ارحموا العملية التعليمية في مقالاتكم ، بقلم : د. فواز عقل
نسمع و نقرأ بين الحين والآخر مقالات و آراء حول العملية التعليمية و في هذه المقالات الكل يغني على ليلاه،حيث يخرجون بأفكار و استنتاجات و توصيات و اقتراحات حول إصلاح العملية التعليمية، فهنالك من يقول أن المشكلة في المناهج، و آخر يقول التوجيه هو المشكلة،و ثالث يقول أن المعلمين هم المشكلة، رابع يرى أن الطلبة هم المشكلة، و خامس يقول أن المشكلة عدم استخدام التكنولوجيا لتحسين عملية التعليم و سادس يرى ضرورة اعتماد نظام الرقمنة و التخلص من الحقائب المدرسية، و سابع يتحدث عن الجودة و النوعية و ثامن يتحدث عن التربية المستدامة وآخرين يتحدثون عن تبني الذكاء الاصطناعي،أنا أعترف أنه رغم التباين الواضح في التوجهات و الآراء و الأفكار و المقالات إلا أنها في مضمونها تعكس ما يشبه الإجماع على وجوب تحسين العملية التعليمية، و قليل من هذه المقالات تتطرق إلى مشكلة ازدحام الصفوف و استخدام الكتاب من الألف للياء و استراتيجيات التعلم و المشاركة و التفاعل الصفي و التقويم و الامتحانات و وضوح الأهداف التعليمية ، و التحديات التي تواجه التعليم في القرن الواحد والعشرين.
لكل هؤلاء أقول و قد اطلعت على تجارب تربوية لليابان وكوريا وفنلندا وسنغافورة ، و قرأت كثيرا من المقالات، أستطيع أن أقول أن المشكلة تتمثل في غياب الأهداف التعليمية، الوجهة التعليمية، القبلة التعليمية غير المحددة، و كيفية الوصول إليها غير واضحة و لا نعرف هل تم الوصول أم لا،و أقول أن العملية التعليمية هي عملية معقدة متشابكة شاملة و لها أبعاد اقتصادية و ثقافية و بقائية يتأثر بها المجتمع بكامله، ومن خلالها يمكن استشراق المستقبل ، وأرى أن المشكلة لا يمكن اختصارها في محور واحد،و لا يمكن القفز من نظام تقليدي تلقيمي تلقيني ينظر إلى المتعلم على أنه لا يعرف شيء و يعتمد على المعلم و التحول إلى نظام تعليمي يضع المتعلم في المقعد الأمامي للعملية التعليمية ، المشكلة تتمثل في النظام التعليمي الذي لا يخاطب العقل ولا يحترم العقل ولا يقوم على خضخضة الأفكار و لا ينمي ثقافة الحوار والتساؤل ولا يسأل أسئلة صعبة ولا يشجع المناقشة و المشاركة لأنه لا تعليم بلا تفاعل، و أقول أن هدف التعليم ليس خلق طالب جيد بل خلص مواطن جيد.
إن هذا العصر أنهى احتكار المعلم و الكتاب و غرفة الصف و العملية التعليمية و مع هذا لا يمكن تحسين نوعية التعليم بالقفز إلى الرقمنة و تبني الذكاء الاصطناعي و لا يمكن خلق إنسان جيد وبناء إنسان من خلال التركيز على التكنولوجيا فقط و في هذا المجال لا بد من العودة إلى مدارس برؤية جديدة واستراتيجيات تعليم وتعلم تواكب العصر و تقوم على الحرية و المرونة والتنوع والانفتاح وكذلك العودة إلى تدريس الفلسفة و العلوم الاجتماعية و الإنسانية و كذلك العودة إلى الأخلاق لأنها هي المحرك الأساسي للمجتمع فمن خلالها تصنع الكبرياء و تعلو الهمم و ينفتح العقل ومن خلالها سيتعلم الإنسان الحوار مع الآخر لأن الحوار هو قيم تدرس و أفعال تمارس وفكر يتقبل وعقل يعلم.
إن الطالب الذي لا يدرس علم النفس و الفلسفة و علم الاجتماع و الفنون سيكون علمه ناقصا و ثقافته ضحلة مهما بلغت إحاطته بالتكنولوجيا، مع العلم أنني لا أنكر أهمية التكنولوجيا و الإحاطة بوسائلها المختلفة و لكن ليس على حساب العلوم الاجتماعية و الإنسانية، و يتحقق ذلك عن طريق جعل البيئة الصفية مركز إبداع، مركز فكر و رأي ، مركز إقناع، يتعلم المتعلم لغة الحوار و تقبل الآخر و البعد عن الأحكام المسبقة، فنظام التعليم التقليدي الذي أغفل و تجاهل لعقود طويلة دور العلوم الاجتماعية و الإنسانية و الاكتفاء بعرضها عن طريق السرد و الرواية و الوعظ و الحفظ و استرجاعها يوم الامتحان، هذا النظام خلق و شكل عقلا عربيا أخفق فيما طرحه من أسئلة و عناوين و شعارات، و أصبح العقل أحاديا لا جمعيا لا يفكر بغيره،أنا ولا أحد غيري، و من ليس معي ضدي، مما أدى إلى الشرذمة و الفرقة،و أصبح ينظر إلى العقل على أنه قليل الحيلة ليس لديه رؤية مستقبلية، عقل حزبي قبلي، عقل تبريري، عقل مندهش من إنجازات العصر المتسارعة، عقل لا يفكر خارج الصندوق، عقل استبدادي لا يقبل الحوار و لا يعتمد الإقناع، و بما أننا على عتبة جديدة في القرن الواحد و عشرين و الفرصة متاحة للجميع، فما أحوجنا إلى عقل متفتح نهضوي يسأل أسئلة صعبة، يفكر بصورة حرة ، و يجيب على الأسئلة التالية:
-كيف سيكون شكل الجامعات في مستقبل متسارع؟
-ما هي التخصصات والمهن المطلوبة للمستقبل؟
-كيف سيتم الانتقال من السعي وراء المعرفة إلى التحدث بلغة لا أعرف؟
-كيف ستتأقلم الجامعات و المدارس مع المتغيرات المتسارعة؟
-كيف سيكون التعليم بعد 10 سنوات؟
-ماذا سيحدث إذا تم تحديد صلاحية الشهادة لزمن معين كالدواء و المعلبات؟
-كيف يمكن للشباب العرب أن يكونوا متساويين في تخصصاتهم مع أنداده في جامعات في العالم الآخر؟
-كيف سنجعل متعلم يتأثر بالمعلومة؟
و أخيرا علينا بناء قاعدة معرفية يتصدرها رجال التربية و رجال علم الاجتماع و رجال الفكر المستنير والثقافة الواسعة لان المجتمعات تبنى بالثقافة و التعلم المستمر للخروج من دائرة التشخيص للمشكلة إلى دائرة مواجهة المشكلة و حلها.
و أخيرا اقول، نحن التربويون المحاورون أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة لليوم التالي ولا ننتظرها.
- – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم والتعلم