أنفاس محاصرة ، خالدة جرار وحكاية الصمود خلف القضبان ، بقلم : بيسان عدوان
في أدب السجون العالمي، تُروى قصص المعتقلين كمرآة لعذابات الإنسان وصموده في وجه القمع. في زنازين معزولة حيث يُحاصر المرء بجدران صامتة وأبواب مغلقة، يتبدل الزمن وتختلط الأيام، لكن يبقى صوت الأمل يتردد رغم الظلام، تماماً كما تفعل خالدة جرار اليوم في زنزانتها.
داخل الزنزانة: يوميات الصمود والمقاومة
خالدة جرار، القيادية البارزة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، تُعاني من ظروف اعتقال قاسية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث تخوض يوميًا معركة من أجل البقاء على قيد الحياة. جرار، التي اعتُقلت في 26 ديسمبر 2023 من منزلها في رام الله، تم تحويلها إلى الاعتقال الإداري الذي يتيح للسلطات الإسرائيلية احتجاز الأفراد دون محاكمة لمدد غير محددة. جرار لم تكن استثناءً من هذا النوع من العقاب الذي يستخدمه الاحتلال بشكل ممنهج لكسر إرادة الفلسطينيين.
بعد اعتقالها، نُقلت جرار إلى زنزانة انفرادية في سجن نفي تيرتسيا. في هذه الزنزانة الضيقة والمغلقة، وجدت نفسها في مواجهة عذابات يومية. تصف جرار زنزانتها بأنها “علبة صغيرة مغلقة لا يدخلها الهواء”. وتضيف: “الزنزانة تحتوي على مرحاض فقط، وأعلاه شباك صغير تم إغلاقه بعد نقلي بيوم واحد، ولم يتركوا لي أي متنفس”. هذه الظروف دفعتها إلى الجلوس بجانب فتحة صغيرة لساعات طوال، محاولةً الحصول على القليل من الأوكسجين لتبقى على قيد الحياة.
ظروف الاعتقال في هذا السجن تشبه “الفرن” كما تصفه جرار؛ الحرارة العالية تجعل النوم مستحيلاً، وزادت من معاناتها قطع المياه المتعمد عن زنزانتها. حتى طلب الماء لم يكن يُستجاب له إلا بعد ساعات من الانتظار. إن الحرمان من الماء والنوم هما جزء من وسائل التعذيب التي يستخدمها الاحتلال ضد الأسرى الفلسطينيين.
معاناة الأسيرات الفلسطينيات: بين الإصرار والتحدي
ليست خالدة جرار وحدها من تعاني من هذه الظروف القاسية، فهناك 87 أسيرة فلسطينية تقبعن في سجون الاحتلال، غالبيتهن في سجن الدامون، يواجهن نفس الظروف المأساوية. هؤلاء الأسيرات، من ضمنهن أمهات وحوامل وصحفيات وناشطات، يتم احتجازهن في ظروف لا إنسانية تهدف إلى كسر إرادتهن، تمامًا كما يحدث مع جرار.
الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى عن استخدام كل الوسائل الممكنة لكسر إرادة الأسيرات الفلسطينيات. فبالإضافة إلى الظروف القاسية داخل الزنازين، تُمنع الأسيرات من الاتصال بالعالم الخارجي إلا في حالات نادرة، حيث يتم منعهن من الخروج إلى ساحة السجن (الفورة) بشكل دوري، ويتم تأخير وجبات الطعام الرديئة لساعات. هذا كله جزء من منظومة قمعية تهدف إلى محو الهوية الفلسطينية وكسر روح المقاومة.
خالدة جرار، رغم كل ما تتعرض له من قسوة، تبقى رمزًا للصمود والتحدي. جرار ليست مجرد قيادية سياسية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل هي أيقونة للنضال الفلسطيني. تمتلك خالدة جرار تاريخًا طويلًا في مواجهة الاحتلال، حيث سبق وأن تعرضت للاعتقال عدة مرات، ولكنها دائمًا ما أظهرت قدرة على التكيف مع الظروف الصعبة وإصرارًا على تحقيق أهدافها الوطنية.
اعتقال خالدة جرار هو جزء من حملة أوسع يشنها الاحتلال على الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، في محاولة لقمع أي شكل من أشكال المقاومة. منذ السابع من أكتوبر 2023، صعّد الاحتلال من حملات الاعتقال، مستهدفًا النشطاء والقادة الفلسطينيين في محاولة يائسة لإخماد صوت المقاومة.
في قلب العتمة: جرار تقاوم القيد والحرمان”
قصة خالدة جرار هي قصة كل فلسطيني وفلسطينية يقاومون الاحتلال يوميًا، سواء كانوا في الداخل أو في الشتات. إنها قصة تعكس القسوة التي يمارسها الاحتلال ضد شعب بأكمله، لكنها أيضًا قصة إصرار على البقاء والصمود. جرار، التي اختارت أن تقاوم حتى في أحلك الظروف، ترسل برسالة واضحة: لن يستطيع الاحتلال كسر إرادة الشعب الفلسطيني.
معاناة خالدة جرار والأسيرات الفلسطينيات الأخرى تضع العالم أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية. حقوق الإنسان لا يمكن أن تُختزل في بيانات وشعارات، بل يجب أن تتحول إلى فعل حقيقي من أجل إنقاذ من يعانون من القمع والظلم. كل يوم تقضيه خالدة جرار في زنزانتها هو دليل على فشل الاحتلال في كسر إرادة المقاومين الفلسطينيين، بل هو شهادة على صمود شعب لن يتخلى عن حقه في الحرية والاستقلال.
قصة خالدة جرار تستحق أن تُروى لتذكير العالم بما يحدث في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولإبراز القوة الداخلية التي يمتلكها الفلسطينيون في مواجهة الظلم. إنها قصة تدعو الجميع إلى الوقوف مع الأسرى الفلسطينيين ومساندتهم في نضالهم من أجل الحرية.