ليلة في شهر آب ” بقلم : أ . خضير بشارات
كانت الأجواء حارة فنحن في شهر آب و الذي شمسه يشهد لها بالبنان لشدة حرارتها ، لا تهدأ النفوس و تقاوم النعاس المسيطر على العيون و الوجدان يتخلل ذاك الأحاديث التي تتجول في بساتين السياسة و النظم الاجتماعية و يدلي الحاضرون وجهات نظرهم المتقاربة في إطار ها العام و الوالد يحدق بكل ما يملك من قوة النظر و يقترب قليلا لكيلا تسهو كلمة و خاصة عندما يكون الحديث عن غزة و أقطاب الصراع فيها يستمع لكل أبنائه بنفس المسافة و يفكر و يكرر السؤال على أحد أبنائه أحيانا عدة مرات ليس لأنه لا يعرفه إنما ليؤكد وجهة نظر تلقاها من آخر، يشعل سيجارة الهيشي و يطلق لدخانه العنان و يتابعه بنظراته و سرعان ما يعود إلى دائرة النقاش الحاد حول الحرب على غزة و حالات المقاومة التي تحدث في الضفة و خاصة التي كانت في قرية طمون و التي لم يمض على استشهاد شبابها أسبوع ،
انتصف الليل و دخلت عقارب الساعة إلى يوم الثلاثاء العشرين من شهر آب و لا زالت الحرارة تتقد و ما بين اللحظة و الأخرى قد تأتي نسمة هواء تشفى الأجساد مما يقطر منها من حر و كلمات حرى ، بعد محاولات من الوالد أخيرا ركن إلى فراش النوم و كان قد سبقه ابو يوسف ، بنظرات محدقة في الليل البهيم أعطى محمد ان لا نوم داخل الغرفة التي سنصعد إليها بعد قليل ،و هي لا تقل حرارة عن الخزان و الجلوس أمامه بل أشد مقتا ، و دارت حلقة الحديث الذي لا ينتهي و لا نعرف متى كانت بدايته ، سنوات عجاف لا تعلق على أي من أيامها نصيحة أو فائدة أو حقيقة تتماشى مع الواقع الذي نعيشه، يزدردان الحديث على حرارة الغرفة و ضوئها بلا فائدة وكأنها عملية تكرار لهول المعاناة التي اجتاحت سعة المكان الذي يسكنون فيه ، يبحثون عن أمل للنجاة ، لا بداية للخيط الذي يكسر أعمارهم شيئا فشيئا على مهل يحرق سنوات هاماتهم ، كل قشة لطوق النجاة تأتي مكسورة قبل أن يمسكها صاحب القرار،
اطبقت العيون للنوم و قد تجاوزت الساعة الثانية صباحا أو ربما الثالثة ، استقر النوم ، و شيلت عن العقول الهموم و دخل الاثنان إلى الخلود و لكن سرعان ما تزلزلت أركان الغرفة و قام شبح الصحو من مرقده ، أصوات تملأ الحارة تنبئ بوجود جيش الاحتلال ، ألفاظ عبرية يتلفظ بها أحد الجيران ، تصفير ، ينادي على أخيه الأكبر سرعان ما ردد صوته على الدار الأخرى، نفثت أنفاس القهر و تحدث محمد بصوت أجش عن سوء معاملة الجار ، و ألقى إليه كيل من التهم و عبارات التقريع بل وصل به الأمر إلى طرده من الحارة لأنه أساء احترام الليل و ساكنيه ، فهو لا يحترم كبار السن و لا الأطفال و لا ممن يعانون من المرض فيكون الليل دواءهم، عادت الجلسة من جديد و لم تنعم العيون بالنوم إلا القليل لم يتجاوز الدقائق ،
رنت رسائل التلفون، لتأتي من عراق بورين التوجيهات التي تفضي على الاهتمام يالذات و عدم التحرك فالجيش يملأ القرية ، و بدأت أصوات الآليات تتقدم من عاطوف إلى طمون نحو طوباس ، و ترصد صفحات الاخبار المحلية عبر التلجرام تحركات العدو لحظة بلحظة ، يبدو أن هذا الصباح سيكون حارا كما الليل ، تتجمع الدوريات في مدخل بوابة عاطوف و يهدر صوتها على الشارع الالتفافي بجانب مسجد علي بن أبي طالب ، و تتجه إلى مدخل طمون الرئيسي، يتبادل الأخوان في هذه اللحظات تصرفات الاحتلال و الطرق التي يسلكها و يتحدثان و يسمع الجيران الكلام و الشتائم مما أدى إلى إرباك الناس الأبرياء و النيام ، هذه الظاهرة السلبية تسلكها العائلة منذ عقود حيث الأم التي كانت تزعج الآخرين بأصوات الأغاني عبر النهار الطويل و أحيانا تأخذ قطعا من الليل ، و كبر الأبناء على هذا الإرث السخيف إذ لا هدف منه إلا إزعاج الجيران و إلحاق الأذى بهم ، فمنهم العمال الذين ينامون مبكرا من تعب النهار و عمله ، لكن دون فائدة فالحديث معهم عبثيا ، يفقدون شخصيتهم و يعبرون عن كمالها بتلك التصرفات الغوغاء لا أكثر،
فجاء في هذا الصباح الابن الأصغر ليكمل النهج من خلق الفوضى بالصراخ و الحديث بالصوت العالي و الشتم بحجة الاحتلال و كأنه منصب نفسه وكيلا للمقاومة ، و هو في حقيقة الأمر لا يؤذي إلا الجيران و يلوث هدوء الليل أو يزيد من صخب النهار ،
اقتحم الجيش الصهيوني قرية طمون من محاورها المختلفة و واصلوا تقدم دباباتهم إلى طوباس التي دخلها أيضا من الجانب الآخر حيث تياسير و المعسكرات القريبة منها ، رتل من الآليات يتمحور في مناطق مختلفة في القرية و حارات المحافظة ، صوت الرصاص اعلن بوجود اشتباكات محتدمة بين العدو و الشباب المناضلين ، رائحة الدوريات تجوب شوارع القرية. انفجارات متتالية نسمع صداها عبر فضاء الإقليم، الأخبار تتوالى من خلال صفحات التواصل ، تقدم نحو حارة الزغايرة و يعيث الجيش بمحتويات الديوان ، يشعلون النار في المحلات القريبة منه ، إطلاق النار المتبادل يسري في البلدة كالهشيم المشتعل، طوق أمني في المنطقة ، يصدح صوت المؤذن إيذانا باقتراب صلاة الفجر ، تختلط التكبيرات مع صوت الانفجارات ، خرج الوالد إلى المسجد يتكئ على عصاه غير آبه بكل ضجيج الاحتلال، أنا اراقب عبر شباك الغرفة رغم انخفاض الرؤية فيها ، و ألملم الأخبار من صفحات التواصل و عبر التلجرام ، حيث صفحات طمون و طوباس و غيرهما ممن تتابع عن كثب ، تأتي الأخبار بطيئة و متابعة لما يجري في أزقة القرية بل المحافظة كلها ، أقيمت الصلاة لأداء فريضة صلاة الفجر و الدوريات تتنقل من شارع إلى آخره و من حارة إلى أخرى و دوي الانفجارات تملأ سماء البلدة ، يخرج شاب إلى المسجد ممتشقا الطريق داخل حارة دار أبي خضر إذ لا دوريات فيها و لا أصوات للانفجارات داخلها، و لكن الخطر يقترب منها فهي محاطة بالجيش و كشافات الجيبات تلوح فوقها ، في تلك الأثناء تتحرك سيارة المواطنين إذ يتوجهون إلى أعمالهم غير مهتمين بكل ما يجري ، يبث التلجرام توجه العدو و آلياته إلى منطقة المشماس ، و تفتيش المنازل و العبث بكل محتوياتها، إحراق المنازل و المحال المحيطة بديوان الزغايرة ، تشتعل النيران وهجها يملأ شاشات الأجهزة المتنقلة ، تدخل جرافات العدو بين الحارات تمزق الإسفلت تدمر كل البنية التحتية في أزقة البلد ، تجرف الشارع العام المؤدي إلى المدرسة الثانوية القديمة أمام محل ثلجي للحدادة ، تبادل لإطلاق النار بين المقاومين و الغزاة لكن لا إصابات في صفوف المواطنين حسبما تورد صفحات التواصل ، مداهمة المنازل أول البلد من الشارع الرئيسي، اعتقال الشابين الشقيقين مصعب و إبراهيم أبو طوس ، عاد العمال إلى منازلهم فهم لا يستطيعون التوجه إلى أماكن عملهم ، فقال الوالد بعدما عاد من الصلاة : رجع حسام عدت معه لا يتمكن من الذهاب إلى العمل لم تأت السيارة التي تقله ، يبدو الأمر صعبا داخل البلد ، أعد يوسف بريق الشاي و جلست العائلة تراقب و تشرب شاي الصباح ، لم ينال رضى الوالد ، يحتاج إلى سكر لينعدل طعمه ولكنه أعجب الجميع طعمه، أصوات الرصاص تسمع من قريب ، الانفجارات يزداد صداها و كأن الجيش في حارة الشواهين، فكل الأصوات تبدو هناك ، لا أحد يخرج من منزله ، قاربت الساعة إلى السادسة صباحا و لا زال الرصاص ينهمر ليشق شمس النهار و يزيل حلكة الليل و ظلامه ، كلما نقول هدأت البلد حنى تعاد أصوات الرصاص من جديد و تكون أقرب مما سبق على حارتنا ، و يختلط ذلك بالحديث فهو يرفض كل ما يحدث ، فهذه فوضى تقلق الأبرياء و تجعل الأطفال و الشباب ضحية لجيش لا يرحم و لا يعرف إلا لغة القتل و الدمار و شبابنا غير مؤهلين ولا مدربين لمواجهة هذا العدو فهم لا يملكون العدة و لا العتاد و لا يحظون بالتدريب اللازم لمثل هذه المواجهات ، فهم لم يعدوا أنفسهم جيدا ، و أعمالهم مهما تقدمت قاصرة و غير قادرة على تغيير الوضع الراهن فبالتالي نحن نقدم الشهداء و الجرحى و يقصف العدو المنشآت و يحرق كل ما يشك فيه و يدمر و يعتقل بلا ثمن لا نتائج واضحة لنضالات هذه المرحلة ،
يعطي التلجرام أوامره بانسحاب الجيش من طوباس و الشباب يقذفونه بوابل من العبوات و الرصاص الحي فيتوزعون على محاور المحافظة ، وكل حارة تسلم الأخرى لضرب العدو المنهزم و الخارج من الأرض الفلسطينية، فتياسير تستقبل الاحتلال بالعبوات الناسفة، ليخرج يجر أذياله منهزما إلى مراكزه المقامة على أرض الأغوار الفلسطينية، أما طمون فلا زال الاشتباك مستمرا ، إصابة أعلن عنها الفيس في حارة المشماس ، يمنع الجيش سيارات الإسعاف من دخول القرية ، و لا زالت النار تأكل المحال التجارية لا يستطيع الناس الوصول إليها فقد أعلن العدو أن طمون منطقة عسكرية ، فالحرب مشتعلة و الحركة ممنوعة و سيارات العدو تعيث فسادا ، و رجال المقاومة يطلقون رصاصاتهم في سماء الوطن تهيئة للنصر و احتفالا بخروج الاحتلال و طرده من القرية ، بان الخيط الأبيض و انكشف غطاء الليل و تتزاحم أشعة الشمس للميلاد ، فكان هذا شارة نصر و إيذانا لدحر الاحتلال و خروجه من المنطقة كليا كما بين ذلك التلجرام و عبر صفحت طمون الإخبارية ،
أصبحت القرية وادعة مطمئنة بعد أن غادرها الغزاة رغم مخلفاتهم البربرية من تدمير و حرق و اعتقال و لحسن حظها لا ينال شرف الشهادة أحد من أبنائها هذا اليوم ، اطلق الاحتلال سراح الشاب إبراهيم بعد تعرضه للضرب المبرح كما وحمله الإسعاف إلى المشفى لتضميد الجراح و بقي شقيقه مصعب مقيد اليدين و كشفت وسائل التواصل عن فتاة اعتقلها الاحتلال أثناء المداهمة و هي كما يبدو شقيقة الأسيرين ، فهذا عدو لا يميز بين رجل و فتاة أو بين شيخ كبير في السن و بين طفل لا يتجاوز سن البلوغ فالجميع مستهدف في قانون الغاب الذي يحكم به الاحتلال ،
ظل رصاص المقاومة يملأ فضاء القرية حتى اندحر الاحتلال إلى مشارف مستوطناته القريبة إلى المحافظة و بدأت الحياة رتابتها ، الموظف يخرج إلى مكان عمله ، أطفال يخرجون إلى شراء ما تحتاجه المنازل وقت الفطور ، و بعض الناس عادوا إلى نومهم ققد أطبق النعاس عيونهم فطال بهم السهر ، عبر صفحات التواصل ظهر حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال في أزقة القرية و حاراتها ، اجتمع الجيران لمواساة من احترقت محالهم التجارية، و عبروا عن سخطهم لما حدث فهي أعمال جبانة لا تنم إلا عن عصابة من اللصوص و قطاعي الطرق إنها عصابة الصهيونية ، التي تعمل ما بوسعها لإخافة المواطنين و ترهيبهم ، و هي لا تعرف أن سلوكها الهمجي و البربري ينمي روح الانتماء عند أبناء الشعب الفلسطيني، و يزيد من عنف الأجيال الصاعدة ،
و يظهر ذلك في المواجهات التي تندلع ما بين الفترة والأخرى مع عصابات الصهيونية فكل جيل جديد يكون أكثر حدة مما سبق و يكون أكثر قناعة بأن الحلول السلمية و التفاوضية ما هي إلا حبر على ورق ولا تخدم إلا مصالح الاحتلال، و يستخدمها العدو للمراوغة و لضرب النسيج الوطني الفلسطيني، فتقتنع الأجيال الفلسطينية بعبثية المفاوضات التي لا تحقق للشعب الفلسطيني إلا الخراب و الدمار عبر سنواتها الطوال،
حضرت أبواق الميكروفونات المختلفة و راحت تتحدث عما جرى داخل القرية ، أُحضرت المعدات لإعادة تنظيف الشوارع و إخماد ما تبقى من حرائق ، جاءت الجهات المختصة ليظهر صوت وطنيتها عبر الشاشات المختلفة ، لتندد بالاحتلال و جرائم عصابته المتوحشة ، أحداث تتكرر مأساتها كل يوم في أرجاء الوطن المختلفة في القرية و المدينة و المخيم و الريف يدخل الاحتلال بآلياته المدججة و عتاده المصفح إلى كل المناطق و يستبيح حرمات الاتفاقيات الموقعة غير مهتم بكل قرارات الدول الراعية للسلام ، يقتل ، و يحرق ، يعتقل ، و يدمر البنية التحتية، يضرب المعتقلين و ينكل بهم أمام أهاليهم ، يضرب المنازل بجام غضبه بحثا عن مناضلين، يرتكب الاحتلال أبشع المجازر كل يوم على مرأى دول مدعية حقوق الإنسان و الجمعيات التي ترعى الديمقراطية ،
من الملاحظ أن القرية فقدت في تلك الحالة الوطنية السائدة الآن تجمهر الناس بشكل كبير بعد خروج الاحتلال و كأن كثير منهم لا يعنيهم الأمر وهذا طبعا لا يأتي من فراغ فقد غابت الحالة الوطنية عند الكثير من الناس لأسباب كثيرة و متنوعة ، إذ من تتبع الانتفاضة الأولى يجد تجمهر الناس و تعاطفهم الجماهيري و العفوي وخروجهم إلى الشوارع و الحارات عندما يحدث أي اقتحام للقرية و تجول المسيرات جغرافية البلد و تعلو الهتافات المناقضة للاحتلال، أما اليوم ثلة قليلة ممن يجتمعون حول من يصيبهم جرح الاحتلال و يحل عليهم غضبه ، هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة و تبيان ،
إن الحالة الوطنية المنتشرة اليوم في ساحة الوطن تخلى عنها الكثير من المنتمين إلى الوطن ، فأصبحت في نظرهم فاقدة لكل القيم التي تنبعث من أجلها الثورات و الهبات الشعبية ضد الاحتلال و هذا له جذوره من الأسباب و المسببات التي يراها البعض ظاهرة جلية للعيان و تستحق الدراسة و المتابعة و التقييم ، و بالتالي معرفة المظاهر التي أدت إلى اتساع المسافة بين الثورة و الكوادر الفلسطينية بشتى مشاربهم الفكرية و الوظيفية و بذاك نستطيع أن نضع أمام المواطن الفلسطيني النتائج لكل ما يُلاحظ في الدراسة العلمية و العملية و التوثيقية لمراحل النضال الوطني على امتداد سنواته الطوال و على الرغم من تعدد أماكن الثورة في كل تواجد مناضليها ،
انهت طمون يوما من الألم و الحصار و المواجهة مع الاحتلال فهي تحتاج إلى الوقت لترميم ما خلفه الاحتلال المجرم ، لكنها وقفت صامدة تتحدى جبروت الصهيونية و مشت إلى الحياة من جديد ما تستطيع إلى ذلك سبيلا لا يعرقل مسارها الوطني ضال أو متربص فهي الأجدر على حمل الأمانة و تبيلغ وصايا الشهداء و الأسرى و الجرحى و المنكوبين في كل الأرض الفلسطينية، فستضمد جراحها و تعانق الهواء الطلق و ترنو إلى المستقبل نحو الدولة الفلسطينية و عاصمتها القدس الشريف الخالية من الاحتلال و براثنه و أذنابه .
20_8_2024م، الثلاثاء،44 8 :، مساء
شاهد أيضاً
نداء فلسطين يرحب بقرار الجنائية الدولية ويؤكد أن العبرة بالتنفيذ
شفا – رحب (نداء فلسطين) بإصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرتي اعتقال ضد رئيس وزراء الاحتلال …