“دبلوماسية أم تحيز؟ الرد على آراء سفير سابق بشأن الشرق الأوسط” ، بقلم : د. فادي الحسيني
“نشر المقال باللغتين الإنجليزية والمجرية”
نشر مؤخرا سفير سابق خدم في دولة الاحتلال رسالة مطولة على حسابه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي، وأعاد موقعين مؤيدين للاحتلال نشرها بسرعة فيما بدا وكأنه عمل منسق.
وبمطالعة ما تطرق اليه السفير، وجدت رسالته مليئة بالمغالطات وتفتقر إلى البصيرة والرؤية العملية للقضايا الإقليمية الأساسية، على الرغم من السنوات الخمس التي قضاها في دولة الاحتلال، ومنه فوجب الرد وضحض جميع هذه المغالطات.
اعتمد السفير على سردية إسرائيلية وتكتيك مصمم لصرف الانتباه عن القضية الأساسية – احتلال الأرض الفلسطينية. فلسنوات، استغلت إسرائيل علاقتها بالإدارات الأمريكية المتعاقبة لحرف الانتباه عن احتلالها، مع التركيز على شخصيات ودول مثل صدام حسين سابقاً، والآن إيران، في حين تعمل جاهدة لتغيير ملامح النضال الفلسطيني والترويج بأن القضية الفلسطينية لا تعدو ان تكون
مجرد قضية إنسانية. ولهذا السبب، سأركز بشكل خاص على القضايا المتعلقة بالشأن الفلسطيني في ما ورد من قبل السفير السابق، متجنباً أية قضايا أخرى تطرق لها.
يرى السفير أن السابع من أكتوبر من العام الماضي دشن بداية الصراعات الأخيرة. إن هذا التبسيط المفرط قد يدفع بعض القراء “الغربيين” إلى الاعتقاد بأن التطورات الإقليمية وكأنها بدأت في العام الماضي فقط. لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فنراه يرى السبب الجذري – وفقاً لتقييمه- بأن “أعداء إسرائيل وجدوا ان وقتهم قد حان.”. إن هذا التبسيط لواقع الحال يكشف عن افتقار مذهل لفهم السياق التاريخي والميداني.
إن إغفال السفير للسبب الجذري الحقيقي – عقود من الاحتلال العسكري، والتمييز العنصري الممنهج، وتجاهل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة – يكشف عن نقطة عمياء خطيرة في تحليله، فأي منظور موضوعي دقيق عليه أن يأخذ في الاعتبار عقود من الظلم الذي سبق النقطة التاريخية التي اختارها وهي السابع من اكتوبر.
- المستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة: تنتهك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية المادة 49 من اتفاقية جنيف، التي تحظر نقل السكان المدنيين (المستوطنين) إلى أرض محتلة. وقد أثارت هذه المستوطنات المتوسعة، ووالارهاب الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، إدانة دولية.
- العقاب الجماعي: اعتبر حصار قطاع غزة (قبيل حرب الإباده) وعلى نطاق دولي واسع عقابًا جماعيًا، وينتهك القانون الإنساني الدولي. ويقيد هذا الحصار بشدة الوصول إلى الخدمات الأساسية لأكثر من مليوني فلسطيني، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.
- الاستخدام غير المتناسب للقوة العسكرية: غالبًا ما تعرضت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة لانتقادات بسبب تأثيرها غير المتناسب على المدنيين، ومنه فقد سقطت اعداد كبيرة من المدنيين وخاصة بين النساء والأطفال، شهداء خلال هذه الاعتداءات والحروب المتتالية.
- تدمير البنية الأساسية المدنية: تنتهك الهجمات على المباني والبنية الأساسية المدنية، بما في ذلك المنازل والمدارس والمستشفيات، القانون الدولي. وتؤدي مثل هذه الإجراءات إلى تدمير مادي وخسارة مأساوية في الأرواح.
- القيود المفروضة على الحركة: إن الإجراءات الإسرائيلية، بما في ذلك نقاط التفتيش والجدار الفاصل، تحد بشدة من حرية حركة الفلسطينيين، وتحد من قدرتهم على الوصول إلى العمل والرعاية الصحية والتعليم. وقد اعتبرت الهيئات الدولية هذه القيود غير قانونية.
- انتهاكات حقوق الإنسان للسجناء السياسيين: تنتشر على نطاق واسع التقارير عن الاعتقالات التعسفية والتعذيب والافتقار إلى الإجراءات القانونية الواجبة للأسرى الفلسطينيين. ويواجه عدد كبير من الفلسطينيين، بما في ذلك القُصَّر، الاحتجاز دون محاكمة، مما يثير مخاوف خطيرة بشأن حقوق الإنسان.
- تجاهل قرارات الأمم المتحدة: لقد أدى تجاهل إسرائيل المتكرر لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تدعو إلى الانسحاب من الأرض الفلسطينية المحتلة وتفكيك المستوطنات إلى تأجيج التوترات والافتقار إلى المساءلة عن الأفعال التي تعتبر غير قانونية بموجب القانون الدولي.
من جهة ثانية، تبنى السفير السابق رواية إسرائيلية أحادية، حيث اختزل قضية معقدة وأقام صلة بعيدة غير متصلة في الأساس بين الاحتجاجات الأخيرة في المدن الأوروبية وأميركا الشمالية، التي عبر فيها مواطنون عاديون متشحون بالأعلام الفلسطينية، عن تضامنهم، حيث أشار السفير ضمناً إلى أن هؤلاء المتظاهرين تحركوا وفقاً لتوجيهات أطراف في المنطقة. تتجاهل هذه النظرة المشاعر الحقيقية للأشخاص الذين شهدوا، من خلال وسائل الإعلام العالمية، الظلم الوحشي والمعاناة والدمار الذي ألحقته إسرائيل ــ ليس فقط في غزة بل وأيضاً في الضفة الغربية وفي مختلف أنحاء فلسطين. لقد احتج هؤلاء الأفراد من منطلق إنساني، وخيبة أمل إزاء الحكومات التي تدعي أنها تحترم حقوق الإنسان بينما اعتكفت والتزمت الصمت أمام هذه الفظائع.
ثم يبرر السفير تصرفات إسرائيل، ويصور حرب الإبادة الجماعية على غزة باعتبارها ضرورية لاستعادة “الردع”. فيرى السفير السابق أن إسرائيل “لم يكن لديها خيار آخر” سوى اتخاذ تدابير متطرفة، متجاهلاً الخسائر الهائلة: كاستشهاد أكثر من 16 ألف طفل و11 ألف امرأة، وتدمير المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة، واستهداف العاملين في المجال الطبي والصحفيين. إن وصف دبلوماسي لهذه الإجراءات على أنها ضرورية لاستعادة قوة الردع الإسرائيلية أمر مثير للقلق، لأنه وبكلماته هذه لا يبدو وكأنه يؤيد الحرب فقط، ولكن يذهب بعيداً للترويج لاحتلال دائم لقطاع غزة، بغض النظر عن الخسائر المروعة للقيمة البشرية والمصداقية الدبلوماسية.
وبالتوازي، يستشهد السفير مرارًا وتكرارًا بمبدأ “الدفاع عن النفس” لتبرير العدوان على غزة ولبنان، متجاهلاً في الأصل حقيقة أن إسرائيل تحتل أرضًا فلسطينية وأجزاء من لبنان – وهي نقطة البداية الحقيقية لأي نقاش يتعلق بالدفاع عن النفس. وجب هنا التنويه بأن العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على غزة، بدعم دبلوماسي وعسكري أمريكي، بعيدًا كل البعد عن المعايير المعترف بها دوليًا للدفاع المشروع عن النفس: الفورية والتزامن والتناسب. وبمقاربة ما تقوم به دولة الاحتلال مع هذه المعايير، يظهر بلا ادنى شك ان ما يحدث الان بعيد كل البعد عن الدفاع عن النفس.
فضلاً عن ذلك، لم يعترف او يُشر السفير قط بحق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس، وهو الحق الذي تمنحه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لأي دولة تتعرض للهجوم حتى يتمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من استعادة السلام. ومن عجيب المفارقات أن السفير بدلاً من اقتراح الحلول الدبلوماسية، يميل للترويج لمزيد من العنف والحروب والاحتلالات- تماماً كما هي البدائل التي عرضتها الحكومة الإسرائيلية.
لقد عملت هذه الحكومة الإسرائيلية، تحت قيادة نتنياهو، على تصعيد التوترات الإقليمية ورفضت علانية احتمالات السلام، حيث عارض نتنياهو نفسه اتفاقيات أوسلو في عام 1993. ومن غير المستغرب أن يصوت الكنيست الإسرائيلي ضد قيام دولة فلسطينية. فلنكن واضحين: هناك دولة فلسطينية قائمة، معترف بها من قبل ما يقرب من 150 دولة، بما في ذلك الدولة التي يمثلها السفير، ومع ذلك تظل تحت الاحتلال. لقد مرر نتنياهو فكرة مضللة للعديد من القيادات الغربية مفادها أن الدولة الفلسطينية لا يمكن أن توجد خارج المفاوضات. ولنكن واضحين مرة ثانية: المفاوضات تعني بمعالجة القضايا الخلافية – القدس والمياه والحدود – وليس حقيقة وجود الدولة.
أشار السفير إلى القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل، رغم أن الدولة التي يمثلها لا تعترف بها على هذا النحو، ومتجاهلاً حقيقة ان القانون الدولي وجب ان يكون بوصلة الحراك والسياسة الخارجية التي يراعيها اي دبلوماسي. فتوضح قرارات الأمم المتحدة أن إدعاءات إسرائيل حيال القدس باطلة ولاغية. ويؤكد القرار 476 هذا، الأمر، في حين يدين القرار 478 مطالبة إسرائيل بالقدس في “القانون الأساسي”، وقد طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة عدم وجود أية بعثات دبلوماسية في القدس.
إذا أراد السفير ان يظهر بعض الموضوعية، فكان الأجدى ان يتجنب أيضاً المصطلحات الإسرائيلية – مثل “الدولة اليهودية” التي كررها خمس مرات في رسالته. فقد استخدم بنيامين نتنياهو مصطلح “الدولة اليهودية” لأول مرة بشكل بارز في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2011، مؤكداً عليه في سياق مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، ومن ثم بدأ يُظهرها كجزء رئيس في خطاباته ومفرداته.
ويختتم السفير رسالته بالإشادة بالقيم التي يُزعم أن إسرائيل تمثلها، مشيراً إلى أن هذه القيم في تراجع في الغرب. لعل هذا السفير لم يتحدث إلى المواطنين العاديين في الدول الغربية الذين يتساءلون الآن، بعد أن شهدوا أكثر من عام من الإبادة الجماعية المستمرة، عن القيم التي تدافع عنها إسرائيل الآن. ومن ثم يتحدث السفير عن “نجاحات” إسرائيل التي تعكس استمرارية هذه القيم، وهو تجاهل للآراء السائدة للعديد من الذين ينظرون إلى الحكومة الإسرائيلية الحالية، باعتبارها نظاماً معزولاً، مبنياً على فكرة الحرب، ويستمر فقط في ظل إفلات جامح من العقاب.
- – د. فادي الحسيني – سفير دولة فلسطين لدى المجر