أنا ومدينتي ، بقلم : سارة سامي
هذه المدينةُ تعرفُني، تميزُّ ملامح أيّامي وتفاصيل ثيابي وتُومِئُ بوجهها لي في كلِّ مرةٍ أطرقُ أبوابها طالبةً كوباً من القهوة.
تستضيفني على مصطباتها وترَّحِبُ بي فوق موائدها.
ما أُحبُهُ بها، أنَّها تمارسُ دور الأم معي، في الوقت الذي يتنصل منه الجميع.
لقد كانت مدينةً صغيرة حين جئتها مستوطنةً قبل عقدين. أناسها قلائل وطرقاتها ضيِّقة، ولم تكن تجتذبُ اليها أحد، فهي ضاحيةٌ هادئة من الجزء الشمالي الغربي من العاصمة، لكنَّها كبرت وإزدهرت وطوُلَتْ عماراتها وإستقامتْ مبانيها، فجاءها عددٌ غفير من القاطنين الجدد، وقد جلبوا معهم صغارهم وكلابهم وقططهم، فلم تعد الشوارعُ تكفينا حين نستطرقها، ولم تعد المدارسُ ورياضُ الأطفال تتسعُ لهذا العدد الكبير من الصغار وفوضاهم.
حتى شيّدوا مبنىً جديداً ليكون روضتهم الجديدة ودعونا لإفتتاحه. ولأن المدينة أمٌ حنون تجمعُ أولادها فقد جمعتنا لحفلٍ كبير وخولتنا جميعاً بتسميةِ المبنى الصغير الجديد، كمن يُكلِّفُ الإخوة الكبار بإختيار اسمٍ لشقيقهم حديث الولادة.
وكان للإسم الفائز جائزةٌ نقدية.
لا أعرفُ لماذا اقترحتُ تسمية المبنى ب”الزرافة القصيرة” ربما لأعبث معهم واكون كعادتي ساخرةً ومازحةً في اكثر المواقف جدية.
فالجدية تقتلني، لا أحبُّها ولن تجعلني يوماً ارضخُ لها.
لقد فاز الإسمُ الَّذي يحملُ إسمَ الشّارعِ الذي تقعُ به الروضة، فأسموها على اسمه. اختيارٌ كان يمكن “لعمود الشارع” أن يختاره فهو اسمٌ بليدٌ وبائسٌ ومطروق!
فما الغايةُ من جمعنا إذن، إن كان الخيارُ “للشارع” بنهاية المطاف!
لكن السيدة التي فازت قررت أن تستخدم الجائزة لإستئجار مهرجٍ ينفخُ البالونات الملونة لأطفال المدينة، مما جعلني اغفرُ لها بلادتها وذوقها الكئيب.
مدينتي والخريف صديقانِ حميمان، فهو يستحمُّ على طرقاتها مرةً في العام بلا إستئذان. فتُناولهُ المنشفة دون أن تنبُس ببنت شفَّة.
تاركةً له الباب والجلباب، فلا يكترث.
أحبُّ في الخريف تمرُّدهُ على المدينة..
تآمره مع الرِّيح على خلقِ اكبر مساحةٍ للفوضى. إنَّه يُزعبقُ ويُزبِّل كطفلٍ مُشاغب ولا أحد يجرؤُ على أن يقول له لا، فمنذ أن حلَّ ومدينتي تكنسهُ عن الطرقات بلا جدوى. إنَّه ينفثُ صبغته وينثرُ قِشرته ويُصرُّ على أن يمازحها بأكثر اللحظات جدية. وتمردهُ هذا يشبهني، فأنا حين يبردُ الكون من حولي انفضُ اوراقي عنِّي، تاركةً يباس أغصاني ليُجابه قسوة الجوّ..
فأحاربَ القسوة بالقسوة، واليباس باليباس، ولا أتوانى عن زعبقةِ المدينة وقلبها إن تطلَّب الأمر.
إنَّها في النهاية أمي
وأمي تغفر لي..