مقارنة بمبادرة جامعة الدول العربية الأولى الصادرة في أوائل شهر تشرين الثاني لعام 2011 والتي تعد بدورها أسوأ من مبادرة جامعة الدول العربية الثانية الصادرة بتاريخ 22/1/2012 فإن “مبادرة عنان” هي الأسوأ، وذلك لأنها ببساطة تحابي النظام على حساب الشعب السوري الذي قدم على مذبح الحرية والديمقراطية أكثر من خمسة عشر ألف شهيد، وما يزيد على ستين ألف معتقل ومفقود، عداك عن عشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من المهجرين والمشردين من ديارهم. يبدو لي أن مبادرة عنان تأخذ بالحسبان فقط نجاح النظام الظاهري والمؤقت في قمع الانتفاضة الشعبية في بعض مناطق اندلاعها الرئيسية، في حمص وحماه وإدلب ودرعا ودير الزور وغيرها، وكذلك الوضع الدولي الذي شلت إرادته روسيا والصين في مجلس الأمن، إضافة إلى عدم جدية كثير من الدول التي تدعي الصداقة مع الشعب السوري، وكذلك أخطاء المعارضة القاتلة التي طالبت بالتسلح وعسكرة الانتفاضة.
لقد جرى التركيز في مبادرة جامعة الدول العربية الأولى على مسألتين رئيسيتين: الأولى منهما تتحدث عن ضرورة الوقف الفوري لأعمال القتل في سورية وتتوجه بالطلب مباشرة إلى الحكومة السوري للقيام بذلك، وتشكل لجنة من خمسة وزراء عرب لمتابعة الموضوع. والمسألة الثانية تتحدث عن ضرورة البدء بحوار شامل بين السلطة السورية والمعارضة تحت مظلة جامعة الدول العربية خلال خمسة عشر يوماً. في هذه المبادرة لم يجري الحديث عن الهدف المنشود من الحوار وهو الانتقال إلى نظام ديمقراطي، بل تركت الأمر إلى حوار المعارضة مع السلطة.
أما في المبادرة الثانية الصادرة عن جامعة الدول العربية بتاريخ 22/1/2012 فقد تضمنت كما ذكرنا خارطة طريق مفصلة للانتقال إلى نظام ديمقراطي، واشترطت لبدء الحوار بين السلطة والمعارضة تامين بيئة ملائمة لذلك تتضمن بحسب الخطة:
1-ضرورة وقف كافة أعمال العنف والقتل من أي مصدر كان حماية للمواطنين السوريين. مطالبة الحكومة السورية بما يلي:
2-الإفراج عن المعتقلين، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وفتح المجال أمام منظمات الجامعة المعنية ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في جميع أنحاء سورية للاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد ما يدور فيها من أحداث.
3-سحب الجيش السوري وأية قوات مسلحة من مختلف التشكيلات إلى ثكناتها ومواقعها الأصلية.
4-ضمان حرية التظاهر السلمي بمختلف أشكاله وعدم التعرض للمتظاهرين.
بعد تأمين هذه الشروط، وفي ظل مراقبة على الأرض من قبل جامعة الدول العربية، يبدأ الحوار بين المعارضة السورية والسلطة خلال أسبوعين تحت مظلة جامعة الدول العربية وذلك لتحقيق مبادرة الجامعة التي تضمنت:
أ-تشكيل حكومة وحدة وطنية خلال شهرين من تاريخه تشارك فيها السلطة والمعارضة برئاسة شخصية متفق عليها تكون مهمتها تطبيق بنود خطة الجامعة العربية، والإعداد لانتخاباتٍ برلمانية ورئاسية تعددية حرة بموجب قانون ينص على إجراءاتها، بإشراف عربي ودولي.
ب-تفويض رئيس الجمهورية نائبه الأول بصلاحيات كاملة للقيام بالتعاون التام مع حكومة الوحدة الوطنية لتمكينها من أداء واجباتها في المرحلة الانتقالية.
ت-إعلان حكومة الوحدة الوطنية حال تشكيلها بأن هدفها هو إقامة نظام سياسي ديمقراطي تعددي يتساوى فيه المواطنون بغض النظر عن انتماءاتهم وطوائفهم ومذاهبهم ويتم تداول السلطة فيه بشكلٍ سلمى.
ث-قيام حكومة الوحدة الوطنية على إعادة الأمن والاستقرار في البلاد وإعادة تنظيم أجهزة الشرطة لحفظ النظام وتعزيزه من خلال تولي المهام الأمنية ذات الطابع المدني، وتتعهد الدول العربية بتمويل هذا الجهد بالتنسيق مع جامعة الدول العربية.
ج-إنشاء هيئة مستقلة مفوضة للتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المواطنون والبت فيها وإنصاف الضحايا.
ح-قيام حكومة الوحدة الوطنية بالإعداد لإجراء انتخاباتٍ لجمعية تأسيسية على أن تكون شفافة ونزيهة برقابة عربية ودولية، وذلك خلال ثلاثة أشهر من قيام حكومة الوحدة الوطنية وتتولى هذه الجمعية إعداد مشروع دستور جديد للبلاد يتم إقراره عبر استفتاء شعبي، وكذلك إعداد قانون انتخابات على أساس هذا الدستور.
8- تكليف الأمين العام لجامعة الدول العربية بتعيين مبعوث خاص لمتابعة العملية السياسية.
9- دعوة المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم لحكومة الوحدة الوطنية لتمكينها من تنفيذ مهامها.
10- الطلب من رئيس اللجنة والأمين العام إبلاغ مجلس الأمن لدعم هذه الخطة طبقاً لقرارات مجلس الجامعة.
أما بالنسبة لخطة عنان وكما جاء في بندها الأول بحسب الترجمة غير الرسمية لها، فلم يعد هدف الحوار واضحاً ومحدداً بل ترك ضبابيا يقبل التأويل. لقد جاء في النص ” الالتزام بالتعاون مع المبعوث في عملية سياسية تشمل كل الأطياف السورية لتلبية التطلعات المشروعة للشعب السوري وتهدئة مخاوفه، ومن اجل هذا الغرض الالتزام بتعيين وسيط له سلطات عندما يطلب المبعوث ذلك”. نحن هنا إزاء ” عملية سياسية” غير محددة الآجال، تثير شكوكا حول طبيعة ” التطلعات المشروعة للشعب السوري” التي ينبغي تلبيتها، ثم ما هي هذه المخاوف التي ينبغي تهدئتها لديه؟!. ألا يعني ذلك الانزلاق إلى ما روج له النظام كثيراً من خوف الأقليات.
ربما البند الثاني من خطة عنان والذي ينص على ” الالتزام بوقف القتال والتوصل بشكل عاجل إلى وقف فعال للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار في البلاد”،يعد جيدا خصوصا لجهة إشراف الأمم المتحدة على وقف إطلاق النار. هنا لن يستطيع النظام رشوة المراقبين الدوليين كما فعل مع المراقبين العرب، ومن غير المتوقع أن تكون تقاريرهم محابية للنظام، بل تتحلى بالموضوعية كما هو مأمول. غير أن نقطة ضعف هذا البند من المبادرة تتمثل في الفقرة الثانية منه والتي تنص على ” إنهاء استخدام الأسلحة الثقيلة ” داخل التجمعات السكنية، إذ أنها لا تشير إلى استخدام الأسلحة غير الثقيلة. ومع أنها تشير في الفقرة الثالثة منها إلى ضرورة التوصل إلى ” وقف دائم للعنف بكل أشكاله من كل الأطراف مع وجود آلية إشراف فعال للأمم المتحدة” غير أنها لا توضح ما هي هذه الآلية. والأنكى من ذلك أن ما جاء في البند الثاني من خطة كوفي عنان المشار إليه تتعارض مع ما جاء في البند الثالث منها والذي يتحدث عن ” وقف يومي للقتال لأسباب إنسانية” ، في المناطق ” المتضررة ” هذا يعني ببساطة أن لا وقف دائم للقتال في هذه المناطق والتي تشمل أغلبية مناطق سورية.
لقد تحدثت خطة جامعة الدول العربية الثانية عن إطلاق فوري لجميع المعتقلين على خلفية الأحداث التي جرت في سورية، أما خطة عنان فقد تحدثت فقط عن ” تكثيف وتيرة وحجم الإفراج عن الأشخاص المحتجزين تعسفياً، وبوجه خاص الفئات الضعيفة والشخصيات التي شاركت في أنشطة سلمية”، مما يثير تساؤلات كثيرة، من قبيل: من هم أولائك المحتجزين “تعسفياً”، ومن يحدد ذلك، ثم ما المقصود بالفئات ” الضعيفة “. لقد ترك النص للسلطة السورية الحرية كاملة في تفسير ما ورد في هذا البند من خطة عنان، أو في أفضل الحالات تركه مجالا لتأويلات مختلفة.
لقد تجاهلت خطة عنان المعتقلين من عناصر الجيش الحر والمسلحين الآخرين، وخلت تماما من ضرورة التحقيق في جرائم القتل والاغتصاب وتدمير الممتلكات أو سرقتها، أو التحقيق في مصير المفقودين وغيرها من القضايا التي أشارت إليها خطة الجامعة العربية. وحتى ما جاء في البند السادس منها والذي ينص على ” احترام حرية التجمع والتظاهر سلميا”، فقد تم تقييده بالحدود التي يكفلها القانون، ونحن نعلم أن القانون المعني هو القانون الذي أصدرته السلطة لتنظيم التظاهر السلمي، والذي يخولها عدم إجازة أية مظاهرة بحجج ترتئيها هي وليس غيرها.
لقد خلت خطة عنان من تحديد أية آجال زمنية لتنفيذها، مما يعطي للسلطة حيزا كبيرا للمماطلة والتهرب، ولا توضح أيضا كيف سوف يجري الحوار، وما الهدف منه. باختصار خطة عنان تحابي النظام على حساب الحراك الشعبي ومطالبه المشروعة، إنها ببساطة يمكن أن تنقذ النظام ولا تحقق الحد الأدنى من مطالب الشعب، إذا لم يتدخل المجتمع الدولي للضغط على السلطة السورية ويدعم الشعب السوري. ثمة خشية حقيقية ينبغي أن تأخذها المعارضة بالحسبان وهي أن يستغل النظام الخطة للالتفاف على مطالب الشعب المشروعة بالحرية والكرامة وبناء نظام ديمقراطي، لذلك ينبغي عليها المبادرة لتنسيق مواقفها ومواجهته في سياق المفاوضات ككتلة واحدة، وكذلك العمل على إعادة الحيوية للحركات الاحتجاجية السلمية تحت شعارات ويافطات وطنية جامعة.