الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة الاسلامية حتى القرن الرابع عشر (1) بقلم : غازي الصوراني
لم يكن عفوياً اختياري لتعبير ” الفلسفة القديمة ” بدلاً من ” الفلسفة الاغريقية ” لعنوان دراستي هذه ، لأن قبولي بما تطرحه العديد من المراجع والكتب الفلسفية الغربية بالنسبة للفلسفة الاغريقية بإعتبارها الاطار الأول والوحيد للمعارف الفلسفية في التاريخ القديم ،لايعني فقط شطب الدور الذي لعبته الفلسفة الشرقية في بلادنا في تلك المرحلة وانما اسقاط هذا الموقف العنصري من أجل تثبيت مفهوم مركزية الحضارة الغربية في الوضع الدولي المعولم الراهن على حساب الفلسفة والحضارة الشرقية القديمة عموماً وشطب كل مايمثله الشرق من دور معرفي وفلسفي في الماضي ، وتأثيره في الحضارة الغربية ،وتقييد حركة تطوره وآفاقه المستقبلية بما يخدم فقط الحضارة الغربية واستمرار هيمنتها على مقدرات وطننا العربي في القرن 21 عبر كافة الوسائل المادية والمعرفية .
وفي مواجهة مواقف وأساليب “الحضارة الغربية ” المعاصرة ، تتبدى أهمية رؤيتي الموضوعية للفلسفة القديمة التي تقوم على تخطئة المزاعم القائلة ان الفلسفة الشرقية ليس لها دور هام في تطور المعرفة البشرية من جهة ، والعمل على تفعيل دورنا في نفي مقولة ” العقلية الغربية والعقلية الشرقية ” والتناقض الدائم بينهما من جهة اخرى ، وصولاً الى التصدي للنزعات الفكرية العنصرية الراهنة التي تؤكد على مقولة ” مركزية الحضارة الغربية في الفلسفة العالمية المعاصرة ” بإعتبار ان هذا العصر هو عصر “نهاية الايديولوجياً”.
كان لابد لهذه المقدمة / المدخل لموضوعي، التي تتوافق -في تقديري -مع مقولة ماركس في ان ” الحاضر هو الذي يملك مفتاح الماضي وليس العكس ” ولمزيد من الفائدة ،ارتأيت تجزئة هذه الدراسة الى قسمين :-
الأول :- الفلسفة القديمة في المرحلة العبودية ( الشرقية والاغريقية ) والمرحلة الاقطاعية في اوروبا.
الثاني :- الفلسفة الإسلامية حتى القرن الرابع عشر .
أولاً :- القسم الأول :- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى حتى القرن الرابع عشر (2) :-
لا أعتقد أنني أجافي الحقائق الموضوعية في السياق التاريخي القديم اذا اكدت منذ البدء على ان الاغريق ليسوا وحدهم من اوائل محرري الفكر والتساؤل عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل رغم دورهم البارز في هذا الجانب ،ذلك لأن الحضارات السابقة على الاغريق لم يكن التفكير عندها “مجرد تفكير من النوع العملي المباشر ” فقط. حيث ان هذا الجانب العملي في الفلسفة الشرقية القديمة لم يكن سوى نتاجاً لأسلوب الحياة القائم على المركزية بما يتوافق مع نظام الرق أو الاسلوب الأسيوي الذي ساد في بلادنا إبان تلك المرحلة في الالفين الرابع والثالث قبل الميلاد ، فعند البابليين ” كانت النجوم أصل العالم ، والقمر أبو الالهة ،والشمس تطفىء النجوم بما يحقق حركة النور والظلام “، وفي بابل كانت تعاليم حمورابي ، واختراع النظام الستيني الذي ما يزال يستعمل الى يومنا هذا ،كما وضعت في الشرق اسس الجبر والهندسة ، وحسب المؤرخ اليوناني هيرودوت فان ” المصريين القدماء اول من توصل الى تحديد طول السنة ب 365 يوم ” وعلوم الرياضيات التي تفوقت في حساب حجم الهرم والنظام الالهي القائم على التوحيد .
كذلك الامر بالنسبة للفلسفه الهنديه ، ” ففي كتاب الفيدا، افكار فلسفيه عن العالم و الانسان ، والاخلا ق والتي تسمى بالفلسفه البراهمانيه ( برهمان هو الله ) التي ظلت مسيطره حتي ظهور البوذيه في القرن السادس قبل الميلاد ” التي أسسها غاوماتا بوذا ” أو المستنير و التي كانت وما زالت فلسفه أو ديانه قائمه علي الخضوع و الاستسلام ، ان حجر الزاويه في هذه الفلسفه ان الحياه مليئه بالشقاء ، واحتقار الحياه الدنيا و ان الخلاص من الشقاء ” لايكون الا عبر ” النرفانا ” التي تعني الفناء في الاله ” انه شكل من اشكال التصوف و الزهد، ثم برزت الكونفوشيه التي أسسها كونفوشيوس – 551-479ق.م-في الصين .
و إشتهرت ” بتعاليمها الاخلاقيه السياسيه التي تقوم علىان السماء هي الاله الاعلى تفرض مشيئتها على الناس، ان حياة البشر رهن بالقدر ، وأن الجاه والثروه منَّة من السماء “.
هذه هي بعض ملامح الفكر الفلسفي في الشرق القديم الذي تأثرت به الفلسفه الاغريقيه و تفاعلت مع المعطيات الفلسفيه المصريه والبابليه بشكل خاص .
” برزت الفلسفه اليو نانيه في القرنين السادس والخامس ق.م و إستمرت حتى القرن الرابع ق.م ثم برزت بعدها الفلسفه الرومانيه في أواخر القرن الثاني ق.م حتي القرن السادس الميلادي ” .
إن افضليه الفلسفه الاغريقيه إنها كانت الرائده في تحرير الفكر عبر تساؤلاتها عن طبيعه الوقع وحقيقه العقل و العديد من القضايا ذات الطابع المعرفي الشمولي ، و بقدر ماكانت عظمة الاغريق قائمه على ضوء الفكر ، إستندت روما- التي وضعت فلسفه موازيه للفلسفه اليونانيه الى ” عظمة القوة “.
في تعرضي للفلسفه اليونانيه يبرز كل من افلاطون و ارسطو كمحور اساسي لهذه الفلسفه سواء في تلك المرحله أو في عصرنا الراهن ، آخذين بالاعتبار و التقدير دور العديد من الفلاسفه الاغريق الذين وضعوا الاسس التي إنطلق منها كل من افلاطون و ارسطو ، من هؤلاء ” طاليس ” الذي ولد في اسيا الصغرى ، و قال إن جميع الموجودات صدرت عن ماده رطبه (الماء البارد ) ، وتلميذه المولود في آسيا ايضا – ” انا كسمندر ” الذي كان ماديا إهتم بحقائق الكون و اصل الحياه ، ثم فيتاغورث المولود في إيطاليا 580-500ق.م الذي آمن بتناسخ الارواح ، و اشتغل بالحساب و الهندسه ، و هو القائل بان ” هذا العالم كرة ناريه حيه ” و هيراقليطس ” (المولود في آسيا ) ذلك الفيلسوف المادي الذي اعلن ان ” بداية هذا الكون من النار وان هذا العالم سيظل ناراً حيه تنطفئ بمقدار و تشتعل بمقدار ” و” انا كساغور”(المولود في آثينا)-الذي قال “ان الشمس جسم مادي و أن العالم يتألف من عدد لا متناه من الدقائق الصغيره و ان الحياه عمليه دائمه و متصله و مستمره ، “إتهمه” ديمقراطيو اثينا الارستقراطيين بالالحاد و طردوه منها، بعد ذلك رزت”السفسطائيه” كظاهرة فلسفيه لعصر ديمقراطية العبيد في اثينا ، حيث كان الانسان عند السفسطائيين” معيار الأشياء جميعاً ، وشككوا في التصورات الدينية ” ثم ” ديمقريطس ” الفيلسوف المادي الذي قال ” ليس في هذا العالم الا الخلاء والذرات تتألف منها كل الموجودات “، وارجع ظهور الكائنات الحية الى الظروف الطبيعية عبر توحد الذرات ، كان نصيراً للديمقراطية العبودية ، بعكس ” سقراط ” رائد الفلسفة الارستقراطية النخبوية الذي وقف بعناد ضد الديمقراطية في اثينا بإعتبار انها تؤدي -كما يقول- الى الفوضى عبر تحكيم الجماهير الدهماء في هذه العملية ، ونتيجة موقفه حكم بالموت رافضاً طلب الرحمة من الجماهير ، من أهم اقواله ” أي شيء اشد سخرية من هذه الديمقراطية التي تقودها الجماهير التي تسوقها العاطفة ” اليس من الغرابة ان يحل مجرد العدد محل الحكمة ” ، وجاء افلاطون ( 427-347ق.م ) من بعده كتلميذ نجيب لأستاذه ليستكمل الرسالة في العداء للديمقراطيه وفق اسس مغايره ، انه فيلسوف الفرديه الارستقراطيه الذي نشأ في جو ارستقراطي مريح .
” ان التغير عند افلاطون معناه الاضمحلال ، بينما الكمال معناه انعدام التطور ” لقد اراد مجتمعاً ثابتا (اسبرطيا لا يتحرك بالديمقراطيه كما في اثينا ) يتولى ادارته نخبه مختارة من الارستقراط الذين يمتلكون القدره على التفكير و التأمل للاشراف على ضبط “المجتمع الثابت ” الذي يجب ان تقتلع منه تلك القوى التى تعمل من اجل التغيير ، هذه الافكار طبقتها الارستقراطيه الاوروبية فيما بعد طوال اكثر من الف عام تحت راية الكنيسة او النخبة اللاهوتيه ، وهذه الافكار موجودة نسبيا في تراثنا العربي حيث نلاحظ تعايش الوعي العفوي مع مفهوم “حالة الثبات ” عبر امثلة كثيرة منها ” الذي ينظر الى اعلى تقطع رقبته ” و ” العين لا تعلو على الحاجب ” و العديد من الامثال التي تدعو الى تكريس حالة الثبات ضد التغير .
في جمهوريته وضع افلاطون تصوره للطبقات الاساسيه في المجتمع :-
- طبقة الحكام و لديها قالب فكري ذهبي..عملها الحكم .
- طبقة الجنود و لديها قالب من الفضة و هي للحرب و اعمال البوليس في الدولة
- طبقة الحرفيين و العمال و لديها قالب الحديد ، ومهمتها القيام بكافة الاعمال للانتاج اضافة الى رضوخها الدائم استناداً الى قاعدة حددها افلاطون بقوله “إنصرف الى شؤونك و قم بواجبك في مركزك الذي حددته لك الالهة ، وإذا تحدثت عن الديمقراطية ستسود الفوضى و سيصبح المجتمع قطيع واحد دون راعى في ظل الديمقراطيه ، “العداله عنده هي مصلحه الاقوى ، والقوة هي الحق ، اعجب به “نيتشه ” الذي سخر كثيراً من الضعفاء الذين يفكرون انفسهم صالحين ، “ثم “شتيرنر” الذي كتب قائلاً ” إن الحق ليس سوى مسألة بين دول متساوية في القوة ” ( اليس هذا المبدأ هو الذي يجب أن يحكم علاقتنا بالعدو الاسرائيلى ).
ارسطو طاليس (384-322ق.م)
يوجد رسم مشهور للفنان روفائيل”حيث يقف افلاطون مشيراً بيده الى السماء ، بينما يقف ارسطو مشيراً بيده الى الادنى ، الى الارض ، إنه الاتجاه الارسطي الذي يبقى على صله بالواقع و التجارب العمليه و التفاصيل في مقابل الاتجاه الافلاطوني في التفكير الذي يبتعد عن العيني الملموس ويركز على المثل “
بالرغم مما تقدم فالتلميذ ارسطو لايختلف جوهرياً عن استاذه افلاطون ،فإذا كان افلاطون فيلسوف الفردية الارستقراطية فإن ارسطو هو الفيلسوف الرسمي لامبراطورية اوتوقراطية ، انه القائل ” منذ المولد هناك اناس مُعَدُّون للعبودية واناس معدون للإماره “
بالرغم من ان كليهما من الناحية الفلسفية التقيا على ارضية المثالية الموضوعية التي تقر بمعرفة العالم الخارجي وتقول بأن هناك صانعاً او خالقاً موضوعياً خارج الذات اوجد هذا الكون إلا ان ارسطو انتقد نظرية افلاطون منطلقاً من :-
- مُثُل افلاطون صورة أونُسخ عن الاشياء الحسية ( نحن في كهف ، ندير ظهورنا للشمس لانرى سوى ظلال الأشياء او صورتها على جدار الكهف… هذه هي مثل افلاطون )
- أفلاطون يفصل عالم ” المثل ” عن عالم ” الأشياء ” فهو يعتبر ان المادة مشتقة من ” المثل ” او الأفكار السابقة عليها (الوجود الحق).
- في حين يعتبر أفلاطون الأشياء الحسية ظلالاً او أشباحاً للوجود الحق ” المثل ” ، ينظر ارسطو الى الأشياء او الموجودات على أنها تمثل وحدة للصورة والمادة موجودة وجوداً قطعياً ( الرجل هو الصورة الذي كان الطفل مادة لها ، والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها ،والجنين هو الصورة والبويضة هي المادة ، ولابد ان يكون هناك محرك اكبر لهذه العملية … هو الله السبب النهائي للطبيعة ،.. الصورة الأولى .. انه صورة العالم وهو كامل كمالاً مطلقاً لادخل له بالتفاصيل ، ملك بالإسم لا بالفعل كما يقول ” ول ديورانت ” في كتابه قصة الفلسفة ) .
عند أرسطو .. العالم موجود في الخاص ، أي اننا لانصل الى معرفة الكلي اذا لم نتعرف على الجزئي ، الجزئي نتعرف عليه بالحواس ، الكلي نعرفه بالعقل ، نشير في هذا الصدد ان ارسطو كان يحتقر الفعل الجسدي ويقدس العقل وهو القائل ” كل من كان بمقدوره ان يتنبأ بعقله هو بطبيعته معد ليصبح سيداً “.
أفضل أشكال الحكم عنده النظام الأرستقراطي الذي يعتمد حكم القلة من النخبة المختارة ، يرفض الديمقراطية لأنها كما يقول تقوم على افتراض كاذب بالمساواة ، من آرائه ، ان الانسان ينتمي الى مجموعة واحدة من الحيوانات الولود ذات الثدي ، والمرأة ناقصة عقل وهي مرتبه دنيا عن الرجل ( في تراثنا الاسلامي المرأة ناقصة عقل ودين ،الرجال قوامون على النساء ) الانسان الفاضل عنده هو الذي يختار الوسط بين الافراط والتقتير ( وخلقناكم أمة وسطا ، وخير الامور الوسط ) .
كان أرسطو عملياً اقام العديد من التجارب ( ابو المعاهد التطبيقية او العملية – مؤسس اللوقيوم ) بعكس استاذه افلاطون الذي اهتم باللاهوت والرياضيات والتأمل في اكاديميته ( ولذلك قيل عنه انه الاب الروحي للجامعات ) .
فلسفة العصر الهيلنستي ( ما بعد الاسكندر – توفى 323ق.م )
في هذا العصر الذي امتد حتى القرن الثالث الميلادي ، بدأت ملامح انحلال مجتمع الرق ، ساهمت الفلسفة في تعزيز الطابع التأملي للحياة في هذا العصر عبر ثلاث تيارات رئيسية :-
1- الريبيه – مذهب الشك 2- الابيقورية 3- الرواقية .
لقد تكرست هذه الفلسفة تدريجياً مع ” انتشار المراكز التجارية اليونانية في جميع انحاء آسيا الصغرى والمناطق الشرقية التي ساهمت في تطور القاعدة الاقتصادية لهذه المنطقة كجزء من الامبراطورية الهيللينيه من جهة ، وأدت الى انفتاح الحضارتين الشرقية واليونانية وتداخلهما من جهة أخرى ، لدرجة أن ” روح الشرق ” تغلبت على الاسكندر نفسه بعد ان تزوج ابنة داريوس ملك الفرس وتبنى التاج والكساء الرسمي الفارسي في الدولة ، واستقدم إلى أوروبا الفكرة الشرقية عن حق الملوك المقدس ( مصرية وبابلية قديمة ) ثم اعلان نفسه الها تطبيقاً لهذه الفكرة.
لقد ساهمت كل هذه المقدمات -كما يقول ديورانت – الى تسرب الطقوس الدينية الشرقية الى جسم الامبراطورية وتداعت كافة السدود امام سيل هذه الطقوس ، وزاد انتشار الديانات الخرافية الغامضة التي تأصلت في نفوس الهيلينيين الأكثر فقراً ، ولم يكن استقدام الفلسفة الرواقية أو الزينونية التي جاء بها “زينون” الفينيقي عام 310ق.م سوى احد اوجه هذا التسرب للفلسفة الشرقية القديمة ،فاليونان بعد ان فارقها المجد اصبحت معدة لتعاليم المذهب الرواقي والابيقوري الذي كان في جوهره استسلاماً وقبولاً للهزيمة او محاولة لنيسان الهزيمة في أحضان اللذة والسعادة الابيقوريه .
- الريبية :- من أشهر فلاسفتها بيرون ( 365-275ق.م) امتد هذا التيار من القرنين الرابع والثالث ق.م حتى القرنين الاول والثاني بعد الميلاد ، “الانسان” عندهم عليه الا يتخذ موقفا من ظواهر الطبيعه او الحياة اذا اراد ان يعيش سعيدا عليه ان يعلق الحكم عليها ، لاننا لا نستطيع ان نحكم بالقطع ان هذا الشئ موجود(الثلج يبدو ابيضا والعسل يبدو حلوا لكننا نشك في ذلك لاننا لانستطيع ان نحكم ان هذا الشئ ابيض او حلو في حد ذاته ام لا) انها دعوة الي ان يظل الانسان ابلها او لامباليا دوما .
الابيقوريه :- ابيقور ( 341-270ق.م) المهمة الاساسية للفلسفة عنده ، هي وضع الاخلاق وقواعد السلوك التي تؤدي الى السعادة والسعادة كما يقول هي الشعور باللذة ، فاللذة خير ، والألم شر ، شرط أن تشك في كل شيء لأنه ” من أجل بلوغ السعادة لابد من ازالة الخوف من تدخل الالهة في حياة البشر ” .
انواع اللذة عنده :
- لذة طبيعية وضرورية للحياة ( لذة الطعام )
- لذة طبيعية غير ضرورية ( لذة الاغذية المترفة او الكماليه )
- لذة غير طبيعية وغير ضرورية للحياة ( لذة المال والتكريم والألقاب الاجتماعية ) .
الانسان الحكيم هو الذي يصغى للذة الاولى ويعيش حياته راضياً وهذه هي السعادة الحقيقية بالرغم من ان ابيقور كان مادياً عبر مذهبه الشكي ، الا أنه كان- في رأينا -داعية للاستسلام والخنوع والتأمل وهي صفات صبغت المرحلة اللاحقة حتى القرن الرابع عشر .
الرواقيون :- اشهر فلاسفتهم زينون الفينيقي ، دعوا ايضاً الى الاستسلام والسكون ورفضوا مبادىء ابيقور الالحادية ، وقالوا بأن الانسان الحكيم هو الذي يؤثر مصلحة الدولة على مصلحته الخاصة او الذاتية، اعتبروا أن الناس كلهم مواطنوا العالم (kosmopiles) وهذه خطوة تقدمية من حيث المبدأ، لكنها في الحقيقة جاءت انسجاما مع حلم تشييد الدولة الرومانية “العالمية” وهي في كل الاحوال ضد افكار افلاطون وارسطوا القائلة بافضلية الاغريق على الشعوب الاخرى بل وحقهم في استرقاقها.
- فلسفة العصور الاقطاعية
- ظهرت هذه الفلسفة بعد استقرار وتفعيل دور الكنيسة في الغرب خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين ، وتعاظمت هيمنتها في القرن السادس بعد الغاء الافلاطونية واعلان المسيحية دين الدولة الرسمي عام 529م(يوستينيانوس).
- -هيمنت الايديولوجية الدينية على الحياة الفكرية في هذا العصر حيث تحولت الفلسفة الى خادمة للاهوت عبر طابعها الرجعي التصوفي وكان مبررها ان الحكمة والمعرفة تتم فقط عبر الوجد(5) الصوفي ورفض التجربة او طريق العقل ، لقد انحطت الفلسفة في هذا العصر الى درك التصوف والسحر والاساطير ، وارتدى صراع الطبقات فيه شكل خافت من الصراع الديني.
ابرز فلاسفة هذا العصر : افلوطين (205-270م) الذي قال ان التطور يبدأ بالالهي الذي لا يمكن الاحاطة به ويجب الايمان به .
اوغسطين(354-430م) الذي تأثر بالافلاطونية الجديدة(6) (التي وضع اسسها افلاطون) واعتنق المسيحية فيما بعد ، من اقواله “الانسان يملك الحرية ولكن كل ما يفعله بارادة مسبقة من الله” الحياة الدنيوية سقوط وانفصال عن الازلي واتصال بالناقص الجزئي” ” اننا نعرف الله لا بالتفكير بل بالاعراض عن التفكير” ، هذه المواقف تم تطبيقها عمليا في هذا العصر بما يخدم الكنيسة والامراء ، بحيث تحولت الفلسفة الى “علم” جنوني بالغيب وامتزاج الايمان بالسحر.
بعد ذلك ظهرت الفلسفة السكولائية (المدرسيةscholasticism) خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر المتأثرة بالافلاطونية المحدثة ومثلت التيار الرئيسي في فلسفة المجتمع الاقطاعي ، كان السكولائيون أعضاء مؤثرين في الرهبنة المسيحية وكانوا اعضاء في محاكم التفتيش ، من اهم مفكري هذا التيار توما الاكويني (1225-1274م) الذي خاض صراعا حادا ضد الرشدية حينما كان أستاذا في جامعة باريس، قال ان الايمان والعقل يشكلان وحدة منسجمة ولا يختلفان بعكس ابن رشد ، “الصورة عند توما الأكويني توجد بدون المادة ، اما المادة فلا يمكن ان توجد بدون الصورة (بدون الله) ، وان الوحي الإلهي لا يتضمن أي خطأ وفي حالة وجود التناقض فان المخطىء هو العقل لا الايمان او الفلسفة لا اللاهوت وان الحاكم يجب ان يخضع للسلطة الروحية التي يقف على رأسها المسيح في السماء والكنيسة على الأرض ” لقد كانت “التوماوية” بمثابة المرتكز الفكري للكنيسة الكاثوليكية المهيمنة على عقول الناس في ذلك العصر.
مجابهة السكولائية:
بدأت المجابهة عبر عدد من المفكرين كان من أبرزهم العالم الفيلسوف روجر بيكون (1214-1294م. )؛ الذي كان مسيحياً مؤمناً لكنه طرح فكراً نقدياً ” للمدرسية عبر إعلانه أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب إزالة العوائق التي تعترض المعرفة ” وأهم هذه العوائق عند بيكون: رواسب الجهل وقوة العادة والتبجيل المفرط لمفكري الماضي، وأن أفكارنا الصحيحة يجب أن تثبت بالتجربة ” .
لقد كانت هذه الآراء المعول الأول في هدم المعطيات الفكرية لهذا العصر بالرغم من أنها كانت سبباً في سجنه، وكانت أيضاً أحد مقومات المذهب البروتستنطي الذي يرفض القديسين والعذراء والملائكة الموجودة لدى الكاثوليك والأرثوذكس، حيث أكد أصحاب هذا المذهب أن ” النعمة الإلهية تصل إلى الإنسان من عند الله دون وساطة الكنيسة ” هذا الموقف جعل من الكنيسة والبابا – فيما بعد – شيئاً شكلياً وساهم في تحرير الإنسان من الأغلال الفكرية للعصر الإقطاعي .
إن المغزى الذي أدعو إلى استخلاصه من هذا الاستعراض لبعض جوانب الفلسفة عموماً وفي العصر الإقطاعي على وجه الخصوص يكمن في امكانية توفير بعض المقومات الفكرية اللازمة لعقد المقارنة الموضوعية لبعض أوجه السمات الفكرية والثقافية والاجتماعية المتردية في وطننا العربي التي تتقاطع أو تتشابه في جوهرها أو في نتائجها مع المقومات الفلسفية والفكرية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا في العصر الإقطاعي ، الذي تميزت فلسفته بأنها:
- انطلقت من فرضيات مذهبية جامدة لا يمكن إثباتها بالتجربة أو بالملاحظة .
- لم تهتم بالعلوم أو الوقائع الحياتية .
- لم تتطلع إلى البحث عن الحقيقة، فقد كان هم معظم المفكرين في هذه المرحلة إثبات صحة العقائد الدينية لتثبيت مصالح ملوك أوروبا والكنيسة ورموز الإقطاع .
إن الفكر الإقطاعي لم يهتم ببحث المسائل المطروحة بل زجَ في إطار النتيجة المسلم بها، وكان لابد للفلسفة القائمة على مثل هذه الأسس أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ فيها يتعزز العلم ليتحول إلى ميدان بحث مستقل نسبياً، وهذا ما حدث عندما بدأ أسلوب الإنتاج الجديد يتشكل في أحشاء المجتمع الإقطاعي مفسحاً الطريق لعصر النهضة وللديمقراطية البرجوازية بعد أن تم كسر هيمنة الكنيسة على عقول الناس.
ثانياً:_ المذاهب والفلسفة الإسلامية حتى القرن الرابع عشر
- أ : المذاهب الإسلامية:-
مارس المفكرون الإسلاميون نوعاً شجاعاً من الاجتهاد على نطاق واسع خلال القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة هذا الاجتهاد بروز المذاهب التي يتوزع المسلمون بينها إلى يومنا هذا، ومن المعروف أن الاجتهاد قد توقف منذ القرن الثاني عشر الميلادي تقريباً، أو ما يمكن أن نطلق عليه حالة الانقطاع الفكري، حيث تجمد الفكر كما يقول د. سمير أمين في مدارس المذاهب المذكورة وضاق هامش التفسير الحر للشريعة، فلم يعد من الممكن الخروج عن حدود المذاهب المعترف بها ، وفي هذا السياق ، يقول د.الجابري في كتابه الهام ” تكوين العقل العربي ” ، إن ” الثقافة العربية الاسلامية تنقسم إلى ثلاث مجموعات : 1. علوم البيان من فقه ونحو وبلاغة – 2. علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة وطبابه وفلك وسحر وتنجيم –3. علوم البرهان من منطق ورياضيات وميتافيزيقيا .
ويتوصل إلى ، أن الحضارة الاسلامية هي حضارة فقه ، في مقابل الحضارة اليونانية التي كانت حضارة فلسفة ، لقد تجمدت الحضارة العربية عند الفلسفة اليونانية ، وغاب عنها العنصر المحرك : التجربة ، بعد أن غلب عليها اللاهوت أو علوم العرفان أو اللامعقول ” . ثم يستطرد د.الجابري بالقول ” إن العقل البياني العربي لايقبل بطبيعته التجربة لأنه يحتقر المعرفة الحسية ويترفع عن التجربة ويتعامل مع النصوص أكثر من تعامله مع الطبيعة وظواهرها ، ويعود السبب في ذلك كما يقول إلى “أن الفلسفة اليونانية التي أخذها العرب عن الإغريق كانت فلسفة تؤكد على مجتمع السادة والعبيد ، ولاتؤمن بالتجربة لأنها من أعمال العبيد ( وكذلك جميع الحرف ) ، أما السادة فهم من نوع ” أعلى “ومهامهم تنحصر في التفكير والنظر وانتاج الخطاب ” وكانت المحصلة أن “إنجازات العرب في اللغة والفقه والتشريع شكلت قيوداً للعقل الذي أصبح سجين هذا البناء من الركود والتخلف”.
ورغم ذلك فإن الجابري لاينكر دور العلماء والعلم العربي عموماً في تأسيس طريق النهضة الاوروبية وبالذات أبن رشد ، والحسن بن الهيثم ( توفى عام 430 هـ) الذي عرف بنظرياته في علم الضوء والبصريات التي كانت أساساً أو قواعد علمية بني عليها غاليليو وغيره فيما بعد ، ولكن إبن الهيثم كان غريباً في الثقافة العربية في حين أن الغزالي كان حاضراً بقوه وإصرار إلى يومنا هذا ، إبن الهيثم رأى الحقيقة في العلم ، أما الغزالي فرأى طريق الحقيقة في التصوف “.
لقد نشأت المذاهب الفكرية الإسلامية الأولى في عصر الخلفاء الراشدين، وكانت بداية الاختلاف في عهد عثمان بن عفان، الذي تطور فيما بعد إلى نزاع بين علي ومعاوية على الخلافة بعد عثمان، ذلك النزاع الذي تحول إلى حرب بينهماَ فرَّقت بين المسلمين وجعلتهم شيعاً وأحزاباً منذ ذلك الوقت إلى أيامنا هذه.
أولاً: كانت البداية في بروز “جماعة الخوارج” التي نشأت عام 37 هجري ( 657 م. )
وعرف عنها العداء الشديد لعثمان بن عفان في أواخر سنوات حكمه؛ إن البدايات الأولى للخوارج تعود إلى جماعة ” القُراَّء ” ( حفظة القرآن الكريم ) الذين تميزوا بالزهد والتنسك، وكانوا “علماء” الأمة قبل أن تعرف الحياة الفكرية ” الفقه ” والفقهاء ، رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية وطالبوا علي بقتال معاوية.
لخَص الخوارج موقفهم من نظام الحكم بأن ” السلطة العليا للدولة هي الإمامة والخلافة” وقرروا أن المسلم الذي تتوفر فيه شروط الإمامة له الحق أن يتولاها بصرف النظر عن نسبه وجنسه ولونه ، ( ليس شرطاً عندهم النسب القرشي أو العربي لمن يتولى منصب الإمام ).
أجمع الخوارج على أن الثورة تكون واجبة على أئمة الفسق والجور إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلاً فأكثر. بالنسبة للخلافة عندهم فإن الوسيلة لتنصيب الإمام هي الاختيار والبيعة، وهنا يتضح موقفهم المعادي لفكر الشيعة القائل: أن الإمامة شأن من شؤون السماء . فالإمامة عند الخوارج من الفروع وليس من أصول الدين ، ولذلك قالوا أن مصدر الإمامة هو الرأي وليس الكتاب أو السنة، قاتلوا علياً وكانوا أشداء في قتالهم للأمويين من بعده.
انقسم الخوارج إلى عدة جماعات هي : الأزارقة _ النجدات _ الصفرية _ الأباضية وهذه الأخيرة لا تزال إلى يومنا هذا في عُمان ومسقط وشرق أفريقيا وأجزاء من المغرب وتونس وهم أقرب إلى السنة وأكثر الفرق اعتدالا .
ثانياً: جماعة المرجئة:
وهي من الأرجاء، بمعنى التأجيل، وهذا المصطلح قد عنى في الفكر الإسلامي، الفصل بين الإيمان باعتباره تصديقاً قلبياً ويقينياً داخلياً غير منظور؛ وبين العمل باعتباره نشاطاً وممارسة ظاهرية قد تترجم أو لا تترجم عما بالقلب من إيمان، وخلاصة قولهم أن الإيمان هو المعرفة بالله ورسله وما جاء من عنده، وما عدا ذلك ليس من الإيمان، ولا يضر هذا الإيمان ما يعلن صاحبه حتى لو أعلن الكفر وعبد الأوثان؛ فما دام العمل لا يترجم بالضرورة عن مكنون العقيدة فلا سبيل إذاً للحكم على المعتقدات، وما علينا إلا أن نرجئ الحكم على الإيمان إلى يوم الحساب ، وتلك هي مهمة الخالق وحده وليست مهمة أحد المخلوقين في الحياة الدنيا.
وفي هذا السياق أشير إلى أن الدولة الأموية ( 661 م. _ 750 م. ) أشاعت في الحياة الفكرية آنذاك عقيدتي ” الجبر والأرجاء ” تبرر بالأولى مظالمها وما أحدثته من تحول بالسلطة السياسية ، خاصة استبدال الخلافة الشورية بالملك الوراثي، وتحاول أن تفلت بالثانية _ الإرجاء _ من إدانة المعارضة وحكمها على إيمان هذه الدولة وعقيدة حكامها بعد أن ارتكبت تلك المظالم.
ثالثاً: المعتزلة:
جذورهم تعود إلى تيار أهل العدل والتوحيد الذي كان من أبرز قادته الحسن البصري المعروف بعدائه للنظام الأموي ، تصدى هذا التيار لعقيدة ” الجبر/ التي أظهرها الأمويون ” وعارضها بإظهار موقف الإسلام المنحاز إلى حرية الإنسان واختياره وقدرته ، ومن ثم مسئوليته عن أفعاله ، ثم جاء ” واصل بن عطاء ” الذي حدد الأصول الفكرية الخمسة للمعتزلة وهي: العدل _ التوحيد_ الوعد والوعيد_ المنزلة بين المنزلتين_ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد كانت المعتزلة من أصدق الفرق في الإسلام الذين جمعوا بين النص والممارسة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانوا ضد الأشعري الذي قال : ” إن السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية ، وأن الإمام قد يكون عادلاً أو غير عادل وليس لنا إزالته حتى وإن كان فاسقاً؛ كما كانوا نقيضاً أيضاً لأحمد بن حنبل الذي يقول: ” إن من غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، براً كان أو فاجراً ، فهو أمير المؤمنين (وهناك قول لأحد أئمة ذلك العصر يسندوه ظلماً لأبي حنيفه ينص على أن ” ستون عاماً في ظل حاكم ظالم لهي أفضل من ليلة واحدة دون حاكم ” .
لقد كان موقف المعتزلة نقيضاً _ كما يقول المفكر الاسلامي الدكتور محمد عمارة _ لكل هذه المذاهب فقد أوجبوا النهي عن المنكر باليد واللسان والقلب، لقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم عملاً سياسياً واجتماعياً في آن واحد لأن الأمر بالمعروف عندهم هو من فروض الكفاية وواجباتها، ومعلوم أن فروض الكفاية أكثر أهمية من فروض الأعيان، ( المقصود بالأعيان الصلاة والصوم والزكاة…الخ ) لأن تخلف قيام فرض العين يأثم به من أهمل فيه ، أما تخلف قيام فرض الكفاية فالذي يأثم به الأمة جمعاء, إن روعة المعتزلة تكمن في أن أمرهم بالمعروف كان يستند إلى الأمر به فقط وليس مطلوباً حمل الغير على الامتثال بهذا الأمر ( فالواجب هو الأمر بإقامة الصلاة ، لا حَمل تاركها على القيام بها ) أما بالنسبة لفرض الكفاية فقد دعوا إلى سل السيف وتجريده ضد الحاكم أو الإمام الجائر
لقد كان د. محمد عمارة محقاً إلى أبعد الحدود حينما وصف المعتزله بأنهم فرسان العقلانية في الحضارة الإسلامية، فقد مثلوا تياراً عقلياً في الفكر العربي الإسلامي تميز بالنظرة الفلسفية لأمور الدين والدنيا حتى قبل حركة الترجمة عن اليونان ، فالعقل عندهم هو ” وكيل الله ” عند الإنسان جعل إليه قيادة نشاطاته وهم يطلبون أن يدعم الإنسان عقله الغريزي بعقله المكتسب فذلك هو السبيل لبلوغ غاية الكمال كما يقول ” الجاحظ ” .
اختلف المعتزلة عن السنة في عرضهم للأدلة، فهي عند أهل السنة ثلاثة: الكتاب _ السنة _ الإجماع ؛ بينما هي أربعة عند المعتزلة يضيفون العقل إلى هذه الأدلة الثلاثة ويقدمونه عليها جميعاً ، بل يرون أن العقل هو الأصل فيها جميعاً ، وكان طبيعياً أن يقدموا العقل في أمور الدنيا كما قدموه في أمور الدين وجعلوه حاكماً تعرض عليه المأثورات كي يفصل في صحتها رواية ودلالة .
كان العصر الذهبي للمعتزلة هو عصر المأمون من ( 813 م. _ 833 م. ) والمعتصم (833م._ 842 م. ) والواثق ( 842 م. _ 847 م. ) وبموت هذا الأخير انتهى عصر المعتزلة وحصل الانقلاب ضدهم وضد نزعتهم العقلانية على يد المتوكل ( 847 م. _ 861 م. ) حيث اقتلعوا من مناصبهم وأبعدوا عن التأثير الفكري وزج بالكثير من أعلامهم في السجون ، وأبيدت آرائهم ، وتقلص سلطان العقل على الحياة الفكرية والعامة وساد الظلام وتعطل التطور.
هكذا كان المعتزلة كوكبة من أهل الفكر والنظر والدين والثورة اتخذوا من الفلسفة والرقي في المعرفة بديلاً عن الأحساب والأنساب ، حسبما يؤكد بحق الدكتور محمد عمارة في كتابه ” المذاهب والتيارات الإسلامية ” .
ويضيف الدكتور حسين مروه إلى كل ما تقدم _ دون أن يتناقض معه _ بعداً فلسفياً للمعتزلة أورده في كتابه الموسوعي القيمِّ ” النزعات المادية في الإسلام ” بقوله : ” أن المعتزلة استشرفوا إدراك وجود قوانين موضوعية في الطبيعة تجري وفقها الظاهرات الطبيعية كلها ، وأن (القدر ) عندهم بخيره وشره من الإنسان ، وأن الإنسان متفرد بين مختلف الكائنات تميزه الحرية في الاختيار لأفعاله ، وأن امتلاكه خاصة العقل هو المصدر والأصل في تفرده بتلك الميزة .
ويضيف د. مروه ” أن مفهوم العدل الدنيوي ، الأرضي عند المعتزلة لا ينفصل أيضاً عن حرية الإنسان ، أنهم يرفضون الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان اختياره فيما يفعل ” .
وحول خلق القرآن يرى د. مروه ” أن المعتزلة أكدوا أن كلام الله ليس ( بقديم ) أي ليس من الصفات المعادلة للذات وإنما هو حادث أو مخلوق ككل شيء مخلوق في الكون ، فمعنى كون الله متكلماً .. إذن إنه خالق الكلام ، ويبرهنون على ذلك بالقول ” إن البشر هم موضوع الأوامر القرآنية .. فكيف يعقل أن يوجه الله أوامره إلى المعدوم ، إن ذلك نوع من العبث الذي لا يجوز على الله ” .
فالكلام _ في رأيهم _ لكي يتحقق شرط وجوده يحتاج إلىُ مكلِّم ومكلَّم ، وقبل وجود المُكلَّمين ليس هناك سوى مُكلِّم من دون مُكلَّم ، بذلك يكون القول بأزلية القرآن نفياً لعقلانية التشريع وهو باطل .
رابعاً: الشيعة:_
وهي تعني لغوياً الأنصار أو الأعوان ، أما في إطار الفكر الإسلامي فقد غلب هذا المصطلح ” الشيعة ” على الذين شايعواً وناصروا علي بن أبي طالب ( 600 م. _ 661 م.) والأئمة من بنيه .
وأهم ما يميز الشيعة ، نظرية ” النص والوصية ” أي النص على أن الإمام بعد الرسول هو علي بن أبي طالب، الوصية من الرسول _ بأمر الله _ لعلي بالإمامة ، وكذلك تسلسل النص والوصية بالإمامة للأئمة من بني علي ، و صاحب هذه النظرية ” النص والوصية ” هو هشام بن الحكم _ توفي سنة ( 805 م. )؛ والشيعة تنقسم إلى عدة تيارات ، لكن التيارات الرئيسة ظلت هي :
أ. الإمامية الإثني عشرية
ب. الزيدية
ج. الإسماعيلية
وقد سميت الإثنى عشرية لأن سلسلة الأئمة عندهم توقفت عند الإمام الثاني عشر ( أبو القاسم ) من أحفاد علي بن أبي طالب المولود عام ( 256 هـ ، 870 م.) والذي ما زال غائباً في اعتقاد الشيعة الإثنى عشرية ( الإمام الغائب أو المهدي ) وهم في انتظار عودته، وفي هذا السياق أورد هنا الموقف الديني السياسي الحالي للنظرية الشيعية في إيران بعد الثورة الإسلامية والذي يستند على ” أن الفكر الشيعي يجعل للرسول كل ما لله في سياسة المجتمع وعقيدة أهله ، وبعد الرسول أصبح كل ما له للإمام ، وبعد غيبة الإمام فإن كل ما للإمام _ الذي هو كل ما لله وللرسول _ هو للفقيه أو آية الله الذي يقع عليه الإجماع ، وهذا ما يسمى في الفكر الشيعي السياسي ” ولاية الفقيه” .
خامساً: ظاهرة الزهد والتصوف :
في كتابه ” النزعات المادية في الإسلام ” يقول د. مروه بأن : حركة التصوف بدأت وجودها الجنيني ببدء حركة الزهد (7) خلال القرن الأول الهجري ، ويؤكد على ضرورة التفريق بين زهد بعض كبار الصحابة وبين زهد بعض علماء المسلمين بعد الانتفاضة ضد عثمان .
ويفسر ذلك بقوله ” إن زهد كبار الصحابة اتسم بطابع أخلاقي ، تأثر بالنشأة الأولى للإسلام والمسلمين واقتصر على التزام أسلوب العيش اليومي البسيط دون أن يشكل ظاهرة عامة ، أما المسلك الثاني ، فقد اتسم بطابع مختلف جداُ كان ظاهرة شائعة من أبرز ظاهرات المجتمع الجديد ( الدولة الأموية وما بعدها ) اتخذت شكلاً دينياً ، ولكن جوهرها اجتماعي سياسي ، فهي رد فعل لمجمل الأحداث الخطيرة الدامية والصراعات السياسية المتلاحقة منذ مصرع الخليفة عثمان ، لذا فإن الطبيعة الخاصة لهذا المذهب ” الزهدي ” هي طبيعة الموقف السياسي ، المعارض وإن بدا محتواه سلبياً عدمياً أول الأمر ، ومع ازدياد
الاستبداد الأموي ، وفي ظروف ازدياد التمايز الاجتماعي الفاحش بدأ الزهاد في اتخاذ موقف المعارض للوضع الاجتماعي والسياسي ، فهذا عبد الله بن عمر يقول في عهد الحجاج ” ماشبعت منذ مقتل عثمان ” إنه هنا يعبر عن جوع الأغلبية من الناس وليس جوعه الشخصي ، لذا فإن الزهد في هذا العهد كان تعبيراً عن المعارضة ومرتبطاُ بالثورة على السلطة القائمة .
وعن الصوفية وعلاقتها ” بالظاهر والباطن ” يقول د. مروه ، أن هذه المقولة ” فتحت أمام الصوفية طريقاً عريضة إلى معارضة الفكر الديني الرسمي : عقيدة وشريعة ، فعلى أساسها أقاموا الفكرة القائلة بأن للقرآن مضموناً… ” ظاهرياً ” هو منطوقه الذي تؤديه الدلالات اللغوية والبيانية المباشرة كما يفهمها عامة الناس ، ومضمونا ” باطنياً ” هو عندهم المضمون الحقيقي الذي لا يتكشف إلا “للراسخين في العلم وهم الصوفية ” العارفون ” ، وقد سَمُّوا المضمون الأول ( الظاهري) بالشريعة وسموا المضمون الثاني بالحقيقة ووصلوا بعد ذلك إلى القول بسقوط الشريعة إذا كشفت الحقيقة ” أي أن الصوفي لا يلتزم بأحكام ” الشريعة ” إذا تكشفت له ” الحقيقة “
إن الخلاصة التي يتوصل إليها د. مروه أن التصوف بدأ تطوره التاريخي عبر حالة جنينية أولى كان الزهد فيها مسلكاً عدمياً ثم تطور إلى موقف فكري يتضمن معارضة ذات وجهين : الأول ديني ويرتكز إلى التأويل أي استخراج المعنى من الباطن ، والثاني سياسي يدعو ألى استنكار الظلم الاجتماعي والاستبداد ، ثم انحدر إلى شكل من أشكال الوعي الفلسفي بالذات في القرون الوسطى (8 ليصبح تعبيراً عن موقف إيديولوجي لا يختلف عن موقف الأفلاطونية المحدثة أو الفلسفة المدرسية الرجعية التي تناولناها في المحاضرة السابقة .
نلاحظ هذا الموقف بعد القرن الثاني للهجرة حيث بدأت ظاهرة الزهد تنفصل _ نسبياً _ عن مصدر وجودها؛ أي أن بُعدها الاجتماعي _ السياسي أخذ يتوارى ليظهر بعدها الديني ، بمعنى أن الجانب الديني للزهد الذي هو جانبه الشكلي أخذ في التغلب على جانبه الاجتماعي _ السياسي الذي كان أساس وجوده وليس من الصعب ملاحظة كثير من مظاهر
الزهد الشكلي في بلادنا بالرغم من إننا على ابواب القرن الحادي والعشرين عبر أشكال ، متعددة رجعية في جوهرها تُعبِّر عن نفسها أحياناً بالصمت الكاذب عن كل الأحداث الجارية حولنا أو عبر أشكال نفعية أخرى تعبر عن نفسها ” بالقدرة ” على العلاج وكشف المستور .. إلى آخر هذه المظاهر السائدة بحكم هيمنة وتأثير الإيديولوجية الغيبية غير المستنيرة على المشرق والمغرب العربي في اللحظة الراهنة ؟
في ضوء ما تقدم فإنني أوافق على الاستنتاج القائل بأن : ” المجتمع الإسلامي الأول كان هو الأقرب في كل تاريخ العالم العربي الإسلامي إلى القرن الثامن عشر من جهة ( أي بدايات عصر النهضة ) وإلى أثينا من جهة ثانية ، لأننا في هذه المرحلة نستطيع أن نلاحظ التعامل الإيجابي بين الناس القائم تحت سلطة الإيمان؛ لقد كان هذا الموقف الروحي الصحيح في تلك المرحلة الأولى فقط أقرب إلى ممارسة النفي الإيجابي للعالم توفرت فيه عملية التعامل والتبادل والتواصل الاجتماعي بالمعنى الواسع تحت مظلة من العدالة الاجتماعية .
ب : الفلسفة الإسلامية :
تميزت الفلسفة الإسلامية عبر رموزها من الفلاسفة المسلمين بغض النظر عن أصولهم عرباً أو فرساً بآليات ذهنية أو عقلية مشتركة في الجوهر بالرغم من اختلافها في الاجتهاد ، هذه الآليات يجملها لنا د. نصر حامد أبو زيد (9) فيما يلي:
- التوحيد بين ” الفكر ” و ” الدين ” .
- تفسير الظواهر كلها برَدِّها جميعاً إلى مبدأ أول أو علة أولى ، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية .
- الاعتماد على سلطة ” السلف أو التراث ” وذلك بعد تحويل النصوص التراثية _ وهي نصوص ثانوية _ إلى نصوص أولية ، تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل _ في كثير من الأحوال _ عن النصوص الأصلية .
- اليقين الذهني والحسم الفكري ” القطعي ” ورفض أي خلاف فكري _ من ثم _ إلاَ إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول .
- إهدار البعد التاريخي _ ( في شكله الحاضر ) _ وتجاهله ، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدية وعصر الخلافة التركية العثمانية .
وفي هذا الصدد فإنه لمن المفيد الإشارة إلى أن الفلاسفة المسلمين توزعوا إلى اتجاهين (10) ( لا يختلفان في الجوهر كما قلنا ) الأول : جماعة أطلق عليهم اسم الفلاسفة المنطقيين أو الآلهيين ( ميتافيزيقيين ) ، وقد كان لهم دور كبير في التفكير الإسلامي سواء في المشرق ، مثل الكندي ، الفارابي ، وابن سينا وإخوان الصفا أو في المغرب مثل ابن رشد ، أما الاتجاه الثاني فقد عرفوا بالفلاسفة الطبيعيين أو العلماء وأشهرهم أبو بكر الرازي ؛ وسنعرض في هذه الدراسة فلاسفة الاتجاه الأول .
- الكنـــــدي ( 800 م. _ 879 م. )
- أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي ، درس أرسطو وعرف عنه إيمانه بالمشروطية السببية لظواهر الطبيعة والمجتمع ، ويرى أن: ” هذا العالم حادث وأن الله خلقه من العدم وبالتالي فإن هذا الكون له بداية في الزمان وليس قديماً كما يدعي بعض الفلاسفة ، إلى جانب ذلك يرى الكندي أن مصادر المعرفة هي العقل والحواس والخيال ، فالعقل يدرك الكليات _ ( اللـــه ، الطبيعة ) _ كما يدرك كل ما لا تدركه الحواس ، والحواس تدرك الجزئيات والماديات ، أما الخيال فيأتي وسطاً بين الاثنين ، أي بين الإدراك العقلي والإدراك الحسي _ ( هكذا عرض كانط فلسفته فيما بعد ) _ كان ” عالماً ” باللغة الفارسية والعربية واليونانية بصفة خاصة وقد كلفه الخليفة المأمون بنقل العلوم الفلسفية إلى اللغة العربية ضمن الذين كلفوا بالنقل والترجمة ، كان يميل إلى مذهب أهل الاعتزال واضطهد بسبب هذا الميل ؛ عرف عنه اشتغاله بعلوم الرياضة و الموسيقى و الطب إلى جانب الفلسفة ) يقول عنه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه ” فيلسوف العرب والمعلم الثاني ” أن الكندي في القرون الوسطى كان واحداً من ثمانية هم أئمة العلوم ” الفلكية ” .
- الفارابـــــي ( 870 م. _ 950 م. )
- أبو النصر ، رياضي وطبيب وفيلسوف ، درس أرسطو ووافق على أن الله هو العلة الأولى للوجود لكنه قال بوجود العالم الخارجي بشكل مستقل عن القوى الخارقة ( وفق قوانين التطور ) أما مصدر المعرفة عنده أعضاء الحواس ( القوة الماسة ) والمخيلة والعقل ويرى مؤلفاُ كتاب ” الفلسفة الإسلامية وصلاتها بالفلسفة اليونانية “(11) أن الفارابي آمن واقتنع بالدليل الذي ساقه أرسطو على وجود الله ، وفي أحد مؤلفاته حاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو !!
- ابن سينا ( 980 م. _ 1037 م. )
- يعتبر من أبرز علماء ومفكري بلدان الشرق في عصره ، كان عالماً موسوعياً تفوق في الطب والفلسفة ، كانت الفلسفة عنده علم عن ” الوجود بما هو وجود ” أي أنه يعترف بالوجود الموضوعي للطبيعة ، وكان لذلك أثر في أنه اعتمد في كل أعماله على دراسة الوقائع والتجارب؛ قام بعرض آراء أرسطو وفي عرضه هذا استنتج أن المقولات والمبادئ المنطقية يجب أن تتفق مع الأشياء ، أي مع قانونيات العالم الموضوعي ، ويفسر ذلك بقوله : ” إن الله لا يخلق شيئًا دون وجود إمكانية لهذا الشيء ” ، أما مصدر هذه الإمكانية فهو المادة غير المخلوقة والخالدة أبداً ( اللــه ) وإذا كان الله خالداً فإن العالم خالد أيضاً ، لأن العلة والمعلول مرتبطان في رأيه دوماً ( إنها ومضة مادية في تفكير ابن سينا الميتافيزيقي ) ، ما يمكن أن نستنتجه هنا أن ابن سينا رغم مثاليته إلا أن فكرته عن خلود العالم المادي تتناقض مع التصورات الدينية عند المسلمين وغيرهم عن نهاية العالم ومحدود يته .
- لقد انقسمت الفلسفة عند ابن سينا إلى قسمين : فلسفة نظرية وفلسفة عملية : النظرية هي: التي يكون الغرض منها حصول الاعتقاد بحال الموجودات على ما هي عليه ، و العملية هي : التي يكون الغرض منها تحصيل المعرفة للإنسان، له العديد من المؤلفات في الطب ( الشفاء ) ، وفي الفلسفة ( كتاب النجاة ) (الإشارات ) ( ورسائل في الموسيقى ) .. وغير ذلك .
- ابن رشد (12) ( 1126 م. _ 1198 م. )
- هو أبو الوليد محمد بن رشد المولود في قرطبة ، كان فيلسوفاً وفقيهاُ وطبيباً وقبل كل ذلك كان قاضياً إذ تولى منصب قاضي القضاة في قرطبة بعد وفاة والده ، شرح أرسطو حتى قال معاصروه : ” لقد فسر أرسطو الطبيعة ، أما ابن رشد فقد فسر ارسطو ” ولكنه لم يكتف بالتفكير والشرح بل نَّقح وعَّدل وطور في فلسفته كما يؤكد عدد من المفكرين الذي كتبوا عنه .
- يؤكد مؤلفو كتاب ” تاريخ الفلسفة ” أن ابن رشد كان ” يرى أن العالم المادي لانهائي فى الزمان ولكنه محدود مكاني ، وهو يرفض التصورات اللاهوتية عن خلق العالم من لا شيء ” لم يرفض أبداَ وجود الله ولكنه يقول بأن الله والطبيعة معاً موجودان منذ الأزل ، فلم يكن هناك زمن وجد فيه الإله قبل أن توجد الطبيعة ، ويقول أيضاً أن الله هو المصدر الازلي للواقع ، في حين تشكل المادة الأساس الوحيد للوجود والمصدر الأزلي للمكان _ نلاحظ هنا موقفاً مادياً صريحاً _ ثم يستطرد كتاب ” تاريخ الفلسفة ” بالقول أن : المادة والصورة عند ابن رشد متلازمتان لا توجد إحداهما بدون الأخرى ، المادة هي المصدر الكلي والأزلي للحركة، والحركة أزلية خالدة مستمرة وكل حركة جديدة تصدر عن سابقتها ( نلاحظ هنا جدلية ابن رشد ) .
- وينتهي الكتاب إلى القول أن: ” أفكار ابن رشد المادية لم تخل من شوائب مثالية حيث تشكل الموجودات في رأيه مراتب أو درجات يتربع على قمتها الله باعتباره العلة الأخيرة للوجود”
- أما خليل شرف الدين في كتابه ” ابن رشد ” فيؤكد على ما تقدم بقوله أن ” ابن رشد ” آمن بالعقل باعتباره منطلقاً لتصحيح مسار التفكير الإسلامي الذي انحرف بفعل الافكار الأشعرية والمعايير الغزالية والمبادئ الصوفية ، وساهم في كبح جماح الغزالي وكَشَف وعرَّى الكثير من أقواله ونظرياته الخاطئة ورد للفلسفة اعتبارها في كتابه ” تهافت التهافت ” ضد كتاب الغزالي ” تهافت الفلاسفة ” ، ويستطرد خليل شرف الدين بقوله أن: ابن رشد قال أن ” العالم أزلي وليس بين العالم وبين خالقه انقطاع زمني ” كما قدم الفلسفة على الدين ، وألزم أهل البرهان ( أو الفلاسفة) بالتأويل : أي استخراج المعنى الباطن الذي ينطوي عليه ظاهر النص الشرعي ، إنه بهذا يريد حصر المعرفة الحقيقية بالفلاسفة لأنهم وحدهم الذين بإمكانهم إدراك ذلك المعنى الباطن ، أما الظاهر فهو لأهل الجدل وجمهور العامة الذين يكتفون عادة بالنقل دون العقل ؛ تأثر به الكثيرون من المفكرين في فرنسا وأوربا ( الذين سموا أتباع ابن رشد ) وانتشر بواسطتهم التيار العقلي والعلماني في أوربا مما دفع بالكنيسة في فرنسا إلى إصدار إدانتين لابن رشد وأفكاره ( الإدانة الأولى في عام 1271 م. والثانية في عام 1277 م. ) ومن هذه الأفكار المدانة حسب لائحة الكنيسة:_
- إنكار الرشديين لحدوث العالم وإصرارهم على القول بأزليته .
- إنكارهم على الله الخلق من عدم .
- إنكارهم على الله العلم بالجزئيات .
- إنكارهم للخوارق والمعجزات .
- قولهم بمبدأ الحقيقتين أي أن : الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية موجودتان وصادقتان وأن اختلفتا ظاهراً ( أي أن طبيعة الدين لا تتنافى مع طبيعة الفلسفة).
يعزز هذه الآراء د. محمود قاسم في رسالته عن ابن رشد التي قدمها لجامعة السوربون بقوله بأن : ” ابن رشد استقل برأيه عن أستاذه أرسطو ، خاصة في اكتشافه لمبدأ الحتمية وتفسيره للعلم بالغيب بأنه معرفة وجود الموجود في المستقبل وخلود العقل الإنساني “، إن تعليقنا علىهذا الموقف أن ابن رشد كان يرى أن كل شيء من الممكن معرفته ، وبالنسبة لتأثير ابن رشد على الحضارة الغربية فإن د. قاسم لا يبالغ كثيراً حينما يؤكد بأنه ” لو كُتب للمدرسيِّين الأوربيين ورجال الكنيسة أن يبسطوا تفكيرهم السلفي المثالي على التفكير الغربي لما نهضت أوربا تلك النهضة العلمية العملاقة المرتكزة على الفكر الأرسطي الرشدي ومن ثم معطيات الفكر الفلسفي البديل كالنهج الديكارتي والكانطي والهيجلي .
أخيراً ، أو د الإشارة إلى أن الشوائب المثالية لدى ابن رشد لاتتعارض مع ماعرف عنه بأنه من أنصار العقل ، فالعقل عنده هو مبدأ المبادئ وهو المرشد للبرهان ، كان ينادي بضرورة أن يخضع كل شئ عدا المعتقدات الدينية الموحى بها لحكم العقل .
وفي كتابه ” ظُهر الإسلام ” يقول أحمد أمين ، إن ابن رشد اهتم ” بالتوفيق بين الدين والفلسفة ، فكان يؤول في الدين حتى يتمشى مع الفلسفة ” ، وهذا صحيح في رأينا ، إذ أن كتابات ابن رشد – كما العديد من الفلاسفة – عرضة لشتى التفسيرات ، فقد كان فقيهاً وقاضياً جمع بين الفلسفة والدين ، كان فيلسوفاً رأى أن العالم المادي هو لانهائي في الزمان ، لكنه محدود مكانياً ، رفض التصورات الدينية في خلق العالم من ” لاشئ ” ، ومن جهة أخرى فإن الموجودات عنده – تأخذ شكلاً تراتبياً يتربع على قمتها الله ، ويبدو أنه استند في مفارقاته هذه ، أنه خصص لكل من الفلسفة والدين مجاله المستقل ، الفلسفة للنظر والعقل ، والدين للعامة والعمل ، هذا هو جوهر توفيقيه ابن رشد ، وهو موقف متقدم على عصره بكل تأكيد .
إن محاولتي– عبر هذه المحاضرة – لاتهدف استعراضا لفلسفة ابن رشد ، فهو أمر لا أمتلكه ولا أدعيه ، رغم أهمية ذلك وضرورته ، لكنها مجرد محاولة جزئية الطابع ، تطمح إلى الاسهام في تجسيد الرؤي والتفكير العقلاني الرشدي القديم وربطه باطار التفكير العقلاني التنويري الحديث والمعاصر والهدف إحياء الجوانب الإيجابية في تراثنا العربي الاسلامي ، مدركين أن حوارنا البسيط حول ابن رشد ، لاتتوقف قيمته عند الجانب التاريخي فحسب ، بل هو حوار له قيمته الفلسفية التي لاتدعو إلى تبني أفكاره بشكل ميكانيكي ، وإنما إلى ” تمثلها تمثلاً عقلانياً نقدياً في إطار مستجدات واقعنا وعصرنا الراهن ” كما يقول بحق المفكر العربي محمود أمين العالم .
في ضوء كل ما تقدم لم يكن غريباً أن يتهم ابن رشد بالهرطقة ويحاكم بعد أن وشى به الكثيرون وزَورَّوا عليه ، حيث تمت محاكمته في المسجد الأكبر بقرطبة وبحضور الخليفة ” المنصور ” الذي حكم عليه بالإبعاد مع أن تهمته كانت نكران القرآن ، وهو حكم مخفف على أي حال بالقياس إلى أحكام عصرنا ؛ مما يدل في رأينا على استنارة حكام أو قضاة عصره في الأندلس.
- اخوان الصفا: في كتاب ” تاريخ الفلسفة ” يشار إلى إخوان الصفا على أنهم ” جماعة سرية ظهرت في البصرة في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي ” ألف الإخوان إحدى وخمسون رسالة جمعوا فيها معلومات عصرهم في الرياضة والمنطق ، والعلوم الطبيعية ، وما وراء الطبيعة، والتصوف والسحر وعلم النجوم ؛ يرى ” إخوان الصفا ” أن تحصيل المعرفة الإنسانية يتم بثلاث طرق هي :
- أعضاء الحواس
- العقل
- الحدس
كانوا من أنصار توحيد جميع الأديان والمذاهب الفلسفية على أساس من المعارف العلمية والفلسفية التي تُخلِّص الدين من الأوهام والخرافات ، ومن أجل بلوغ الكمال يجب الجمع بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية .
اتخذوا البصرة مقراً لهم ولم يعلنوا عن أسمائهم خوفاً من اتهامهم بالزندقة والإلحاد، ومن أقوالهم كما يوردها مؤلفا كتاب ” الفلسفة الإسلامية ” السابق ذكره أن : هذه الجماعة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة بينهم مذهباً رأوا أنهم قرَّبوا به الطريق إلى الفوز برضى الخالق وقاموا بإنشاء ” هيئة علمية وأخلاقية ” تتعاون على نشر الثقافة العالية من الآلهيات والرياضيات والطبيعيات ” .
عملوا على أن ” تتفوق العلاقة بينهم لتكون أقوى من علاقة الأب بابنه والأخ بأخيه ، مزجوا الآيات القرآنية بمذهبهم ترغيباً للشباب في الإقبال على هذه التعاليم ، لاقت تعاليمهم اهتماماً لدى المعتزلة الذين تداولوها سراً ، ترجمت رسائل إخوان الصفا إلى اللاتينية والألمانية وكان لها قيمة هامة في أوربا حسب ما يؤكد عدد من الكتاب والمفكرين.
- ابن خلدون ( 1332 م. _ 1406 م. )
- رغم كل ما عليه من مآخذ ذاتية ، فقد كان رائداً لعلم الاجتماع بل ومؤسساً له ؛ ففي مقدمته المطولة التي عرفت باسم ” مقدمة ابن خلدون ” تناول كثيراً من الموضوعات الهامة :-
- حقيقة التاريخ ومهمة المؤرخ .
- العوامل الطبيعية في تكوين الأمم .
- المؤسسات الاجتماعية في البدو والحضر .
- العوامل الاجتماعية في نشوء الأمم .
- العوامل العارضة في المجتمع الإنساني .
وكما يورد كتاب ” الفلسفة الإسلامية ” الذي أشرنا إليه ، كان ابن خلدون يرى أنه لا حاجة لنا بقوانين المنطق الصوري ( الأرسطي ) لأنها ” لا تتفق مع طبيعة الأشياء المحسوسة ، ولذلك يجب على العالم أن يفكر فيما تؤدي إليه التجربة الحسية وألاَ يكتفي بتجاربه الفردية” ؛ إن ابن خلدون يعتبر فيلسوفاً حسي النزعة لا يؤمن إلاَ بالمحسوس والتجربة ، ورأى أيضاً أن المنطق طبيعي في الإنسان وأن العقل الذي وهبه الله إياه طبيعة فطرها الله فيه ، فيها استعداد لعلم ما لم يكن حاصلاً
أخيراً .. لقد استهدفت عبر كل ما قدمته من نصوص مكونة لهذه الدراسة و هي نصوص مستقاه من العديد من المصادر ، تقديم صورة موضوعية مبسطة للمذاهب والفلسفة الإسلامية ، ليس فقط للفهم والتأمل بقدر ما هي دعوة لإعمال العقل ونقد كل مظاهر ومكامن التخلف والوقوف أمام المطلق عند الضرورة لحفز إرادة العمل وإرادة النهضة والتحرر والتقدم ، فالأمة العربية _ كما يقول عبد الله العروي _ تقف اليوم على باب التاريخ الجدي ، وأنها ستجابهه في الغد لا بعد غد ؛ لكن ذلك لن يكون بفتح باب الاجتهاد فحسب بل يجب إغلاق باب التقليد كلياً ونهائياً أي الابتعاد عن المطلق والاعتقاد بأن الواقع ( الحاضر ) يستوجب منطقاً لفهمه واستيعابه ولن يكون ذلك إلاَ بتبنى المنهج الجدلي العلمي أو التاريخانية فكراً وممارسة ؛ لذلك فالسؤال عن المستقبل هو سؤال عن المصير وعن الوعي بالتاريخ بهدف الانتقال من التاريخ الحدثي إلى التاريخ الإستراتيجي المستقبلي ، خاصة وأن الكثير من ممارساتنا وأنماط تفكيرنا اليوم كما يرى د. فوزي منصور في كتابه ” خروج العرب من التاريخ ” لا يختلف كثيراً في الجوهر عن ردود الفعل التي قابل بها الهنود الحمر أو الأستراليون الأصليين غزاتهم وأن المصير ذاته ينتظرنا ما لم نسارع إلى تغيير أوضاعنا وهذه العملية لن تتم في رأيه بدون ” ثورة حقيقية في الفكر الديني تخرجه من أطر العصور الوسطى وتحوله من قيد على التطور الاجتماعي إلى واحد من أهم منابعه ” .
الهوامش :-
(1) محاضرة ألقاها الأستاذ غازي الصوراني- في ندوة حوار مع مجموعة من المثقفين والكوادر السياسية-غزة.
(2) المصادر الأساسية :موجز تاريخ الفلسفة، الجزئين الأول والثاني-قصة الفلسفة-ول ديورانت.
(3) بعكس المثالية الذاتية التى تقول بأن ما دام كل فرد مغلق فى افكارة الخاصة ،فإنه يعرف نفسه فقط دون العالم الخارجي أو حتىدون الآخرين من بنى الأنسان(بيركلى هو فيلسوف المثالية الذاتية…وهي فلسفة رجعية الى أبعد الحدود).
(4) ول ديورات-قصة الفلسفة-بيروت-مكتبة المعارف-الطبعة الخامسة-1985-ص127.
(5) الصوفية “mystycism”وتطلق هذة الصفة على المؤمنين بقدرة الانسان على الدخول فى تمس مباشرة مع الله وتذويب ذاتة بالذات الاهية.
(6) ترتكز الافلاطونية الجديدة الى فكرة”اللاهوت السلبى” التى تعتبر الله ماهية لا يمكن أبدا اعطاء أى حكم أثباتى أو الوصول الى أيه معرفة إيجابية عن طبيعتها ،على قاعدة أن “الالهى لايمكن الاحاطة بة”.
(7) أهم شعارات حركة الزهد قولهم “أن حب الدنيا رأس كل خطيئة”والزهد راس كل خير وطاعة”.
(8)من أبرز دعاة التصوف،الغزالى ومحى الدين بن عربى والسهرورى.
(9) قضايا فكرية-دراسة بعنوان الخطاب الدينى المعاصر-عدد خاص عن التيارات الدينية –ص45.
(10) محمد السيد نعيم و د.عوض حجاذى-الفلسفة الاسلامية وصلاتها بالفلسفة اليونانية-دار الطباعة المحمدية بالاذهر-القاهرة الطبعة الثانية-1959-ص171.
(11) المصدر السابق -ص215.
(12) محاضرة القاها الاستاذ غازي الصورانى فى معهد كنعان الثقافى –غزة، بمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاة ابن رشد.