ أعواده تطرد لعناتي منه لكنه أجاب بأنه رماه في البحيرة ولم ولن يحرقهُ وستبقى لعناتي تطارده بل تلبسه كروحه وسيبقى الشرطي العربي يطارد عصفور القلب الذي لن يتوقف عن التغريد والحب وأكمل رسالته بأنه يتمنى لو تسلم الحكم في بغداد وأنه سيفعل كذا ويفعل كذا و… و … ويومها رددت عليه مازحة : يبدو أن الله يعرف نواياك لذلك أقصاك بعيداً عن العراق كم كانت علاقة شفافة نقية طاهرة صادقة .. كانت أكبر أمنياتنا أن نتصافح ثم تصغر الأمنية كي نجتمع في بلدة ثم منزل أو في غرفة أو على سرير لكن دائماً كانت كل البلدان تنفينا عنها وكذلك الجدران والغرف والآسرة .. فلا يبقى لنا إلا الورق يجمعنا هذا الورق الذي كان حصيلة خمسة أعوام من الحب والحوارات .. الإنتظار .. القلق اللوعة كأنه كان يعلم بنهاية حياته وآخر المطاف لذلك أعاد لي كل أوراقي والصورالتي بحوزته لتبقى أمانة لدي . كم كان نبيلاً وأخلاقه أنبل حيث أنه لم يرضى أن ينطق بصدق كلمة أحبك كي لا ألتزم بها معه مثله مثل بعض العراقيين الذين لم تلوثهم لاالأسلحة الكيماوية ولا الدولارات ولا الغربة وإغوائها وعذابها هؤلاء الذين حافظوا على طهرهم ونقاءهم وبقوا صامدين كماء دجلة والفرات ونخلات الجنوب في البصرة .
رائحة الـنار
وحدها أصابعك تعرف أين فاتحة النار فيّ فتوقد قنديل قد أطفئ من عيوني منذ زمن
وحدها أصابعك أحتاجها في هذه الظهيرة التموزية أحتاجها لتصهل ألسنة النار فيّ
تلك النار التي كنا نشعلها في صباحات نيسان الباردة على ضفاف نهر الفرات حين نذهب سوياً صوب الجسر العتيق بعد أن يدعوا الصباح بعض الكائنات البشرية إلى الحياة نلوذ بجذع شجرة التوت الوحيدة التي تصل بعض أغصانها ضفاف المياه نجلس قربها وقرب القباب التي ما زال بعضها قائماً حتى الآن رغم سقوط بعض أسقفها وانهيار القسم الأكبر من جدرانها إلا أنها ما زالت مع شجر الغرب علامتان تضيفان إلى الفرات لوعة مرة بقلبي هذه القباب التي أتشوق إلى لمس حجارتها ولا أستطيع إلا بعد أن أقطع النهر على جسره العتيق وهذا كان يعني لي أنني لن أرى طيور القطا عن قرب لأحادثها وأستمتع بمشيها على الماء
تلك الصباحات تلمسها عيني وتعيشها ذكرى ما زالت تؤلمني حين أشرد في براري تلك الأيام أو حين أمضي وحيداً إلى تلك الأمكنة أجلس في مكاننا المعتاد نفسه وأشرد لأعاود وأذكر تلك اللحظة حين كنا نضع ما نحمله على الأرض لتسرع أنت لتجمع الحطب الجاف وتشعله ناراً نستدفئ بها فشمس نيسان لا تمدنا بالدفء وأنا لقف أراقبك بتساؤل :أمن هذه الأعواد الرطبة تلهب تاراً00؟ فتأمرني وكأنك تقرأ صمتي :
أحضري الأوراق وعيدان القطن اليابسة
وأركض كطفلٍ طُلبت منه المساعدة وأجمع أكبر قدر أرميه أمامك لتجمعه كموقد صغير وترمي بينها عود الثقاب محاولاً بث النار لتلتفت وتصرخ في جمودي:
أين الأوراق ؟
وأعدو بطفولة النهر لأعود مسرعة أرمي ما بين يدي من عيدان وأوراق وأقول:
” أجيب ورق أنوب 00؟”
فترد على سؤالي: لا 0 يكفي أجلسي
وأركض قرب النار أمد بإبريق القهوة أضعه على النار التي أخذت تزرق ألسنتها أترك القهوة وأسرح مع أجنحة القطا كمن يحاول أن يتبخر برائحة النار الصباحية لتأخذني معها إلى رحلة ذكريات بعيدة لكن رائحتها ما زالت بين طيات ثيابي الصغيرة وقت كنا نجتمع صباحاً قرب تنور في زاوية شارعنا هذا التنور بناه أهل المنزل الذين لم يعتادوا على أرغفة الأفران فقرروا بناء فرن في زاوية منزلهم ليجعلوه فرناً لا يحتاج لمواد بناء مكلفه ولا تحتاج ناره إلاّ لكومة من العيدان الجافة كي يُسمع حسيسها فنستيقض مبكراً على صوت الجاره ربة البيت وهي تصفق بيديها كتل العجين ليتحول إلى عجينة رقيقة تدخلها التنور ونستبق إيانا من أطفال الحي يتناول الرغيف الأول منها لكننا حُرمنا من التنور ومن أرغفته فقد هجر سكان المنزل شارعنا وبقي التنور ملكا لنا فهو أصبح جزءاً من حارتنا الضيقة الصغيرة ذلك التنور وسيدة الرغيف الأول كانا المعلم الأول لنا :
أن النار مهما علت ألسنتها ستخبو وتتحول إلى نار هادئة علمنا التنور عشق صوت النار وعلمتنا صاحبته عشق الرغيف الأول وعشق الكحل الأسود الذي كثيراً ما صنعته أمهاتنا من سواد نار التنور
بات التنور بالنسبة لأطفال الحي المكان الذي تضرب حوله المواعيد واللقاءات كنا نلتف حوله في أمسيات الشتاء بعد أن نصنع من أوراق دفاترنا ناراً صغيرة تدفئنا نجلس قربه نتبادل الأقاصيص عن الجن وأساطير السند باد لتجود مخيلتنا الطفو ليه بأقاصيص أكبر حول قبور مازال الموتى فيها يخرجون كل ليلة من قبورهم ليزوروا منازلهم وأقاربهم وقد يتجرأ بعضنا ويقسم بأغلظ الأيمان إنه رأى بأم عينيه قبل أيام أحدهم قد عاد من زيارته وهو داخل الكفن ليخل قبره ليلاً لنفترق والخوف قد تملك قلوبنا بعد أن تكون أمهاتنا قد أمسكتنا بالجرم المشهود قرب التنور ورائحة النار تفوح من شعرنا وثيابنا فنتلقى حضنا من العقوبة حيث الضرب والسباب وقد تلحق بعضنا عقوبة أشد وهي أن يرسله أهله إلى السوق لشراء حاجة ما وهنا عليه أن يتخطى قامات الموتى الممدودة فيطلب يتوسل من أدنا لكننا بخبث الكبار نمتنع عن المرافقة لنمتحن شجاعته أمامنا فيعدو وقدماه كل منهما في اتجاه حذراً من أن تدخل إحداها في قبر مفتوح يعدو ورأسه إلى الوراء يراقبنا وهو يتمتم بعض الآيات القرآنية القصيرة كي يبعد شبح الجن والموتى نراقبه والضحك قد تمكن منا لكن لا نجرؤ على الإفصاح خشية أن نقع في الفخ ذاته يوماً ما نفذت كمية الأوراق:
لا أرد عليك لأنني أعيش بذاكرة عمرها أكثر من عشرين عاماً
تعاود وخز قدمي بعود أمسكت به:
نفذ الورق !
أصحو من شرودي على نشيش القهوة التي تبخرت بكثرة غليانها لأسكب لك الفنجان المر أولاً ثم أضيف كمية السكر التي أريد وأنا أحدق بطيور تلك الصباحات التي ما زلت أذكرها جيداتً حين تحاصرنا العيون والأمكنة فنهرب إلى الفرات الذي نُلقي بأجسادنا إليه حين يشتد حر الصيف ووخز الذكريات الحزينة نختار الجسر العتيق كي نشرب قهوتنا هناك فلا تملك مدينتنا غير الجسر العتيق الذي يحتمل وجود رجل وامرأة يحتسيان قهوتهما دون شرفة وجدران
هل انتهت صباحاتنا00؟ أم أن الشجر لم يعد يملك أوراقاً لنحرقها:؟
أنا الآن أبحث عن ورقة أنتشلها من دفتر أو كتاب أمام عيون أهلي لأحرقها علها تذيب فيّ هذا الصقيع وتدفئ برد القلب فمنذ أكثر من ساعة وأنا ألهو بالماء أرش به الجدران الفخارية وأعمدة السقف الخشبية أترك الماء يتهاطل من رأسي حتى قدمي مبللاً ثوب” الكود ري ” الذي أرتديه كي أشعر بالبرودة وبعدها أترك الماء في وسط الغرفة لتشكل نبعاً صغيراً وأجلس على الأرض أحدق بأعمدة السقف التي بدأت تتفسخ نتيجة حملها الثقيل راودتني فكرة وأنا أبحث عن ما يبرد هذه النيران التي تلفحني من السقف والجدران وذكريات تلك الصباحات التي ما زالت أعوادها المحترقة تلفح ذاكرتي وقلبي فقررت أن أرتدي ثيابي وأخرج إلى أي مكان أشرب فيه شراباً بارداً ( بيره ) مثلاً 0
وفتحت عيني دهشةً وكأني أسمع صوتاًآخر لأحد يجلس معي 0 بيره 000؟ عدت أكر اللفظ بيره لكن هذا يعني أنني أعيش في مدينة خيالية وليست مدينتي فتاة وحدها في مكان عام وتحتسي البيره 000؟ لوحت بيدي وأصابعي في الهواء هذا يعني أنني امرأة فلتانه فلا يوجد مكان عام لامرأة مثلي تدخله وحدها لتطلب ماترغب فالأمكنة العامة للرجال فقط يشربون ما يرغبون ويدخنون ويلعبون الورق أو الطاولة دون أن يثيروا انتباه أحد من المارّة عاودت أكرر كلمة بيره 000فلتانه ماذا تعني كلمة فلتان يا أمي :
ترد أمي حسب قناعاتها : الفلتان هو من فلتت زمام أموره ولم يعد يخشى حسيباً أو رقيباً لماذا تسألين00؟
نظرات أمي كأنها تحذرني من الفلت والبيرة لكن ما ضر لو أحضرت البيرة إلى البيت 0؟ هنا المصيبة كيف سأشتريها وأحضرها وأشربها0؟ ماذا لو رأتني أمي ، أبي أحد إخوتي الصبية ستصرخ بي أمي لتجمع إخوتي:
أستغفر الله بنت وتشرب الخمر وستحمل الزجاجة بما فيها وتضربها برأسي فأمي لا تتوتنى عن القيام بفعل كهذا 000
فهل أنسى حين أوشى لها أخي الصغير إني أقود دراجته خلسة في الشارع دون أن تراني000؟ هل أنسى كيف فجت رأسي ليلتها وأنا لا أستطيع حتى أن أنظر إليها رغم سيلان الدم حتى عنقي 000؟
قاع البئر
” وكثيراً ما رأيته في مركبه العائم…………….
في ثيابه الموشاة
تحيط به الأزاهير وتلفه ألبسته المذهبة ……
وقد لاحت على شفتيه بسمة ضاحكة ….
قوامها الفرح والكبرياء
فهو كوكب ذلك العالم في زمانه ومكانه
أجل رأيته في قمة عصره الذهبي …. رأيت هارون الرشيد”
من قصيدة : ذكريات ألف ليلة وليلة
لالفرد تنسيون …………
ها انذا اليوم . أحمل مياهي الباردة وبراكيني التي خمدت منذ قرون طويلة. وأبحث عنك، عن أصابعك التي تعرف كيف تشعلني ؟ وكيف تخمد حممي؟ أدور في المدينة التي شهدت لقائنا قبل ألف ومائتي عام، أدور واستعرض الأسواق والوجوه، فلا أرى وجهك النبيل بينها، لا أرى موكبك الملكي يعلن عن مجدك العالي.
وقفت أمام باب بغداد، فلم أجد القوافل تمر، ولا الحرس يستعد وحين زرت قصر بناتك، لم أجد غرفة لي بين غرفه التي نامت تحت تراب وعشب ونعاس ابدي.
وها انذا اليوم.
أدور حول سور المدينة الأثري، أتلمس آجره الأحمر الجاف كلحم مقدد، ومهما حاولت لن أجد رائحة غير رائحة التراب الخامد والحجر الغشيم.
وفي المسجد العتيق لا شيء هناك سوى القناطر التي شاخت وبقايا المئذنة الدائرية، تمتد مثل أصبع اتهام إلى الأعلى ولا من يعبأ بها.
وكنت أحن إلى لياليك يا هارون الرشيد، اشتاق إلى كل ما فيها من ملذات وكبرياء وغوايات صاخبة، حيث يغلب اللون الأحمر على كل شيء، على النبيذ والدم والستائر والأضواء، وحيث تموت الأصوات والآهات في الدهاليز والأقبية والممرات الطويلة، وأنت أنت دائماً الرشيد.
وتبدأ الليلة المليون بعد الألف.
من الليالي التي فيها سفك الدماء منك مباحاً ” يا هارون الرشيد أيها البدوي الذي لم تروضه عروش الذهب، ولا صبايا شيراز أو سمرقند أو قندهار… لم تحرك فيه الإنسان أوتار إسحاق الموصلي أو إبراهيم .
تدرك أنك كنت نطفة، ياهارون الرشيد وأنني كنت جارية مملوكة تشع من عيونها بروق غامضة تطل مثل غيم، مثل ندى، مثل قطعان من الذؤبان الجائعة، كل الذين عرفتهم أحبوني، هاموا بي، وما أن يتزوج أحدهم، حتى ينصرف عني إلى حين ثم يحن إلى قاع البئر، يتذكر مياهه الباردة، فيدعوني حين تخلو جنته الزوجية لكي احتسي معه كأس شاي معتقة من السماور التركي ذي البخار المتصاعد.
أكون وقتها أنا الجارية، المملوكة، الموشومة بوشم سري، قاع بئر لأحزان عمقية تجثم على الصدور كحجر الرحى الأسود، تطحن القمح والشوفان، والذرة الصفراء، أكون الملجأ الأمين، والملاذ، وهكذا كان قدري يا هارون الرشيد منهم من كان يراني طفلة مسكونة بالنار وزهر الرمان ومعتقة بالتوابل وحين يعض شحمة أذني أصرخ فتتصدع الجدارن، ومنهم من يداعب منحدر العنق إلى الجيد فأذوي كوردة القرع الغضة وهي تواجه شمس الصيف لتنعقد ثمراً جديداً.
ومنهم من يتعرى ليغتسل بعرق من جنابة الخيانة معي، وكلهم يحبون طقوس البركان لدي، وأنت وحدك يا هارون الرشيد عرفت كيف تخمده بضلالاتك الفاسقة، وبيدييك اللتين تلتذان بلم الحمم الفاجرة، كنت ترق، تتحول إلى غيمة من الندى النشوان تتساقط على النار فتكون برداً وسلاماً، حينها أغفو بين ذراعيك، وحين تناديني أفتح عينين كالأقحوان وأغمغم :
-نعم …..
ثم أمط شفتي …. أهمس:
- لماذا لا تتركني أنام في قلبك … ؟
- وهذا السرير المذهب، والعرائش، والأكاليل المزهرة من ينام فيها؟
النوم في القلب جميل، لكن الالذ منه حين يتوسد رأسك ذراعي هذه التي بإشارة من إصبع فيها تمحى مملكة، وبإشارة أخرى يأتيني الخراج من آخر الدنيا.
ومثل كل المرات السابقة ألبي نداء الجسد، حين يشتد صهيله الأزلي.
- ما دمت لا تفكر بقاع البئر، فاليك البركان .
وأتطاير حمماً بين يديك، أجدني أسبح بين فراشات وفل وأسماك كحورية تمضي وهي تنثر من حولها الثمار المحرمة والخطايا والضلالات لتغوي وتفتن وتزهر بأكاليل زهرك وتنتهي في نهاية المطاف إلى مينائك الوحيد، متعبة مرهقة، تغفو.
وحين أصحو، أجدك يا هارون الضال تصب لي الشاي بيديك العاريتين إلا من رائحة الغالية، وتجمر لي نفس الاركيلة، وتبعد الستائر الوردية عن خديَّ، وتجري في تلك الدماء المختلطة من تركية وكردية وفارسية، فتنثر وردها على الوجنات، فأمرر أصابعي أبحث في آثارك التي خلفتها على أطلس جسدي، هذه الآثار التي لا يمكن أن تندثر.
وبعد مرور قرون طويلة، هأنذا اليوم يا هارون الضال أبحث عنك، أزور باب بغداد فلا أجدك،أدور حول سور المدينة فلا أجدك وأقف أمام قصر البنات، بناتك، فلا أجد غرفة آوي إليها لأنتظر قوافلك القادمة، تزلزل الدنيا، وتزرع الهيبة والخوف في قلوب الجبارين.
- أتراني ما زلت في قلبك مختبئة، أم أنا في عينيك أسبح وألم النجوم والأقمار…؟
كلماتك لا زالت تقرع أذني:
- من أي صلصال صاغك الله يا قاع البئر..؟
فأرد ضاحكة :
- من ياقوت وزنجبيل والقليل القليل من الفلفل الأحمر.
- حين أرتحل إلى مدينتي العاصمة ألا تشتاقين..؟
- سأشتاق ولكن …
- ولكن ماذا…؟
-أنت قاس ورقيق كالماسة تخيفني قسوتك وأحن إلى رقتك الماسية، أنت تنثر العطر بيد وبأخرى تطيح بالرؤوس، هكذا أنت يا رشيدي.
- وهكذا كل الملوك .
- كنت أريدك حبيباً .
- وأنا حبيب قلبك .
- والملك فيك .
- يموت ليلاً ويصحو نهاراً.
إذاً أنا جاريتك نهاراً ومولاتك ليلاً.
في الليلة الأولى والثانية، رفضت أن أراك عن قرب أو أن تراني، فلقد كنت قادمة من براري الثلج، محمولة في هوادج النخاسين، متعبة مثل قطاة عطشى، أحن للنوم، والاسترخاء، والظلال التي تفتح كل مسام جسدي ونوافذه لاستقبل الماء الممزوج بالعطر وهو يغسل جسدي من الغبار والتعب وعرق الأيام، وبعد الحمام كنت أجلس في آخر الصالة، أراقب العمائم والرؤوس والأصابع المثقلة بالخواتم تتحرك، تتحرك بلا صوت أو حس كأنها تسير في الهواء.
هادئة ورقيقة كنت، ومجنونة كقطة محاصرة إذا ما أوقظني أحدهم من النوم، ولم أكن أدري أنك تقرأ العيون والأصابع والأرجل، وتعرف أسرار الصدور ومدارات الشهوات، لم أكن أدري أنني أمام عاشق مولع بأمثالي من مختلطات الدماء.
- ماذا يريد مني هذا الجلف المغرور..؟
كنت أردد أمام الجواري والخدم . فتتسع العيون من الدهشة والغربة ويتصامم بعضهم . وأنا على يقين من أن بعضهم الآخر قد أوصل إلى مسامعك ما قلته .
ويوم قلت :
- ماذا يريد مني قاتل البرامكة …؟
أصفرت الوجوه غاض منها الدم، وكنت على يقين بأنك ستكون مشتاقي وستأتي إلي لأن ياء الملكية هذه ساحرة، تخلب لب الملوك ..، وجئت إلي بالتأكيد قلت لنفسك:
- أي نار قادرة هذه النحيلة الشاحبة على اشعالها في عروقي…؟
وتقدمت بجلال وهيبة، كانت الغرفة تغرق في عتمة لم تستطع أضواء الشموع الشاحبة أن تبددها :
- مولاي .
ومثل مهرة نهضت فأشرت بيد مثقلة بالخواتم والبريق، يد تعلمت أن تأمر فتطاع :
- أجلسي
وتصلبت توتر جسدي وأحسست برغبة حارة في أن أفر، ان اهرب من النافذة .وتقدمت وأنا خائفة، أرتعش، وجلست إلى جانبي، ونظرت طويلا، تفحصت أصابعي، وشعري، ثم رفعت رأسي بإصبعك المثقلة بالذهب والنار ونظرت في عيني:
- لك عينا جنية ورأس أميرة .
قلت بصوت أجش، بارد النبرات، خال من أي تغبير ثم أردفت وأنت تعتصر شفتي السفلى بين السبابة والإبهام حتى أدميتها، ولم أتأوه فتابعت:
- لك شفتان نهمتان .
قمت من مكانك مخلفا ورائك عاصفة من العطر والخوف والجلال وعند الباب توقفت قليلاً وقلت :
- احتفظي بلسانك لي فأنا أحب الألسنة السليطة .
ثم أختفيت بين دهاليز القصر وممراته.
وتركتني أياماً، أفردت لي خلالها جناحاً خاصاً يا هارون .
حملت إليه السجاد والورود والأرانب والسلاحف والقنافذ والسرطانات، والأسماك الذهبية، والثلج، نعم الثلج لأذكر تلك البلاد الباردة البعيدة التي جئت منها حيث الايائل وأشجار البتولا ذات الأوراق البرية التي تقف في وجه العواصف والصقيع والأنهار المجمدة، وخيام الادم، والدماء الغائرة دائماً. وفي الليل أسمع صوت خطواتك ثقيلاً في الممرات حين تسبقك رائحة عطرك المميز، فأترنم بصوتي المبحوح، أرتل أغنية عشق، أنصبها فخاً لك، أغنية تلتف أنغامها حولك كشال من كشمير، فتشل إرادتك، تثير كل أشواقك الحبيسة للصيد، للطرائد، ويستيقظ فيك الرجل، تصهل أفراسك الجميلة فتنقاد إليها، وتقتحم الغرفة، تذهلني نظراتك . يذهلني البريق المتقد فيها فانهض أمامك . أقف بانتظار ما يبدر منك
.. وهانذا الان بعد قرون أتجول في المدينة التي شهدت لقاءنا الأول، أمر بباب بغداد الذي لم تعد إليه القوافل، ولم تعد تعبره الجيوش والاعلام والقادة، أمر بالجامع القديم والسور وأطلال قصرك الذي نهبه لصوص الآثار وآوى إليه قطاع الطرق، زمناً، أمر فلا أسمع صوتك آمراً، ولا أشم رائحة أردانك المثقلة بعطر الغالية، ولا أرى بسمتك الفاتنة يا هارون الضال كيف انقلبت الأيام …؟
- هل أنت مجنونة…؟
صاح بي الدليل السياحي حين سألته …
- أين يمكن أن أجد هارون الرشيد…؟
ثم تابع:
- هارون الرشيد مات منذ قرون …؟
- كيف مات…؟
- مات كما يموت سائر خلق الله .
- لاأصدق، إنني أسمع صوته، أشم رائحة أردانه، وضحكاته، وهاهو رقم هاتفه عندي.
- اطلبيه إذا
وقمت من مكاني، توجهت إلى عامل الفندق، طلبت الرقم فجائني صوت امرأة نصف نائم ونصف مخمور، قلت بخشية :
- بيت هارون الرشيد.
- نعم … قلت بيت من …؟
هارون الرشيد.
- لا هذا بيت جعفر البرمكي . هل من خدمة أقدمها لك..؟
- وماذا تستطعين أن تقدمي لي..؟
- كل ما تشتهيه نفسك … تريدينه شابا أم كهلا . أم تريدين صبية مثلك …؟
ألقيت بالسماعة وقد أقشعر بدني، وأتسعت عيناي دهشة بينما الدليل السياحي يبتسم .
بعد لقائنا رحلت يا هارون الرشيد، انتهى الصيف.
ومدينتي لا تأتيها أنت وحاشيتك إلا في الصيف، توجهت إلى بغداد ودخلت مدينتي سباتها الشتوي، بينما دخلت أنا سباتي الروحي، أغلقت فم البئر على مياهه الباردة وجلست في جناحي أمشط شعري، وأراقب أصابع قدمي ويدي، وأتحسس آثارك على أطلس اللحم، ومن حولي عصافيري وسلاحفي وكائناتي الأخرى حتى كانت ليلة من ليالي الانتظار الطويل.
كنت خارجة فيها من الحمام، يفوح مني العطر يختلط بالشهوة والشوق والخوف من الأيام التي لا ترحم، فجأة أقتحمت غرفتي كما في المرة الأولى تصهل أفراسك الجميلة، ويداك عاريتان من كل حلية، صحت من الفرح :
- ها قد عدت يا هارون الرشيد…؟
- عدت يا قاع البئر ولا أدري أي سر يشدني إليك…؟
فعريت جذعي وأشرت إلى وشم رسمته إبرة بالشذر الأزرق يعتلي حلمة الثدي الايسر، فكلما ولدت أنثى في قبيلتنا، تحضر امرأة متخصصة بالوشم فترسم على حلمة الصدر اليسرى فوهة بئر لها قاع من ماء.
أزرق وبارد بلون السماء، كل من يشرب من مياههه لابد أن تعود إليه ثانية .
- هانذا أعود يا قاع البئر لا شرب من مياهك وأشرب .. وأشرب .. وأشرب … وأشرب…
حتى العطش..
ونعود ثانية، السرير ذو القوائم الذهبية، والستائر الوردية وأعود لاغفو مرة أخرى بين ذراعيك خامدة، مهزومة مطفأة البروق وتمسك بكفي مثل عراف يا هارون الرشيد تنظر فيه طويلا، وتشير إلى خطوطه، هذا خط العمر، وهذا خط السعادة، وهذا خط الحب، ثم تضغط أصابعي حتى يكاد الدم ينفجر من أطرافها، و وتهمس :
- أنت من برج السرطان وعيناك أشبه بعيون السرطان يا قاع البئر .
- وأنت أشبه بحصان أرهقة الركض.
- ماذا تقولين ….؟
- لقد تركت بغداد وفيها الطامعون بعرشك ألا تخاف…؟
- أنت تكفينني.
- كيف جئت إذاً …؟
تنكرت بزي تاجر خمور .وخرجت في الصباح الباكر بعد أن فززت واقفا من حلمٍ رأيته ليلاً
- وماذا كان حلمك..؟
- حلمت يا قاع البئر كأنني في الحرم أرتضع من أخلاف ضبية فاستدعيت الكرماني على الفور ليفسر لي هذا الحلم فكان تأويله .
يا أمير المؤمنين إرضاع بعد الفطام حبس في السجن ومثلك لا يحبس لكنك منحبس بحب جارية لك بعيدة هي عنك الآن .
- فكان تأويله للحلم صحيحاً يا قاع البئر لذا أعتليت فرسي وأتيتك . وضحكت . خرجت الضحكة مبحوحة خافتة كنداء المجهول الذي يبشر بعاصفة وريح ماطرة، وفي الصباح لم أجدك إلى جانبي يا هارون الرشيد فالخوف ناداك حتى لا تفقد بغداد الأخرى .
ومنذ ذلك التاريخ تنقلت من مدينة إلى مدينة، ومن قصر إلى قصر، مرت مئات الأعوام وأنت معي يا هارون الرشيد، أنام معك، أحلم بين ذراعيك، وحين تثور براكيني أبحث عن أصابعك الخالية من الخواتم لتلملم حممي، وتهطل ثلجاً على تضاريسي، فأهمد، ثم استسلم للنوم.
حين وصلنا طللاًمن أطلالك البائدة .
وقف الدليل السياحي وأشار إليه:
- ما ترونه أمامكم هو قصر ( هرقله ) بناه هارون الرشيد لجارية من جواريه، قيل جاء بها نخاس من أرض الروم، قيل من مملكة الخزر، وقيل من أرض فارس، وقيل انه سباها في أحدى غزواته الظافرة، وقد تحول القصر كما ترون إلى أطلال، ومع ذلك يقسم الرعاة والاهلون أنهم يرون رجلاً يخرج في ليالي الصيف باحثاً عن امرأة يناديها بأعذب الألفاظ، رجلاً له سمة الملوك، وعظمة الخلفاء، ربما يكون هارون الرشيد.
قال : ثم التفت إلي يبتسم، وشعرت بأبواب القصر تفتح لي، فتهب رائحة الغالية والأبهة من جنباته، فأدخل كالمسحورة، حيث أراه يقف ماداً ذراعيه، والى جانبه السماور تفوح منه رائحة البخار، فأسرع إليه، أدفن رأسي بين ذراعيه وأجهش باكية بينما تتلمس أصابعه العارية، موضع الوشم السري في صدري، ويهمس:
- أين كنت ياقاع البئر كل هذه المدة …؟ أين؟….أين ؟
فلا أجيب، تموت الكلمات على شفتي.
هذه مدينة لم تتبدل ….
الهلوك في امتداده ………
والحكماء النائمون والجبناء…
النساء الخائنات مع الخائنين ….
الحجر الأسود والنهر…
اللعب بالدم
منذ الفجر الأول بعد الليل الأول
دائماً كان هناك فجر يشرق، تكون قبله ليلة اسمها ” البارحة”
تمتلكها ذاكرة سرية لا تعطي أسرارها إلا لمن يملك مفاتيحها، هذه المفاتيح المعقدة، لذا فكل ليلة قبل الفجر أعيش مع البارحة، فأذكر كل تلك السنوات التي نسميها عمراً أو حياة ندعي أننا عشناها . أذكر كل تلك البارحات فكأنما أوقظها من رقدتها لنشرب فنجاناً من القهوة في حديقة المنزل أو نسمع دور سيد درويش ” أنا هويت وانتهيت ” ثم نقيم معاده يرتفع فيها العويل إلى عنان السماء.
- أيتها المرأة لا توقظي الجرح.
قال القلب
- أيها القلب من أين جاءتك الحكمة ؟..
قال الجرح .
-أيتها المرأة كوني لا ئقة بي على الدوام .
قال العشق
وانطلق سرب من الحساسين في سهوب الذاكرة، يبحث عن أعشاش وبيوض دافئة دفء الدم الظامئ أبدا للملح .
ومثل عراف بارع استحضر عيونك، أحدق في سوادهما الماثل أمامي براقاً وعميقاً وكتيماً ورجراجا مثل القهوة ثم أبدأ بتلاوة اعترافاتي وقد بدت الغرفة البيضاء، والملاءات النظيفة وصورة الطفل العاري أمامي مكاناً مثالياً لذلك الطقس، فتركت نفسي على سجيتها تتدفق ساقية من ماء يندفع نحو الجذور، وينسرب فيها فتدب خضرة الحياة في الساق والأوراق واليباس.
- أيتها المرأة هذا العشق ملعون لايغسله غير الدم .
- قالت العادات .
- هذه العادات لا ينفع فيها شيء لأن العفن يأكلها .
قال الدم . واندفعت الذكريات في البال حمى من الوجد والنار الكاوية والنشيج، فاستعدت وجه أمي وقد ملأت الدموع عينيها الصغيرتين بعد صلاة طويلة تهجدت ودعت خلالها طالبة من الله أن يحد من طيشي وجنوني لأنها أدركت أنني ألعب بدمي، ولا آبه بألم واستمع لنصيحة فهاهم يعودون من المشفى بعد أن استخرجوا شظية زجاجية مزقت باطن قدمي وانغرزت فيه .
- لقد نزفت حتى كادت تموت.
قال أخي … ثم تابع :
- لم يبقَ فيها دم سيقتلها فقر الدم.
ويوم جمعت زهرة الثلج، نفضت عنها ثلجها، واحتفظت ببياض الزهرة إلى جانب الزل ووردة القندريس، ضحكت أمي من عبثي الطفولي وعلقت وما عرفت أن اللعب بالدم أوله زهرة الثلج البيضاء.
ومثل زهرة الثلج البيضاء
كان كل ماحولي أبيض، الغرفة والجدران والوجوه ولباس الممرضات والأطباء، وأنا في غيبوبة بيضاء، بينما الدم في شراييني يتحرك يسري بصهيل صاخب، أحسه مثل نهر، وتعاودني الأطياف، تعاودني أمي وهي تلم شتائمها وتحوقل أمام عنادي وتصميمي على أن نأكل ” حلوا” في تلك الليلة .
- لمَ الليلة تحديدا..؟
سألني رفيق أخي .. فأجبته :
- لأن الليلة عيد ميلادي .
كنت يومها في العاشرة من عمري فضجوا بالضحك جميعاً . ولم أطالب بالكثير فأنا اعرف فقرنا ….. لم أطالب بشموع أو قوالب كاتو، كل ما أردته شيئاً حلوا، لقم القاضي أو مشبكا( ) وقادتني أمي من يدي، كانت الشوارع شبه خالية فقريتنا الكبيرة تنام باكراً . وكنت أرى أعمدة الكهرباء وكأن مصابيحها شموع تضيء لي، وأمام بائع الحلوى البدين وقفت وصحت أنا:
- اليوم عيد ميلادي ياعم، فتوصى بالمشبك .
- تكرم عيونك.
قال الرجل ضاحكاً، وتمنى لي عمراً طويلاً، بينما تمنيت حديقة من زهر الثلج الابيض الجاف والقندريس البري والزل وطيور البط والدراج والكراكي مما أراه أحياناً على ضفاف الفرات. ويوم كبرت عرفت الوجد الحقيقي لقريتي الكبيرة
عرفت شيئاً شرسا يمتد بأذرعه الألف اسمه العادات والتقاليد فيه ما يجوز وما لا يجوز، عرفت تنينا اسمه العشيرة رهن الجميع عنده دمهم فلا مهرب لهم منه.
وفهمت معنى الدموع في عيون العذارى ليلة زفافهن لانهن تزوجن كما يريدون لا كما يردن، فهمت لماذا تلبس معظم النسوة السواد وعيونهن ترتجف وتدمع أمام المقابر في الأعياد.
ولم أعد أضحك كثيراً بعد ذلك .
ويوم تفتح جسدي عن دم وثمار محرمة وطيبات . فاجأتني كثرة العيون النهمة من أبناء العمومة، كانت تنظر إلي وكأنها تراني لأول مرة، ولم أهتم، بدأت الابتسامات والإشارات السرية والرغبات تحاصرني، ولم أهتم، كان قدراً غامضاً صهيل جسدي إلى عالم آخر، وكانت أمي تردد:
- متى أزوجها وأرتاح..؟
ثم تلوي عنقها كما تلوي بجعة عنقها في بركة ثم تروح في دعاء طويل وتوسل خاشع لا ينتهي.
ويوم ظهرت لم أفاجأ بك .
كنت أعرف من قبل وكأنني عشت معك في عصر سابق، فأنا أحفظ لون عينيك، وشكل وجهك وخطوط كفك، وطول قامتك، كنت بانتظارك كما تنتظر شجرة غريبة عطشى غيمة ماطرة ،ومنذ اللحظة الأولى كنت أعلم أن حبنا مستحيل، فأنت غريب، العشيرة تنين يكره الغرباء ويرتهن دم أبنائه وبناته ولا مفر لهم منه.
- حبنا مستحيل .
صحت بي، فأجبتك:
- أنت خائف..؟
- خائف عليك لأنني أضن بعنقك هذا على الذبح .
أمسكت بأصابعك الخمسة بين أصابعي وأقسمت كما تقسم أمي أمام نسوة الحي أحياناً : بحق هذه العشيرة وعشرة رسول الله لن أكون لغيرك.
كان قسماً مجنوناً، وكنت أعلم أنني ألعب بدمي، ومضينا، تركنا القرية الكبيرة والناس والنهر، وكنت لي الأهل والوطن والحضن الدافئ، ولأن العالم يصبح صغيراً أصغر من راحة الطفل للخائفين انطلق أبناء العمومة والأخوة ككلاب الدم خلفي، يحملون خناجرهم ومسدساتهم واحقادهم ولعنات العجائز .
- لا توقظي هذا الجرح المتخثر دمه على فم المرأة
قال القلب
- تظلين لائقة بي يا امرأة عنيدة .. قوية ..
قال العشق
- لمن يتم تسليم جثة الصبية للزوج .. أم للأهل … أم للمدافن ..؟
قال الطبيب.
ومن ورائه أطل وجه أمي دامع العينين يدعو الله أن يغفر لي لعبي بالدم، وأطل وجهك حزيناً بين يديك باقة من الزهر الأبيض تطل أمامي.
وركض دمي في الشرايين كصبية تلعب .لأول مرة منذ ولدت أتذوق طعم دمي، وأشم رائحة الحياة كما أشم عبق تلك اليدين وقد اختلط فيهما رائحة العرق والدم برائحة الزهر الأبيض من يد جنيني الذي لم يكمل الشهرين بقلبي.
انفعالات
(1) رجل وامرأة
في البدء كان رجل وامرأة، عاشا معاً، ناما معاً، ضحكا معاً، وتشاجرا معا، كان آدمها، وكانت حواءه ،ولأن الحياه لا تكتمل بلا خطيئة، أغوته، فلعنه الرب وطرده من ملكوته، ومع ذلك ظلا رجلاً وامرأة، تعدله في الصباح قهوته وتحمل له كتبه وغليونه وأقلامه ليكتب سيرتها مرة اخرى ….
- فمن منهما يغوي الآخر؟.
(2) محاولة اغتصاب
كان مساءاً ناعماً، أحسته يتغلغل في خلاياها، فتشربه بلذة وأدمان كنبيذ غامض له نكهة حريفة وأليفة، كانت لحظة مفاجئة اندست في صدرها الدافئ كقطاة تائهة . وكانت بحاجة إلى رجل تحدثه عن أشياء حميمة وهو يحدق في عينيها باسما .
رجل لا يفهمها خطأ . فهي حالمة، شاردة، مبهورة تجد كل ذرة في جسدها مقدسة، ولأن الحفلة كانت رائعة خرجت متألقة فاقترب منها قائلاً:
- تفضلي آنسة أوصلك فالسماء غائمة .
فتح لها باب السيارة ركبت وركب، كان صامتا يقود السيارة في الشارع ولا يهتم بشيء
- أتمانعين في جولة صغيرة تحت المطر.
- لا
أخرج علبة الدخان، ناولها لفافة ،ودس في فمه أخرى، أشعلا اللفافتين معاً وبدأ مطر خفيف يتساقط ليدق زجاج السيارة كمناقير أفراح طرية .
- هذه الطبيعة مجنونة
-أنها ترتعش مثل امرأة في المخاض، تعوي تمزق ما حولها وتتمزق من الداخل لتلد البذرة الخالدة .
- هذا شعر .
- هذه حقيقة .
- لكن المزارعين لا يوافقونك على هذا الكلام .
- لا علاقة للشعر بالزراعة .
وسكت وهو يحس بالاحباط، وبغريزتها التي لا تخون أحست رائحة ما تفوح من الوجه الذي اشتعل مع جمرة اللفافة فعاودت هجومها مرة أخرى بلذة سادية وقد فارقتها تلك المسحة الشاعرية :
- تتحدث في الزراعة مع أنك تعمل في مجال الثقافة .
- الثقافة مثل الزراعة كلاهما دائرة حكومية .
- والمجال ؟.
- واحد . هذه توزع بذورا وهذه توزع كتبا .
- ألا ترى أن هذه النظرة جائرة ؟.
- ولم ؟.
قال بتساؤل عابث ثم مد يده يتلمس الطريق إلى يدها، دفعته برفق ثم تابعت بصوت تعمدت أن يكون عادياً.
- الجو رائع
- بالتأكيد فهو يساعد على خلوة في إحدى المزارع . مارأيك ؟.
- لارغبة لدي.
- ولكن .
- آسفة .
أوقف السيارة فجأة، ووقفا متقابلين رجلا وامرأة، مد يده لتناول يدها فسحبتها بقوة … ثم وجهت صفعة قوية إلى وجهه وفتحت الباب وانسلت إلى الخارج.
-ركضت وركضت .. وركضت وحين شعرت بالتعب، ركعت تحت المطر فتدلى شعرها إلى الأرض ولم تتوقف عن النشيج واللذة العارمة حين بدأ المطر يغسل جسدها ويطهره، ويذوب في حرارته المشتعلة وقد عاد إليها الصفاء من جديد كعشتار خرجت من مخاض.
(3) رسائل
كتب لها رسائل كثيرة، اعلن فيها حبه وإخلاصه وزينها بأشكال عديدة كتمائم غامضة، وقلوب وخناجر وعيون واسعة وخرز أزرق.
كتبت له رسائل كثيرة عطرتها بالليمون والنارنج وملأتها بأوراق الورد الجوري والأقحوان والنرجس… ولم تقل له أكثر من أنها عاجزة عن اللحاق بعنفوانه وجبروته.
وذات يوم انقطعت رسائله، هكذا مثل سيل غير مجراه، ولم تتوقف عن كتابة الرسائل التي تملأها فلاً وياسمياً رغم أنها كانت تعاد إليها لعدم معرفة عنوان المرسل إليه الجديد.
(4)صناعة
النبيذ الجيد من العنب، والخل من العنب، لا فرق سوى طريقة الصنع .
(5) خيانة
- من يخون الآخر، الكلمات أم الكاتب ؟.
- الكاتب إذا انحاز إلى امرأة يحبها .
(6) امرأة وحيدة :
صباحا حين تستيقظ . تركض نحو المغسلة، تغسل وجهها بالماء فترتعش وتمضي إلى المطبخ، لتعد قهوتها الصباحية، ثم تجلس في الشرفة، كل شيء هادئ، شجر المنتزه المجاور، ويمامة، والجسر البعيد، وجبل البشري، والساعون إلى الجامع أو الفرن القريب، وبعد ذلك تستعد للذهاب إلى مدرستها بعد السيجارة الثالثة وفنجان القهوة الثالث، ومهما تجمع في صدرها من أحزان الليلة السابقة، ترسم ابتسامة على شفتيها حتى لا يهرب منها تلاميذها الصغار في المدرسة .
العشاق
رن جرس الهاتف طويلا “
وكانت تقف أمام النافذة، ترصد أشجار السرو والكينا والتوت في الحديقة المجاورة، تبحث عن اليمامات المتشاقية بلهفة عاشقة تنتظر حبيباً هاجراً.
- نعم .
- قالت بصوت الواثقة وهي ترفع السماعة وتلمس حلية ذهبية استراحت على صدرها المرمرى كرقم طيني عن أميرة سومرية ساحرة، ماتت شابة ولم تخلف وراءها سوى عقد من اليشم وقارورة من العطر ونقطة من الغالية .
- سمر ؟
داهمها شعور مهرة أصيلة ترفع عنقا ” أملودا ” نحو المراعي الخضراء وتدق بحافرها صدر الأرض ليتناثر الورد والنرجس البري والأقحوان . أجابت :
- لا .
ساد سكون جنائزي رافقتها ضربات قلب تسارعت في صدرين وغرد الكناري في القفص الذي يحتويه أمامها، رف بجناحيه، وعلت أغرودته، وغازلها بعينين من خرز ملون وشفاف.
- أختها ؟
جاء الصوت مخنوقاً ” غائماً ” مثل سحابة شتوية تعرف أين تسقط دموعها لتعشب البرارى وتشبع الغزلان والقطعان ويأنس القطا :
- لا لست أختها .
- ولكن ليس لها غير أخت واحدة .
- هذا صحيح … فلا تكن …..
- يالله لا تكملي … أنت هي .
- لا .
- إذن من أنت ؟
- أنا عشتار.
- أمنحيني عطياياك إذن .
- أنت مطرود من جنتي .
- ولكنني وحدي أعرف أسرارها .
- أكيد أحدنا مجنون .
- – أكيد .
- إذن .
- نلتقي؟
- نلتقي.
والتقينا لم يبق شارع في المدينة الا والقيا عليه التحية مساء وصباحاً. ولم تبق شجرة دفلى أو جوز إلا وتركا على جذعها أثار أظافرهما، هكذا مثل نقوش بدائية عن وجوه وعيون وأشارات وغزلان شاردة في مراعي الجزيرة الفراتية.
وضحك وضحكت .
وقال وقالت.
سهر وسهرت .
وبكى طويلاً ولم تبكِ، ظللّتْ تستمع لأنينه وتلم دموعه في راحتيها ثم تنثرها في كألاهة الينبوع، وحين انهار على صدرها مثل غصن مثقل بالثمر تناثر الدراق الناضج في كل مكان.
ومع كل ذلك كانت أياماً سعيدة لكنها مسروقة، لا تحس بها سوى الأرصفة والساحات الخالية من البشر والعابرين إلى جهات أخرى، وضفاف النهر الذي خانه الوقت فأضحى مجرى صغيراً فقد هيبته في مواسم الفيضان الموسمي.
- آه يا سموره، وسومر، وأسمار
قال وهو يتفقد أصابعها، وعروقها، فردت بإباء:
- لا تلعب لعبة اللغة
- أنت فراشة النور
- قلت …
- وسهوب الروح الجائعة .
- قلت لك ….
- لاتقولي شيئاً أرجوك.
- إذن سأغني .
- غناؤك بكاء وبكائي غناء.
- أريد أن أكون …
- كوني أورنينا.
- لا أريد أن أكون سلطانة النهر، أطوف لك من أصابعي العشرة شموعاً في الليل ليرضى عني الخضر أبو العباس.
- أنت امرأة استثنائية
- كل آلهات الجزيرة كن مجنونات بالنهر والناس والشجر والطرائد والفهود ومستعمرات النمل وبنات آوى .
- سمر .
- قلت لك لا تسم الأشياء بأسمائها .
- ولم ؟
لكي لا تفضح الأسرار.
- ماذا أقول إذاً ؟
- قل يمامة .
- لا أقدر .
من أذاع السر فدمه مباح.
- أقول .
- قل ولا تقل .
- لاتتركيني للحيرة .
- لاتتركني للأمل .
- تعددت الأسماء والمسمى واحد .
- أنت قاسية .
- آلهة حجرية .
- لك قلب.
- من ذهب .
أنت باهرة .
وأنت طفل مدلل.، – كنت أريدك العاشق.
- قل شيئاً.
- قل
- هكذا يكون العشق .
- كنت أريدك العاشق .
- وأدرات ظهرها، سارت مثل سارية في الريح، مثل شجرة سرو رمحية، ترفض أن تحني ذؤابتها أمام العاصفة، ووقف وحيداً في الشارع ينتظر شيئاً أومعجزة يمكن أن تحدث.
وفي مكان ما غرد الكناري وغامت بعينيها دموع الكبرياء دون أن تعلن عن ذلك….
طقوس امرأة
صباحاً استيقظت على صوت عصفوري الرائع …
هذا الأمير الصغير المغرور، بمعطفه الملون . وحركاته الرعناء وأجنحته الصغيرة القزحية، رمشت بأهدابي فتداخلت الصور، وظل صوت الكناري يملأ كل ما حولي، ثم تمطيت وأنا أرفع رأسي وجذعي عالياً أريد أن أطير مثل فراشة باتجاه الضوء والفرات، كي أترك فرصة للنوم، يتسلل من مسامي وأعصابي كلص فاجأه نور الصباح فأسرع بالهرب خوف افتضاح أمره.
- صباح الخير يا سفير العصافير
صحت بالعصفور، فتحرك داخل القفص بصخب، وكأنه يرد على تحيتي الصباحية بحركاته الاعتباطية تلك، دون أن يكف عن تغريده، أو ينتظر يقظتي الكاملة .
- صباح الخير يا أشجار السرو والحور والكينا .
صحت بالأشجار التي تطل بقاماتها السامقة من نافذة غرفتي في الطابق الثاني حيث يمتد أمامي منظر المنتزه الذي كان يوماً مقبرة موحشة فحولته البلدية إلى وضعه الحالي.
- صباح الخير أيها الموتى الذين رحلوا وظلت رائحتهم تسكن التراب والشجر .
صحت من مكاني وأنا أحاول أن أركز ما تبعثر مني والملم أجزائي المتباعدة بعد موتنا الليلي الذي نسميه النوم .
- صباح الخير يا وجهي العاري الحزين .
همست لنفسي، ثم مددت رجلي الحافية اتلمس بأصابعي وبر البساط الصوفي فأغرق في متعة تتسرب عبر أصابعي إلى مفرق رأسي، متعة عاشقة لا يدرك لغة عشقها غير الأصابع.
أصابع امرأة صغيرة ومحاصرة بالحزن والفراغ والخيبة في قرية كبيرة، تستريح على خاصرة الفرات في الجزيرة .
هذا الفرات الذي كان يقول عنه أبي بحزن وعشق :
- الفرات …؟
يهز رأسه ريثما يرشف من قهوته .. ثم يتابع :
- كان حياتنا ووجعنا، يعطينا الحياة والمواسم بيد، ويسرق أطفالنا وأفراحنا باليد الاخرى، .. كان جبارا وطاغية .
وتقول أمي:
- هذا النهر مثل الرجال، خائن وغدار.
ومع هذا كنت أجد هذا النهر قريباً من قلبي، فهو الوحيد القادر على فك أسرار جسدي حين أرميه عاريا في أحضانه، فيدس أصابعه الطرية المرحة في كل جزء منه، وكأنه عاشق مفتون، لا سفاح مشهور.
- كلانا مهزوم يا فرات . أنت هزمتك الشيخوخة والسدود وأنا هزمتني سنوات الحزن والخيبة .
قلت ثم تحركت، وقفت وسط الغرفة، كان كل شيء هادئاً،
فواجهتني بقايا طعام العشاء التي تركناها، والصحون التي لم تغسل بعد، فمددت يدي إلى ( ركوة ) القهوة، غسلتها ثم ملاتها وانصرفت إلى طقسي الجديد، أعداد القهوة أشعلت نار الغاز فشعت بزرقتها الصافية، وتركت الركوة فوقها ريثما أعددت الصينية وفنجانين نظيفين وفارغين . ترتفع قامة كل منهما في الصينية بترفع وكأنهما جنرالان يتفاوضان في ساحة خالية في غبش الفجر ومع أنتهائي من أعداد كل شيء حملت الركوة بيد وباليد الأخرى الصينية، ثم توجهت إلى الشرفة . وضعت حلمي بعد أن تركت فرصة للقهوة، لتصفو خلال دقائق . غسلت وجهي، ورتبت شعري على عجل حتى لا أفسد خلوتي مع عزيزتي القهوة، وسرقت من حقيبتي علبة الدخان والقداحة وعدت إلى الشرفة. كانت منازل الحارة تمتد أمامي.
حين تحركت يدي ترفع الركوة، وتدلق القهوة الحارة في الفنجان الأول، فالثاني، فمن عادتي أن أسكب في فنجانين، واحد لي والآخر أزعمه لرجل يشاركني قهوة الصباح .
- تفضل يا عزيزي
قلت وأنا أضع الفنجان الأول جانباً، ثم تناولت فنجاني أرشف منه بلذة ومتعة ودخان لفافتي يتصاعد في حلقات زرقاء يشكل تاجا حول رأسي.
- ما رأيك بقليل من القهوة يا أميري المغرور.
خاطبت عصفوري ضاحكة . ثم سكبت قليلاً منها في أصيص صبارتي الشوكية وأنا أشعر بخدر ممتع
بعد الفنجان الأول، امتدت أصابعي تقطف زهرة حمراء وتزرعها في شعري بينما كانت القهوة الباردة في الفنجان الآخر تنتظر أصابع صاحبها الذي لن يحضر، ذاك الذي قال لي يوماً :
- لا يستسلم إلا اثنان، العاشق أو المغلوب، وأنا عاشق.
وتابعت ارتشاف قهوتي وقد بدأت الحركة تدب في البيت، طالعني وجه أمي، ثم أختي و…و…شعرت بالحصار فلبست قناعي المعتاد بعد أن أطفات لفا فتي وشربت آخر ما في قعر الفنجان حتى المرارة .
قال أخي:
- ما رأيك لو شاركتنا فطور اليوم ..؟
- شكراً . شربت القهوة
قالت أمي :
- هذه البنت مجنونة . قهوة ودخان وكتب أكلها وشربها
ولم أعقب، انطلقت برشاقة فمدرستي بعيدة، وأنا احتاج إلى مدة طويلة للوصول إليها، فهي تجاوز النهر من الطرف الآخر، حيث الحياة لها طعم آخر أيضاً.
في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً تماماً انتهى الدوام اليومي، وقد اخترت في هذا اليوم أن أعود وحيدة منفردة أباري ضفة النهر لا لسبب واضح، وإنما رغبة نبعت في داخلي فجأة، رغبة عرشت مثل دوالي اللبلاب، ترتفع عالياً .
وقفت بمهابة أمام النهر، لأن عيني تنظران إلى ما تبقى منه، هذا العجوز الباقي الخالد يتدفق بعسر، كأنما يشكو من أمراض غير وافدة .
- يا فرات …… يافرات …
صحت مثل طير خائف يريد أن يحتمي بأي ساتر خوفا من بنادق الصيادين، ثم تابعت المسير والجوع بدأ يدق جدران معدتي الخاوية التي لا تعرف الطعام قبل الظهر.
تابعت مسيري بإصرار وعناد، رأيت أمامي سلحفاة تختبيء في درعها، حملتها بين يدي ومضيت، ولم أفق إلا وماء النهر بدأ يبلل قدمي، ثم ساقي، فارتعشت ثم جمدت، رميت بالسلحفاة في الماء فغاصت، ثم أفردت ذراعي ورفعت عيني حدقت بزرقة السماء الصافية فهالني عمقها، فتصلبت مثل شجرة صفصاف عارية ووحيدة، بينما كانت رفوف العصافير تملا الفضاء بزقزقاتها.