عام قاسٍ من الألم والتضحيات والمقاومة البطولية المفعمة بالأمل ، بقلم: د. مصطفى البرغوثي
مع مرور عام كامل على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني تأكدت جميع توقعاتنا منذ بداية العدوان، بأن نتنياهو لن يقبل وقف إطلاق النار، وأنه لا يعبأ بحياة الأسرى الإسرائيليين، وأنه سيوسع العدوان ليشمل لبنان وسوريا وغيرها، وسيحاول بكل طاقاته سحب الولايات المتحدة معه إلى حرب إقليمية مع إيران.
وصار واضحاً أن دوافع استمرار وتوسيع الحرب، لم تكن فقط مصلحة نتنياهو الشخصية لإنقاذ نفسه من الحساب على فشله في 7 أكتوبر وما تلاه، ومن قضايا الفساد التي تلاحقه، بل إن المنظومة الصهيونية بكاملها، بحكومتها ومعارضتها كانت معنية بتوسيع نطاق الحرب، ومدعومة من مجتمع إسرائيلي انعطف معظمه نحو مشاعر الانتقام والفاشية والعنصرية الدينية الهوجاء.
أما الولايات المتحدة، وعدد كبير من الحكومات الغربية، فقد ألقت بكامل ثقلها العسكري والسياسي والمادي لدعم حرب الابادة، وفي بعض الأحيان المشاركة فيها، واستخدمت أجهزتها الدبلوماسية للخداع والتضليل وتوفير الغطاء للعدوان الإسرائيلي المتواصل منذ عام كامل.
ولربما صح القول أن منطقتنا تشهد أخطر مرحلة في تاريخها الحديث منذ نكبة عام 1948، والعدوان الإسرائيلي في حزيران عام 1967.
ولم يعد ممكناً في الواقع فصل السياسة والأهداف الأميركية عن الإسرائيلية، وهي تتمحور في ثلاث اتجاهات :
أولاً، السعي لتصفية الحقوق والقضية الفلسطينية بكل مكوناتها، ومحاولة تنفيذ تطهير عرقي واسع ضد الشعب الفلسطيني، وذلك باستخدام سلاحي التطبيع مع المحيط العربي من جهة، والاستيطان الاستعماري والإبادة والعقوبات الجماعية من جهة أخرى.
وذلك مغزى سلسلة قرارات الكنيست الإسرائيلي من قانون القومية اليهودي، إلى قرار منع قيام دولة فلسطينية.
ثانياً، فرض الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية – الأميركية على جميع دول المنطقة، وتحطيم كل مقاومة لها، وكسر عظام كل دولة ترفض الرضوخ لها، وذلك يفسر افتعال الحرب مع لبنان وإيران في محاولة لتنفيذ الحلم الصهيوني القديم، والذي نشره معهد الشرق الأدنى المُدار من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن منذ عقود بتطبيق نظرية “الاحتواء المزدوج للعراق وإيران”. العراق تم تدميره واحتلاله عسكرياً، والهدف التالي اليوم هي إيران.
وهذا هو معنى ما بشر به نتنياهو عن خريطة الشرق الأوسط الجديد لخمسين عاماً قادمة. وهذا التحالف العسكري الإسرائيلي الأميركي تجلى في ضم إسرائيل للقيادة المركزية للقوات الأميركية، والتصدي الأميركي بالسلاح والصواريخ والطائرات وحتى الجنود المقاتلين للدفاع عن إسرائيل من أي رد فعل على اعتداءاتها.
ثالثاُ، سعي إسرائيل والحركة الصهيونية، للهيمنة الاقتصادية والسياسية على جميع المحيط العربي ومقدرات دول المنطقة الهائلة، واستخدام التهديدات العسكرية (المضمونة أميركياً) للتحكم بالأمن الاقتصادي والسياسي لدول المنطقة.
ويتفاعل هنا عاملان متوازيان :
أولا،ً إضعاف دول المنطقة ومقدراتها ومن الأمثلة على ذلك التآمر الإسرائيلي على مصر، ومياه النيل، ودعم سد النهضة، والتخطيط، إذا سمحت الظروف، لإنشاء قناة بن غوريون بديلة لقناة السويس.
كذلك التآمر المتواصل لتكريس فكرة أن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين بعد ترحيلهم، والعمل على تفتيت السودان وسوريا والعراق واليمن.
وثانياً، استخدام مؤامرة التطبيع لتدجين الدول العربية ومحاصرة القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية.
غير أن حساب الحقل لا ينسجم مع حساب البيدر، كما يقال، إذ تواجه إسرائيل والولايات المتحدة وأتباعها في المنطقة وخارجها تحديات عديدة. فقد أثبت الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود والمقاومة، وأفشل بنضاله، رغم عظمة التضحيات، جميع أهداف العدوان على غزة، وأهمها التطهير العرقي لسكانه. وبعد عام كامل تبدو إسرائيل عاجزة عن اقتلاع المقاومة، أو فرض سيطرتها العسكرية على القطاع، أو استعادة أسراها بالقوة. ويصنع الفلسطينيون في قطاع غزة مآثر بطولية لا سابق لها في الصمود والثبات.
وتواجه إسرائيل مقاومة شعبية وعسكرية شرسة في لبنان تكبدها خسائر لم تتوقعها، وإذا ما أصرت إسرائيل على تنفيذ هجومها البري الواسع فيبدو أنها ستغرق في وحل مستنقعين عميقين في آن واحد، في لبنان وغزة وهذا ما يحذر منه كثير من الصحفيين والمسؤولين السياسيين السابقين.
أما صورة الجبروت الاستخباراتي والعسكري الإسرائيلي فقد مزقها طوفان الأقصى موجهاً لأصحابها إهانة عميقة، وهي صورة تتجلى في كل مرة تضطر فيها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى إلى التدخل العسكري المباشر لحماية إسرائيل، كما جرى خلال الهجومين الإيرانيين الأخيرين، وكما يؤكد إرسال الأساطيل والطائرات والجيوش الأميركية لتوفير الحماية لإسرائيل.
ومن ناحية أخرى، تتصاعد العزلة الشعبية العالمية لإسرائيل، بالتحول العارم في الرأي العام الغربي والذي اقتحم صفوف الشباب في الحزب الديمقراطي الأميركي، وحتى في أوساط شبابية يهودية أميركية لم تعد قادرة على احتمال بشاعة الجرائم الإسرائيلية، بالإضافة إلى خروج دول كإسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا عن الإجماع والانحياز الغربي المعيب للعدوان الإسرائيلي.
بل إن حركة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات من إسرائيل، وجدت نتيجة فداحة الجرائم الإسرائيلية، أفضل فرصها للنمو والتوسع.
وأدى التقاعس الرسمي العربي والإسلامي عن مساندة الشعب الفلسطيني في معركته ضد حرب التجويع والإبادة، إلى تعمق غير مسبوق للغضب الشعبي العارم، والذي لا يمكن إلا أن يجد متنفساً له باحداث تغيير حقيقي في سياسات الدول الرسمية، أو في مجمل بنيانها الحاكم إن لم تتغير.
ويمثل التحول الثيوفاشي (الفاشي الأصولي) في إسرائيل نفسها محركاً خطيراً لتفتت إسرائيلي داخلي ولارتفاع نسبة الهروب والهجرة من إسرائيل، ما يعقد محاولات كسر المعادلة الديمغرافية مع الوجود الفلسطيني الذي نجح في تحقيق أكبر فشل للحركة الصهيونية حتى الآن.
ما من شك أن حكام إسرائيل لن يتورعوا عن ارتكاب أبشع المجازر، والجرائم، كلما تعاظم شعورهم بالفشل في تحقيق أهدافهم، لكن ذلك لم ينجح، ولن ينجح، في كسر إرادة الشعب الفلسطيني المصمم على نيل الحرية، بعد أن تحرر من أوهام أوسلو وإمكانيات الحل الوسط مع الحركة الصهيونية ومن وهم الوساطة الأميركية، وأدرك أن ما يواجهه هو نفس منظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي التي نفذت نكبة التطهير العرقي الأوسع ضده عام 1948، وهي منظومة لا مجال للمهادنة معها، ومع أهدافها في تصفية وجود الشعب الفلسطيني بكامله.
عام ثقيل، قاسٍ، ملطخ بدماء وآلام آلاف الأبرياء الفلسطينيين واللبنانيين مضى، ولكنه عام عامر بروح الفخر والصمود والبسالة، وإرادة المقاومة، والتصميم على مواصلة كفاح مفعم بالأمل في نيل الحرية، والحق في حياة آمنة كريمة، والتخلص من عذابات طال أمدها.