2:34 مساءً / 16 سبتمبر، 2024
آخر الاخبار

ليلة في شهر آب ” بقلم : أ . خضير بشارات

ليلة في شهر آب ” بقلم : أ . خضير بشارات

كانت الأجواء حارة فنحن في شهر آب و الذي شمسه يشهد لها بالبنان لشدة حرارتها ، لا تهدأ النفوس و تقاوم النعاس المسيطر على العيون و الوجدان يتخلل ذاك الأحاديث التي تتجول في بساتين السياسة و النظم الاجتماعية و يدلي الحاضرون وجهات نظرهم المتقاربة في إطار ها العام و الوالد يحدق بكل ما يملك من قوة النظر و يقترب قليلا لكيلا تسهو كلمة و خاصة عندما يكون الحديث عن غزة و أقطاب الصراع فيها يستمع لكل أبنائه بنفس المسافة و يفكر و يكرر السؤال على أحد أبنائه أحيانا عدة مرات ليس لأنه لا يعرفه إنما ليؤكد وجهة نظر تلقاها من آخر، يشعل سيجارة الهيشي و يطلق لدخانه العنان و يتابعه بنظراته و سرعان ما يعود إلى دائرة النقاش الحاد حول الحرب على غزة و حالات المقاومة التي تحدث في الضفة و خاصة التي كانت في قرية طمون و التي لم يمض على استشهاد شبابها أسبوع ،
انتصف الليل و دخلت عقارب الساعة إلى يوم الثلاثاء العشرين من شهر آب و لا زالت الحرارة تتقد و ما بين اللحظة و الأخرى قد تأتي نسمة هواء تشفى الأجساد مما يقطر منها من حر و كلمات حرى ، بعد محاولات من الوالد أخيرا ركن إلى فراش النوم و كان قد سبقه ابو يوسف ، بنظرات محدقة في الليل البهيم أعطى محمد ان لا نوم داخل الغرفة التي سنصعد إليها بعد قليل ،و هي لا تقل حرارة عن الخزان و الجلوس أمامه بل أشد مقتا ، و دارت حلقة الحديث الذي لا ينتهي و لا نعرف متى كانت بدايته ، سنوات عجاف لا تعلق على أي من أيامها نصيحة أو فائدة أو حقيقة تتماشى مع الواقع الذي نعيشه، يزدردان الحديث على حرارة الغرفة و ضوئها بلا فائدة وكأنها عملية تكرار لهول المعاناة التي اجتاحت سعة المكان الذي يسكنون فيه ، يبحثون عن أمل للنجاة ، لا بداية للخيط الذي يكسر أعمارهم شيئا فشيئا على مهل يحرق سنوات هاماتهم ، كل قشة لطوق النجاة تأتي مكسورة قبل أن يمسكها صاحب القرار،
اطبقت العيون للنوم و قد تجاوزت الساعة الثانية صباحا أو ربما الثالثة ، استقر النوم ، و شيلت عن العقول الهموم و دخل الاثنان إلى الخلود و لكن سرعان ما تزلزلت أركان الغرفة و قام شبح الصحو من مرقده ، أصوات تملأ الحارة تنبئ بوجود جيش الاحتلال ، ألفاظ عبرية يتلفظ بها أحد الجيران ، تصفير ، ينادي على أخيه الأكبر سرعان ما ردد صوته على الدار الأخرى، نفثت أنفاس القهر و تحدث محمد بصوت أجش عن سوء معاملة الجار ، و ألقى إليه كيل من التهم و عبارات التقريع بل وصل به الأمر إلى طرده من الحارة لأنه أساء احترام الليل و ساكنيه ، فهو لا يحترم كبار السن و لا الأطفال و لا ممن يعانون من المرض فيكون الليل دواءهم، عادت الجلسة من جديد و لم تنعم العيون بالنوم إلا القليل لم يتجاوز الدقائق ،
رنت رسائل التلفون، لتأتي من عراق بورين التوجيهات التي تفضي على الاهتمام يالذات و عدم التحرك فالجيش يملأ القرية ، و بدأت أصوات الآليات تتقدم من عاطوف إلى طمون نحو طوباس ، و ترصد صفحات الاخبار المحلية عبر التلجرام تحركات العدو لحظة بلحظة ، يبدو أن هذا الصباح سيكون حارا كما الليل ، تتجمع الدوريات في مدخل بوابة عاطوف و يهدر صوتها على الشارع الالتفافي بجانب مسجد علي بن أبي طالب ، و تتجه إلى مدخل طمون الرئيسي، يتبادل الأخوان في هذه اللحظات تصرفات الاحتلال و الطرق التي يسلكها و يتحدثان و يسمع الجيران الكلام و الشتائم مما أدى إلى إرباك الناس الأبرياء و النيام ، هذه الظاهرة السلبية تسلكها العائلة منذ عقود حيث الأم التي كانت تزعج الآخرين بأصوات الأغاني عبر النهار الطويل و أحيانا تأخذ قطعا من الليل ، و كبر الأبناء على هذا الإرث السخيف إذ لا هدف منه إلا إزعاج الجيران و إلحاق الأذى بهم ، فمنهم العمال الذين ينامون مبكرا من تعب النهار و عمله ، لكن دون فائدة فالحديث معهم عبثيا ، يفقدون شخصيتهم و يعبرون عن كمالها بتلك التصرفات الغوغاء لا أكثر،
فجاء في هذا الصباح الابن الأصغر ليكمل النهج من خلق الفوضى بالصراخ و الحديث بالصوت العالي و الشتم بحجة الاحتلال و كأنه منصب نفسه وكيلا للمقاومة ، و هو في حقيقة الأمر لا يؤذي إلا الجيران و يلوث هدوء الليل أو يزيد من صخب النهار ،
اقتحم الجيش الصهيوني قرية طمون من محاورها المختلفة و واصلوا تقدم دباباتهم إلى طوباس التي دخلها أيضا من الجانب الآخر حيث تياسير و المعسكرات القريبة منها ، رتل من الآليات يتمحور في مناطق مختلفة في القرية و حارات المحافظة ، صوت الرصاص اعلن بوجود اشتباكات محتدمة بين العدو و الشباب المناضلين ، رائحة الدوريات تجوب شوارع القرية. انفجارات متتالية نسمع صداها عبر فضاء الإقليم، الأخبار تتوالى من خلال صفحات التواصل ، تقدم نحو حارة الزغايرة و يعيث الجيش بمحتويات الديوان ، يشعلون النار في المحلات القريبة منه ، إطلاق النار المتبادل يسري في البلدة كالهشيم المشتعل، طوق أمني في المنطقة ، يصدح صوت المؤذن إيذانا باقتراب صلاة الفجر ، تختلط التكبيرات مع صوت الانفجارات ، خرج الوالد إلى المسجد يتكئ على عصاه غير آبه بكل ضجيج الاحتلال، أنا اراقب عبر شباك الغرفة رغم انخفاض الرؤية فيها ، و ألملم الأخبار من صفحات التواصل و عبر التلجرام ، حيث صفحات طمون و طوباس و غيرهما ممن تتابع عن كثب ، تأتي الأخبار بطيئة و متابعة لما يجري في أزقة القرية بل المحافظة كلها ، أقيمت الصلاة لأداء فريضة صلاة الفجر و الدوريات تتنقل من شارع إلى آخره و من حارة إلى أخرى و دوي الانفجارات تملأ سماء البلدة ، يخرج شاب إلى المسجد ممتشقا الطريق داخل حارة دار أبي خضر إذ لا دوريات فيها و لا أصوات للانفجارات داخلها، و لكن الخطر يقترب منها فهي محاطة بالجيش و كشافات الجيبات تلوح فوقها ، في تلك الأثناء تتحرك سيارة المواطنين إذ يتوجهون إلى أعمالهم غير مهتمين بكل ما يجري ، يبث التلجرام توجه العدو و آلياته إلى منطقة المشماس ، و تفتيش المنازل و العبث بكل محتوياتها، إحراق المنازل و المحال المحيطة بديوان الزغايرة ، تشتعل النيران وهجها يملأ شاشات الأجهزة المتنقلة ، تدخل جرافات العدو بين الحارات تمزق الإسفلت تدمر كل البنية التحتية في أزقة البلد ، تجرف الشارع العام المؤدي إلى المدرسة الثانوية القديمة أمام محل ثلجي للحدادة ، تبادل لإطلاق النار بين المقاومين و الغزاة لكن لا إصابات في صفوف المواطنين حسبما تورد صفحات التواصل ، مداهمة المنازل أول البلد من الشارع الرئيسي، اعتقال الشابين الشقيقين مصعب و إبراهيم أبو طوس ، عاد العمال إلى منازلهم فهم لا يستطيعون التوجه إلى أماكن عملهم ، فقال الوالد بعدما عاد من الصلاة : رجع حسام عدت معه لا يتمكن من الذهاب إلى العمل لم تأت السيارة التي تقله ، يبدو الأمر صعبا داخل البلد ، أعد يوسف بريق الشاي و جلست العائلة تراقب و تشرب شاي الصباح ، لم ينال رضى الوالد ، يحتاج إلى سكر لينعدل طعمه ولكنه أعجب الجميع طعمه، أصوات الرصاص تسمع من قريب ، الانفجارات يزداد صداها و كأن الجيش في حارة الشواهين، فكل الأصوات تبدو هناك ، لا أحد يخرج من منزله ، قاربت الساعة إلى السادسة صباحا و لا زال الرصاص ينهمر ليشق شمس النهار و يزيل حلكة الليل و ظلامه ، كلما نقول هدأت البلد حنى تعاد أصوات الرصاص من جديد و تكون أقرب مما سبق على حارتنا ، و يختلط ذلك بالحديث فهو يرفض كل ما يحدث ، فهذه فوضى تقلق الأبرياء و تجعل الأطفال و الشباب ضحية لجيش لا يرحم و لا يعرف إلا لغة القتل و الدمار و شبابنا غير مؤهلين ولا مدربين لمواجهة هذا العدو فهم لا يملكون العدة و لا العتاد و لا يحظون بالتدريب اللازم لمثل هذه المواجهات ، فهم لم يعدوا أنفسهم جيدا ، و أعمالهم مهما تقدمت قاصرة و غير قادرة على تغيير الوضع الراهن فبالتالي نحن نقدم الشهداء و الجرحى و يقصف العدو المنشآت و يحرق كل ما يشك فيه و يدمر و يعتقل بلا ثمن لا نتائج واضحة لنضالات هذه المرحلة ،
يعطي التلجرام أوامره بانسحاب الجيش من طوباس و الشباب يقذفونه بوابل من العبوات و الرصاص الحي فيتوزعون على محاور المحافظة ، وكل حارة تسلم الأخرى لضرب العدو المنهزم و الخارج من الأرض الفلسطينية، فتياسير تستقبل الاحتلال بالعبوات الناسفة، ليخرج يجر أذياله منهزما إلى مراكزه المقامة على أرض الأغوار الفلسطينية، أما طمون فلا زال الاشتباك مستمرا ، إصابة أعلن عنها الفيس في حارة المشماس ، يمنع الجيش سيارات الإسعاف من دخول القرية ، و لا زالت النار تأكل المحال التجارية لا يستطيع الناس الوصول إليها فقد أعلن العدو أن طمون منطقة عسكرية ، فالحرب مشتعلة و الحركة ممنوعة و سيارات العدو تعيث فسادا ، و رجال المقاومة يطلقون رصاصاتهم في سماء الوطن تهيئة للنصر و احتفالا بخروج الاحتلال و طرده من القرية ، بان الخيط الأبيض و انكشف غطاء الليل و تتزاحم أشعة الشمس للميلاد ، فكان هذا شارة نصر و إيذانا لدحر الاحتلال و خروجه من المنطقة كليا كما بين ذلك التلجرام و عبر صفحت طمون الإخبارية ،
أصبحت القرية وادعة مطمئنة بعد أن غادرها الغزاة رغم مخلفاتهم البربرية من تدمير و حرق و اعتقال و لحسن حظها لا ينال شرف الشهادة أحد من أبنائها هذا اليوم ، اطلق الاحتلال سراح الشاب إبراهيم بعد تعرضه للضرب المبرح كما وحمله الإسعاف إلى المشفى لتضميد الجراح و بقي شقيقه مصعب مقيد اليدين و كشفت وسائل التواصل عن فتاة اعتقلها الاحتلال أثناء المداهمة و هي كما يبدو شقيقة الأسيرين ، فهذا عدو لا يميز بين رجل و فتاة أو بين شيخ كبير في السن و بين طفل لا يتجاوز سن البلوغ فالجميع مستهدف في قانون الغاب الذي يحكم به الاحتلال ،
ظل رصاص المقاومة يملأ فضاء القرية حتى اندحر الاحتلال إلى مشارف مستوطناته القريبة إلى المحافظة و بدأت الحياة رتابتها ، الموظف يخرج إلى مكان عمله ، أطفال يخرجون إلى شراء ما تحتاجه المنازل وقت الفطور ، و بعض الناس عادوا إلى نومهم ققد أطبق النعاس عيونهم فطال بهم السهر ، عبر صفحات التواصل ظهر حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال في أزقة القرية و حاراتها ، اجتمع الجيران لمواساة من احترقت محالهم التجارية، و عبروا عن سخطهم لما حدث فهي أعمال جبانة لا تنم إلا عن عصابة من اللصوص و قطاعي الطرق إنها عصابة الصهيونية ، التي تعمل ما بوسعها لإخافة المواطنين و ترهيبهم ، و هي لا تعرف أن سلوكها الهمجي و البربري ينمي روح الانتماء عند أبناء الشعب الفلسطيني، و يزيد من عنف الأجيال الصاعدة ،
و يظهر ذلك في المواجهات التي تندلع ما بين الفترة والأخرى مع عصابات الصهيونية فكل جيل جديد يكون أكثر حدة مما سبق و يكون أكثر قناعة بأن الحلول السلمية و التفاوضية ما هي إلا حبر على ورق ولا تخدم إلا مصالح الاحتلال، و يستخدمها العدو للمراوغة و لضرب النسيج الوطني الفلسطيني، فتقتنع الأجيال الفلسطينية بعبثية المفاوضات التي لا تحقق للشعب الفلسطيني إلا الخراب و الدمار عبر سنواتها الطوال،
حضرت أبواق الميكروفونات المختلفة و راحت تتحدث عما جرى داخل القرية ، أُحضرت المعدات لإعادة تنظيف الشوارع و إخماد ما تبقى من حرائق ، جاءت الجهات المختصة ليظهر صوت وطنيتها عبر الشاشات المختلفة ، لتندد بالاحتلال و جرائم عصابته المتوحشة ، أحداث تتكرر مأساتها كل يوم في أرجاء الوطن المختلفة في القرية و المدينة و المخيم و الريف يدخل الاحتلال بآلياته المدججة و عتاده المصفح إلى كل المناطق و يستبيح حرمات الاتفاقيات الموقعة غير مهتم بكل قرارات الدول الراعية للسلام ، يقتل ، و يحرق ، يعتقل ، و يدمر البنية التحتية، يضرب المعتقلين و ينكل بهم أمام أهاليهم ، يضرب المنازل بجام غضبه بحثا عن مناضلين، يرتكب الاحتلال أبشع المجازر كل يوم على مرأى دول مدعية حقوق الإنسان و الجمعيات التي ترعى الديمقراطية ،
من الملاحظ أن القرية فقدت في تلك الحالة الوطنية السائدة الآن تجمهر الناس بشكل كبير بعد خروج الاحتلال و كأن كثير منهم لا يعنيهم الأمر وهذا طبعا لا يأتي من فراغ فقد غابت الحالة الوطنية عند الكثير من الناس لأسباب كثيرة و متنوعة ، إذ من تتبع الانتفاضة الأولى يجد تجمهر الناس و تعاطفهم الجماهيري و العفوي وخروجهم إلى الشوارع و الحارات عندما يحدث أي اقتحام للقرية و تجول المسيرات جغرافية البلد و تعلو الهتافات المناقضة للاحتلال، أما اليوم ثلة قليلة ممن يجتمعون حول من يصيبهم جرح الاحتلال و يحل عليهم غضبه ، هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة و تبيان ،
إن الحالة الوطنية المنتشرة اليوم في ساحة الوطن تخلى عنها الكثير من المنتمين إلى الوطن ، فأصبحت في نظرهم فاقدة لكل القيم التي تنبعث من أجلها الثورات و الهبات الشعبية ضد الاحتلال و هذا له جذوره من الأسباب و المسببات التي يراها البعض ظاهرة جلية للعيان و تستحق الدراسة و المتابعة و التقييم ، و بالتالي معرفة المظاهر التي أدت إلى اتساع المسافة بين الثورة و الكوادر الفلسطينية بشتى مشاربهم الفكرية و الوظيفية و بذاك نستطيع أن نضع أمام المواطن الفلسطيني النتائج لكل ما يُلاحظ في الدراسة العلمية و العملية و التوثيقية لمراحل النضال الوطني على امتداد سنواته الطوال و على الرغم من تعدد أماكن الثورة في كل تواجد مناضليها ،
انهت طمون يوما من الألم و الحصار و المواجهة مع الاحتلال فهي تحتاج إلى الوقت لترميم ما خلفه الاحتلال المجرم ، لكنها وقفت صامدة تتحدى جبروت الصهيونية و مشت إلى الحياة من جديد ما تستطيع إلى ذلك سبيلا لا يعرقل مسارها الوطني ضال أو متربص فهي الأجدر على حمل الأمانة و تبيلغ وصايا الشهداء و الأسرى و الجرحى و المنكوبين في كل الأرض الفلسطينية، فستضمد جراحها و تعانق الهواء الطلق و ترنو إلى المستقبل نحو الدولة الفلسطينية و عاصمتها القدس الشريف الخالية من الاحتلال و براثنه و أذنابه .
20_8_2024م، الثلاثاء،44 8 :، مساء

شاهد أيضاً

وزارة شؤون المرأة والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية يوقعان مذكرة تعاون حول تعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة

وزارة شؤون المرأة والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية يوقعان مذكرة تعاون حول تعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة

شفا – وقعت وزارة شؤون المرأة ممثلة بمعالي الوزيرة منى الخليلي، والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية …