وقف الحرب على غزة ولبنان من بوابة الإنتخابات الأمريكية ، قراءة في صفقة التصفية ، بقلم : نسيم قبها
منذ اليوم الأول لاغتيال السنوار والإدارة الأميركية تسعى جاهدة لانتزاع هدنة مؤقتة لوقف الحرب في غزة ولبنان، وسد الثغرة التي يحاول نتنياهو من خلالها تصعيد الموقف مع إيران وجر الولايات المتحدة إلى حرب واسعة لفرض أجندته في المنطقة. وقد أثارت الأخبار والتحركات النشطة للوفود السياسية والأمنية والوسطاء في الأيام الأخيرة أجواء “تفاؤل” توحي باحتمال التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، وهدنة لمدة محددة تؤسس لوقف الحرب في غزة بالتزامن مع مساعي أميركا لإنهاء العملية العسكرية في لبنان، بعد تمكنها من ضبط نتنياهو وتبريد الضربة الإسرائيلية لإيران ضمن الإطار المقبول، بتجنب منشآت النفط والطاقة والمواقع النووية؛ وذلك للإفادة من هذه الأجواء في الانتخابات الأميركية لصالح كمالا هاريس.
ويأتي هذا الحراك المتعلق بإنهاء الحرب أيضًا في إطار كبح مساعي نتنياهو لتهجير سكان شمال قطاع غزة عبر التجويع والإبادة الجماعية والمجازر اليومية وإزالة البنية التحتية برمتها لفرض واقع جديد يحقق أهدافه لما بعد الحرب، وتحوطًا لما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية الراهنة.
وتدور المفاوضات الجديدة حول المقترح الذي طرحه مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز، لوقف إطلاق النار في قطاع غزة لمدة 28 يومًا، وإطلاق سراح نحو ثمانية أسرى محتجزين لدى حماس، وإطلاق سراح عشرات السجناء الفلسطينيين لدى “إسرائيل”. وفي هذا السياق قال بايدن عقب إدلائه بصوته في الانتخابات الرئاسية الأميركية: “نحن بحاجة إلى وقف للنار. يجب أن ننهي هذه الحرب. هذه الحرب يجب أن تنتهي، يجب أن تنتهي، يجب أن تنتهي”.
وأما على الجانب الفلسطيني، فقد قال القيادي في حركة حماس سامي أبو زهري: “استجبنا لطلب الوسطاء لبحث مقترحات جديدة بشأن اتفاق لوقف إطلاق النار”. وأضاف: “إن الحركة منفتحة على مناقشة “أي اتفاق” يكفل وقفًا نهائيًّا لإطلاق النار في قطاع غزة وانسحاب قوات الاحتلال منه بشكل كامل”، فيما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية عن مصدر أجنبي يشارك بالمحادثات أن “الخطوط العريضة لإسرائيل لا تتضمن صراحة وقف القتال أو الانسحاب من غزة”. ومن خلال هذه المعطيات وبالنظر إلى الوضع الميداني الكارثي غير المسبوق في غزة، وسكوت القوى المادية في المنطقة بشكل مقصود ، كما بيّن الصحفي الشهير بوب ودورد في كتابه الجديد “الحرب”، وبالنظر إلى موقف حماس من شروط نتنياهو حيال الصفقة، فإن من العسير على هذه الجولة من المفاوضات أن تصل إلى اتفاق يوقف الحرب تمامًا، حتى لو قبلت حماس بصفقة محدودة لتخفيف الكارثة عن أهل غزة في إطار تمكين سكان شمال القطاع من الصمود في وجه الإخلاء والتهجير والتجويع، وهو المطلب المُلح في هذه الظروف المريرة. وبالتالي ليس من المتوقع أن يتحقق شيء قبل الانتخابات الأميركية. ويظهر ذلك جليًا في قول نتنياهو: “كل من ضغط عليَّ لتقديم تنازلات غير مسؤولة بشأن الرهائن أراد مني فعليًا تعريض أمن إسرائيل للخطر”، وهو ما يضع إشاعة أجواء التفاؤل إعلاميًا في سياق استغلال نتنياهو للمفاوضات لتنويم المطالبين بصفقة التبادل، وفي سياق الدعاية الانتخابية لكمالا هاريس. كما يضعها في سياق مراوغة نتنياهو لكسب الوقت حتى ظهور نتائج الانتخابات الأميركية.
وأما على الجانب اللبناني فقد توجه عاموس هوكستين وبريت ماكغورك مبعوثا بايدن إلى “إسرائيل” في مسعىً لإبرام اتفاق لإنهاء الحرب في لبنان ، ولم يسفر اجتماعهما مع نتنياهو عن شيء خارج الطرح الأمريكي للتهدئة ، وقد عقب نتنياهو على الاجتماع فور انتهائه بأن المشكلة ليست في الاتفاق ، ولكن في تطبيقه . وفي هذا السياق قال وزير البيئة اللبناني للجزيرة: “هناك مفاوضات يقودها الرئيس ميقاتي والرئيس بري لكنها في مراحلها الأولى”. فيما لا يزال حزب الله على موقفه الهجومي المفتوح على دولة الإحتلال ، ولم يصدر عنها حتى اللحظة ما يدل على قبولها الانسحاب من الجنوب، رغم عدم اعتراضها على نشر الجيش اللبناني في المناطق الحدودية.
وأما على الجانب الإسرائيلي فقد نقلت أكسيوس عن مسؤولين إسرائيليين أن: “الجيش الإسرائيلي قريب من إنهاء عمليته البرية في قرى لبنان الحدودية مع إسرائيل”، وذكرت صحيفة هآرتس أن ثمة “إجماعًا بالمؤسسة الأمنية على استغلال الإنجازات العسكرية بجنوب لبنان وغزة للتوصل إلى اتفاقيات تنهي الحرب”. وبحسب التقارير الإخبارية فإن تفاهمات وقف الحرب على الجبهة اللبنانية تنطلق من تنفيذ قرار 1701 بشكل موسع بحيث يتم التأكد من ألا يكون هناك وجود مسلح لحزب الله جنوب نهر الليطاني، ومنع دخول وسائل عسكرية تعرف كـ”محظورة”، من الجو، والبر والبحر. وذكرت بعض المصادر لصحيفة “معاريف”، أن الإدارة الأميركية تمارس ضغوطًا على إسرائيل كي تستجيب لجهود هوكستين. وقالت إن هناك تلميحات بأن واشنطن ستتيح لفرنسا تمرير قرارٍ في مجلس الأمن لصالح وقف النار في لبنان إذا عرقل نتنياهو الاتفاق.
ورغم أن هذه المعطيات توحي باقتراب الاتفاق على وقف الحرب على الجبهة اللبنانية، إلا إنها بعيدة واقعيًا لارتباط الجبهة اللبنانية بملف غزة من جهة، وملف الصدام الإيراني الإسرائيلي المباشر، والذي يتحدد مآله بجملة من المحددات، من بينها الموقف السياسي الإيراني الداخلي وانعكاسه على السياسة الخارجية وأولوياتها، والموقف السياسي الإسرائيلي الداخلي والتنافس على السلطة، وأجندة نتنياهو واليمين المتطرف في غزة والمنطقة، بالإضافة إلى الانتخابات الأميركية وما ستسفر عنه من إدارة ومقاربات تختلف باختلاف التيارات داخل الدولة العميقة.
ومن قراءة المشهد بصورته الواسعة يتضح أن المسار العسكري للجبهتين الغزية واللبنانية يتجه نحو الانحسار، تمهيدًا للمسار السياسي الذي سيعقب الانتخابات الأميركية، ولا سيما إذا فازت كمالا هاريس في الانتخابات. ذلك أن قرار أذرع المقاومة بيد إيران وبخاصة قرار حزب الله، ومن المرجح أن تعطي إيران الأولوية لشؤونها الداخلية المتوقفة على الانفتاح على الغرب، وأن تسعى لخفض التصعيد، ومعالجة ملفاتها العالقة مع أميركا، مع بقاء نفوذ التيار الإيراني المحافظ بشأن التحدي الصهيوني ومساعي أميركا لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.
ومن نافلة القول إن القيادة الإيرانية وبخاصة (تيار الإصلاحيين) تأمل بعودة الديمقراطيين إلى الحكم في الولايات المتحدة؛ لتبنيهم نهج الاحتواء والتخادم مع إيران. في مقابل النهج المتشدد والعقوبات والإملاءات التي يتبعها الجمهوريون والتيار الداعم لهم في الدولة العميقة، برغم أن سياسة تحجيم إيران ومنعها من امتلاك السلاح النووي هي سياسة عامة للحزبين في أميركا.
ولهذا فإن رد إيران على الهجوم الصهيوني الأخير على أراضيها ومصير الحرب على غزة ولبنان يتوقف على نتائج الانتخابات الأميركية، وعلى المقاربة السياسية للإدارة الأميركية القادمة، وهو ما يُفسر تعقيب إيران على الهجوم الإسرائيلي بأنها تحتفظ بحق الرد في الوقت المناسب، ويفسر فتح حزب الله قناة التفاوض على وقف الحرب عبر نبيه بري كخط رجعة لتسوية تداعيات إسناده لغزة؛ إذ يحاول الحزب أن يتخذ المفاوضات الجارية وسيلة للعودة إلى قواعد الاشتباك منخفضة الحدة؛ سيما وأنه لا يرغب بخسارة نفوذه ومكتسباته الداخلية، ولا يجد مصلحة له في استمرار الحرب المفتوحة مع الكيان الصهيوني في ظل الأوضاع اللبنانية الداخلية إلا في حالة انسداد أفق المحافظة على نفوذه ومكتسباته، وفي حالة نشوب حرب شاملة بين إيران و”إسرائيل” لأنها تمس وجوده. كما أن احتمال تخلي حزب الله عن شرط وقف الحرب على غزة وارد في حال أعلن نتنياهو عن وقف الحرب على غزة مع بقاء احتلاله لها، واحتفاظه بالأعمال العسكرية والأمنية ضد أية مقاومة، وهو وارد أيضًا في حال تحتم على حماس الدخول في مفاوضات لتبادل الأسرى، واتخذت من حرب العصابات وسيلة مقاومة على المدى البعيد، كما كان حالها قبل انسحاب “إسرائيل” من القطاع سنة 2005، وبخاصة وأن إسناد حزب الله لحماس وتشتيت جهود الجيش الإرهابي الصهيوني وتكثيف الضغوط الداخلية على نتنياهو لم يعد يُسعف بعد أن سيطر الجيش الصهيوني على كامل القطاع، وقد يستنزف ترسانة الحزب الحربية، ويُفاقم معاناة حاضنته الشعبية، ويضعف موقفه لصالح خصومه السياسيين. ومن ثم فإن مسعى حزب الله من المفاوضات يهدف إلى التمهيد من أجل العودة إلى المربع الأول (العودة إلى وضع ما قبل الحرب)، وهو ما يتطلب الانخراط في المفاوضات الجارية من خلال نبيه بري لرفع الحرج عن نفسه، والاحتفاظ بمواصلة الهجمات بمقتضى الوقائع والظروف والمقاربات المتجددة. ولذلك ليس من المتوقع أن يحصل اتفاق قبل انتهاء الانتخابات الأميركية.
وأما نتنياهو فإنه يكثف ضغوطه العسكرية على حاضنة الحزب في البقاع والجنوب، واستهداف مواقعه العسكرية في بيروت ومناطق انتشاره لإجباره على وقف الهجمات، وتحسين موقفه التفاوضي حيال ملف حزب الله في الجنوب والبقاع، بعدما فشل في إخضاع الحزب عسكريًّا، وبعد الكلفة العالية التي كبدها الحزب للكيان في الفترة الأخيرة.
وفي ضوء هذه المعطيات قد يفضي مسار التفاوض بعد الانتخابات الأميركية إلى اتفاق على وقف العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة على الجبهة اللبنانية وإيقاف الحرب على غزة، والبدء بمسار دبلوماسي قابل للانفجار بحسب ما يستجد من مقاربات سياسية أميركية وإيرانية وإسرائيلية بعد الانتخابات. حيث ينص الاتفاق المقترح على إعلان وقف إطلاق نار تتبعه فترة انتقالية لمدة 60 يومًا، ثم يبدأ حزب الله بنقل أسلحته الثقيلة شمال الليطاني بعيدًا عن حدود إسرائيل خلال الفترة الانتقالية، ومن ثم ينتشر الجيش اللبناني خلال هذه الفترة على طول الحدود مع الكيان الغاصب، في الوقت الذي سيسحب الجيش الإسرائيلي قواته تدريجيًّا إلى داخل حدوده. ومن الوارد أن تضغط أميركا على “إسرائيل” لاتخاذ الخطوة الأولى وهي تجميد العملية العسكرية كمقدمة للمسار الدبلوماسي ومعالجة ملف حزب الله والجانب الأمني للكيان المحتل، وسد ثغرة توسع الحرب في الإقليم. ومن المؤكد أن تواصل الولايات المتحدة تحفيز الضغوط الدولية والإقليمية لثني نتنياهو عن تنفيذ أجندة التهجير في غزة، وعرقلة المشروع الأميركي في المنطقة. ومن ذلك تصريح وزير الخارجية السعودي الأخير بأن: “إقامة الدولة الفلسطينية شرط المملكة للمضي قدمًا في التطبيع”، وإن كان مثل هذا المطلب من السعودية إنما هو لرفع الملامة عن الموقف السلبي تجاه المجازر اليومية التي يقترفها العدو الإسرائيلي في أهل غزة والضفة ولبنان.