تأخذنا الحياة بعيداً ، بقلم : أ. مروه معتز زمر
الحياة ليست سباقاً مع الزمن بقدر ما هي سباق مع الذكريات التي سَـنعيش على أطيافها يوماً.
كم من مرة دارَت بِنا دوامة الحياة، نركض خلف الأعمال والمواعيد والالتزامات، لنكتشف أننا انشغلنا عن أغلى ما نملك، عن ما يُـفترض أن يكون في صميم أولوياتنا؟
نَغْـرق في التفاصيل الصَّغيرة، بينما تمرّ لحظات ثمينة كانت تستحق أن تُعاش بوعي وحُب مع من نُحِـب، لا أن تُهْـدَر في زِحام الحياةِ المتسارع.
تأخذُنا الحياة في دروبها المتشعبة، تُلْقي بنا بعيداً عن أنفسنا، عائلاتنا، أصدقاءنا، بعيدين عن الأشخاص الذين كانوا في يومٍ ما جوهر اهتماماتنا، بعيداً عن تلك الدقائق التي لو أدركنا قيمتها لما فرّطنا بها، كالأم التي كانت تنتظر حديثاً عابراً، أو الصديق الذي اشتاق إلى كلمة ودّ، الطفل الذي احتاج إلى قلبٍ داعم أو المراهق الذي احتاج إلى مشورة،
تحملنا بعيداً عن ما يُـفْتـرض أن يكون محور اهتمامنا وأساس سعادتنا، نَسيرُ خلف طموحات لا تنتهي، وننغمس في مهامٍ متلاحقة، ظانّين أن الوقت معنا، وأن كل شيء سيبقى في انتطارنا، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الوقت لا ينتظر أحَداً، والغَـد قد لا يمنحنا الفرصة دائماً، ما تأخذنا منه الحياة قد لا نتمكن من استعادته، وما نؤجِّله من علاقات ومشاعر قد لا نجِـد فرصة لإحيائه.
اللحظات التي تمرّ بلا رَجعة، هي نفسها التي نَعود نَـبحث عنها في ذاكرة النَّدم بعد فوات الأوان، حينها كل إنجاز أو نجاح سنحققه لن يُعوّض غيابنا عن تلك الأحاديث الحميمة، ولن يُعيد دِفْءَ اللحظات التي ضاعت.
كم من خططٍ وضعناها لأنفسنا دون أن ندرك أن هناك من كان ينتظر أن يكون جزءاً من تلك الخطة، جزءاً من أحاديثنا الصغيرة و أوقاتنا الكبيرة، فماذا لو كان هذا الشخص، هو الأم أو الأب، رِفاق العمر الذين نؤجل مخططاتنا معهم ولا نشعر بذلك، إلا بعد أن تصبح الذكريات هي كل ما تبقى لنا منهم.
يا لوجع الوقت الضائع، وألم الأصابع التي نَعضها ندماً على لحظات لم نُشركهم فيها، في تفاصيل يومنا، ندرك ذلك حين تصبح خطتنا اليومية معهم عبارة عن قائمة من أوقات الأدوية والمواعيد الطبية، سنعرف حينها أننا تأخرنا كثيراً على شيء بسيط هو (أن يكون حضور الوالدين في يومياتنا من أولوياتنا، لا من أمْـنياتنا)
أدرك أن الوقت يمضي بِـسُرعة، وأن العالم يطالبنا بالرَّكض بلا توقف، لكن ما نغْـفله هو أن كل لحظة تمضي دون أن يكون والديك جزءاً منها هي لحظة تخسر فيها ما هو أثمن من الإنجازات، تخسر فيها رضاهم ودعواتهم، وسعادتهم بأن يكونوا حاضرين في حياتك حتى ولو في أبسط تفاصيلها، لاتنسَ في زِحام الحياة أن تغذي روحك بالعلاقات الدافئة، ومن أعظم العلاقات هي علاقتك بوالديك، خطط يومك معهم، تحدث إليهم عن أبسط تفاصيلك، اجعل حضورهم محسوساً في كل خطوة، وامنحهم من وقتك ما يكفي ليشعروا أنهم ليسوا عبئاً، بل جزء لا يتجزأ من قصتك.
الحياة ستأخذنا إن تركناها، لكن مازالَ بإمكاننا أن نختار وجهتنا، لِنحاول أن نعيد ضبط بوصلتنا قبل أن نتوه بعيداً عن أولوياتنا الحقيقية، فلنجعل من أولوياتنا الوقت مع من نحب، لنجعل أحباءنا في أولى صفحات خِطَطِنا اليومية، فليس هناكَ أعظم من أن نعيش حاضراً مليئاً بالعلاقات الحقيقية التي تَـمنح أرواحنا السكينة، قبل أن تُـصبح هذه اللحظات جزءاً من ذكرياتنا، نعضّ أصابعنا ندماً على ضياعها، فاللهُّمَّ لا تَجْعَلْنا منَ الذين ضَلَّ سَعيَهُم في الحياة الدنيا وهم يحْسَبون أنهم يُحسِنون صُنعا.
لا تنتظروا الغد، لأن الغد ليس مضمونا، لا تجعلوا من أحبائكم جزءاً من حكاية ندم في مستقبلكم، قولوا ما يجب أن يُقال، وأعطوا من وقتكم دون حساب، وعيشوا اللحظات التي ستبقى خالدة في ذاكرتكم وذاكرة من تحبون، قبل أن تجدوا أنفسكم تسيرون بين ظلال الفرص الضائعة، عاجزين عن استرجاع ما كان يجب أن يكون في متناول أيديكم.
(سَيأتي يوم قد تكون خطتكم مليئة بمواعيد لا تُؤجَّـل، لكنها ستكون خالية من مواعيد لا تُعـوَّض)