12:54 صباحًا / 3 أكتوبر، 2024
آخر الاخبار

مسؤولية المرشد النفسي ، بين أخلاقيات المهنة، وتحديات الفكر المشوّه ، بقلم : داليا الكردي

مسؤولية المرشد النفسي ، بين أخلاقيات المهنة، وتحديات الفكر المشوّه ، بقلم : داليا الكردي

مسؤولية المرشد النفسي ، بين أخلاقيات المهنة، وتحديات الفكر المشوّه ، بقلم : داليا الكردي

في كل مجتمع، تُطرح تساؤلات حول الحدود الفاصلة بين المسؤولية الفردية والعدوانية غير المبررة.

كيف يمكن أن نفهم تصرفات البشر عندما تُتاح لهم فرصة ممارسة القوة أو التأثير على الآخرين؟ وكيف يمكن أن نبرر اعتداءً وقع على شخص لأنه “سمح” بذلك؟ أو لأنه تواجد في مكان الاعتداء؛ هل باتت مسؤوليتنا تجاه بعضنا البعض مرهونة فقط بالفرص التي يتيحها الضعفاء للأقوياء؟ في تجربة علمية فنية غير مألوفة، كشفت فنانة عن الجانب المظلم من طبيعة البشر حين منحتهم الحرية الكاملة للتصرف معها كيفما شاءوا.

فهل كان المعتدون يعبرون عن دوافعهم أم كانوا ينفذون إرادة الضحية؟ وماذا أراد المتفاعلين المسالمين أن يوصلوا عن دوافعهم تجاه نفس الحدث؟ هذه الأسئلة ليست مجرد جدل فلسفي، بل نافذة لفهم أعمق للمسؤولية والعدوانية، وكيف يمكن للأفكار المشوهة أن تتحول إلى سرطان يتغلغل في نسيج المجتمع.

في عام 1974، قامت الفنانة الصربية “مارينا أبراموفيتش” بتقديم تجربة فنية جريئة بعنوان “إيقاع صفر”؛ حيث وضعت نفسها في موقف سلبي تماماً، معطية الإذن للناس بأن يتصرفوا تجاهها كيفما يشاؤون باستخدام مجموعة من الأدوات التي كانت تضعها على الطاولة أمامها، وكتبت لافتة تشير إلى تحملها كامل المسؤولية عما قد يحصل. كانت التجربة تهدف إلى استكشاف طبيعة العدوانية الكامنة في النفس البشرية، وكيف يمكن أن تتجلى في ظروف معينة.

ومع ذلك، ومع مرور الوقت، تم تحريف الهدف الأساس من التجربة، وأصبح بعض الناس يرون في هذه التجربة دليلاً على أن الضحية تتحمل مسؤولية ما يحدث لها إذا ما “منحت الإذن” بذلك. هذا التأويل الخاطئ يبرر الأذى ويغفل عن حقيقة أن العدوانية ليست مسألة اختيار بل هي نتيجة لظروف اجتماعية ونفسية معقدة.

لقد تحدث العديد من المفكرين والفلاسفة عن خطورة لوم الضحية وتبرير العدوانية؛ “سيمون دي بوفوار”، في كتابها “الجنس الآخر”، شددت على كيفية تبرير المجتمع لاضطهاد النساء عبر لومهن على الظروف التي يعشنها. ومن جانب آخر، يشير عالم النفس الشهير كارل يونغ إلى أن الظل – الجوانب السلبية من النفس التي نحاول إخفاءها – قد ينعكس في سلوكاتنا العدوانية تجاه الآخرين، وأن التصالح مع هذا الظل يتطلب وعياً عميقاً وتقبلاً لذواتنا وليس إسقاط اللوم على الآخرين؛ “مشاعر الظل” هي جانب من الجوانب النفسية التي قد تُفسر تبني هذا الفكر المريض.

هذه المشاعر تمثل الجزء المكبوت من النفس الإنسانية الذي يحوي الرغبات العدوانية والسلوكات غير المقبولة اجتماعياً. عندما تُبرر الأذى بناءً على سلوك الضحية، فإن ما يحدث هو عملية إسقاط لهذه المشاعر المكبوتة على الآخر؛ المعتدي قد يرى في الضحية تجسيداً لرغباته المكبوتة، ويستخدم ذلك كذريعة لتبرير سلوكه العدواني، وبهذه الطريقة، يُحافظ على صورة نقيّة لنفسه، بينما يلقي باللوم على الضحية.

النظريات النفسية الحديثة أيضًا تدين هذا النوع من التفكير. نظرية الإسناد، التي تُعنى بكيفية تفسير الناس لسلوكاتهم وسلوكات الآخرين، تشير إلى أن لوم الضحية ينشأ من محاولة الإنسان للحفاظ على وهم السيطرة. عندما نلوم الضحية، نشعر وكأننا نتحكم في الأحداث، ما يوفر لنا شعوراً زائفاً بالأمان.

العدوانية ليست مجرد فعل يتجلى في سلوكات عنيفة أو مسيئة، بل هي تعكس ديناميكية نفسية واجتماعية تحمل في طياتها العديد من التعقيدات. عندما يُبرر الأذى وتُلام الضحية، تتحول العدوانية من فعل مستنكر إلى سلوك مقبول وربما حتى مُمجد. تبرير العدوانية ليس فقط مشكلة أخلاقية، بل هو أيضاً مسألة تتعلق بتحديد المسؤولية، فالمجتمع الذي يسمح بتبرير الأذى هو مجتمع يتواطأ في تأصيل العدوانية وإدامتها. وهنا يأتي دور الوعي النقدي في تفكيك هذه الديناميكيات وتوجيه المسؤولية نحو الجاني بدلاً من تحميل الضحية تبعات ما تعرضت له.

ولكن، من الذي يؤيد ذلك؟ إن الأشخاص الذين يتفاعلون بموافقة أو تأييد أو قبول للسلوك المعتدي أو الضعف الذي يعاني منه الضحايا، ما هو إلا إنعكاساً لقلة الوعي الكامل، وقد لا يكون لدى هؤلاء الأشخاص الوعي الكافي بتبعات لوم الضحية أو بمدى تأثير هذه الرسائل على الأشخاص المتضررين، ناهيك عن تطبيع السلوكات السلبية التي تؤدي إلى عدم القدرة على تمييز المشكلة حقاً، وبالتالي غياب التفكير النقدي، والتأثر بالمظهر القوي دون التفكير بعمق الرسالة الأخلاقية أو التفكير بمصداقية السلطة المعرفية، أو مدى صحة وأخلاقيات هذا الطرح، بالإضافة لإعاقة جهود تمكين الأفراد وحمايتهم من الإساءة، والتي يهدف لها أغلب سياقات الإرشاد النفسي وأي مواقف تتعلق بالعلاقات الإنسانية، مع التنويه إلى أن الاستمرار في تأييد مثل هذا النوع السلبي من الفكر غير الواعي، يمكن أن ينتهي به المآل إلى ارتكاب جرائم أخلاقية واعتداءات داخل الأسرة ، وتحويل الأفراد العاديين إلى معتدين داخل بيئاتهم الأسرية؛ حيث يشعرون بأنهم غير ملزمين بالمساءلة لأنهم يعتقدون بأن الضحية “طلبت” هذا السلوك؛ أو إكسابه لأفراد أسرهم وبشكل غير واعٍ.

عندما يبدأ الناس في تبرير العنف ضد الضحية على أساس أنها “سمحت” به، فإنهم في الواقع يُسهمون في خلق بيئة تُشجع على المزيد من الانتهاكات. وبهذا، قد يجد البعض أنفسهم متورطين في أفعال شنيعة حتى ضد أقربائهم، مبررين ذلك بأنها كانت “الضحية” التي قدمت الفرصة.

ومن جانب آخر، فإن تبرير العدوانية عبر لوم الضحية وإسقاط المسؤولية من شأنه أن يخفف من مسؤولية المعتدي ويعطيه شعوراً بأنه غير مسؤول عن أفعاله، من خلال تحريف الأحداث وتقديمها بصورة توحي بأن الشخص الذي تعرض للأذى هو من جذب لنفسه هذا الشيء، ما يخدم أجندة المعتدي ويضعف مناقشة القضية بشكل نزيه ومسؤول، وهو تلاعب واضح بالفكر والمعاني وإفلات من المسائلة.

من المهم أن يُفهم أن العدوانية لا تُبرر بأي حال من الأحوال، وأن يُفهم أن تبرير العدوانية ليس مجرد مسألة شخصية، بل هو قضية مجتمعية يجب معالجتها بكل جدية وحزم وتوعية الفرد بالفروق بين المسؤولية والاعتداء، وإن كنا أقوياء بما فيه الكفاية، يجب علينا أن نعرف ما هو الصح والخطأ، وأن نعمق تركيزنا بالقوالب التي غُرست في تفكيرنا منذ زمن وعدم تجاهلها أو مسحها من جوهرنا الأساس. هذه القوالب تشكل الأساس الذي نبني عليه أحكامنا وتصرفاتنا، ويجب أن تكون مبنية على الأخلاق والعدالة، وليس على التبرير والتفسير المشوه للأفعال.

إن التركيز على تعزيز الوعي الأخلاقي والإنساني هو المسلك لتجنب تبرير الأذى وتعزيز قيم الاحترام والرحمة. هل يمكن لطبيب أن يجهز على حياة مريض ضعيف لأنه ضعيف؟ هل المحارب يجب عليه أن يُجهز على الجريح؟ هذه الأسئلة تحمل في طياتها حقيقة أن القوة الحقيقية هي الحماية، وهي أولى الدلالات على وجود الحضارة الإنسانية، وهي الوقوف ضد الاستغلال، وليست في استغلال الضعف. عندما نفكر في المسؤولية الأخلاقية، علينا أن نتذكر أن المجتمعات تتقدم بالعدالة والرحمة، وليس باستغلال نقاط الضعف.

إن التماسيح الساكنة التي تدعي المثالية ولا تذهب للصيد كما تفعل الأسود، ثم تأتيها الفرائس أو ربما تجرها هي لمنطقتها؛ حيث تكون هي بأمان من المسائلة، هل كانت تفكر بما تريده الضحية أم أنها تفكر فقط بما ستحصل عليه؟ من هذا السؤال يبرز أن التفكير في سلوك المعتدي يجب أن يركز على دوافعه واحتياجاته الخاصة، وليس على توقع أو إفتراض ما تريده الضحية. التمساح، كما هو الحال مع المعتدي، لا يفكر في احتياجات الضحية، بل في تحقيق رغباته الخاصة.

ولتصحيح الفكر المشوه نحو تجربة مارينا، وجب التنويه بأن التجربة أظهرت مدى التغير في سلوك البشر عندما يشعرون بعدم وجود عواقب على أفعالهم. مارينا أبراموفيتش قالت لاحقاً، إنها تعلمت من هذه التجربة أن البشر يمكن أن يكونوا وحشيين للغاية إذا أتيحت لهم الفرصة وفُقدت الضوابط الاجتماعية. التجربة تُعتبر واحدة من أكثر الأعمال الفنية استفزازاً وتأثيراً في تاريخ الفن المعاصر، وهي تُستخدم غالباً لدراسة سلوكات البشر في المواقف المختلفة، وتأثير السلطة والحرية المطلقة على الأخلاق والقرارات.

وللوقوف على دور ومسؤوليات المرشد النفسي والتربوي في سياق ما سبق، فإن دور المرشد يتمحور حول تقديم الدعم والاحترام الكامل لحدود المسترشدين المستفيدين من خدماته، فالسلوك السوي في هذا المجال يتطلب إلتزاماَ أخلاقياً عالياً؛ حيث يكون المرشد ملاذاً آمناً، موفراً لهم بيئة إرشادية تحترم كرامتهم وتساعدهم على التعافي؛ إذ إن كل شخص له الحق في التوقع أن المرشد النفسي يفهم هذه السياقات جيداً.

ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الحالات التي تصل إلى المرشد، تعاني من مشكلات تتعلق بتجاوز الحدود أو استغلالها، ما يجعل من الضروري التعامل مع المسترشدين بحساسية ومسؤولية كاملة. على المرشد أن يكون على دراية بأن تفسير الأحداث والسلوكات قد ينبع من اضطرابات نفسية أو مشكلات عاطفية، ما يزيد من أهمية التزامه بأعلى معايير السلوك السوي في مهنته.

في النهاية، قد لا نضع أي من الأدوات على الطاولة، والمقال ليس دعوة لتبني الضعف، لكن علينا إدراك أن أحد حقائق البشر هي أنه ليس كل البشر أقوياء، وأن أغلبهم من الضعفاء، وأن من لديه الدوافع الكافية لإيذائك سوف تحركه دوافعه حتى لو لم تمنحه الأدوات، لذلك، لا يوجد حدث أو تفاعل لا يخدمك، فالمؤذي يدفعك لإظهار القوة التي بداخلك، والمستغل يدفعك لإظهار حرصك، والقسوة تعلمك كيف ومتى تتعاطف، وفي نهاية المطاف، كل حدث يجعل منك شخصاً أفضل.

شاهد أيضاً

شهداء وجرحى في عدوان الاحتلال المتواصل على لبنان

شهداء وجرحى في عدوان الاحتلال المتواصل على لبنان

شفا – نفذ طيران الاحتلال الإسرائيلي، عشرات الغارات التي استهدفت الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت …