شفا – وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مؤتمر صحافي بالقدس ليلة الاثنين – الثلاثاء، رسائل كثيرة، بعضها داخلي ضد خصومه السياسيين، وبعضها خارجي يتعلق بالانتقادات الأميركية لسياساته. فما أبرز الرسائل التي وجهها نتنياهو في كلمته النارية؟
لم يكن خطاب نتنياهو في الواقع مخصصاً لمحور فيلادلفيا بين غزة ومصر، رغم أنه كرّس له معظم كلامه. في البداية ساد اعتقاد بأنه موجّه إلى وزير دفاعه، يوآف غالانت، ورفاقه في المؤسسة العسكرية والأمنية. ففي كلماته، برزت سهام سامة تتحدث عن «أولئك الذين يعدون أنفسهم خبراء في الأمن ويتحدثون بصلف عن أن محور فيلادلفيا ليس ضرورة أمنية». وقد أجرى نتنياهو مع هؤلاء – من دون تسميتهم – جردة حساب طويلة، عاد بها إلى تاريخ الإخفاقات في المؤسسة الأمنية، مشيراً إلى أن الذين قالوا إن الانسحاب من لبنان سيحقق الأمن لشمال إسرائيل جاءهم هجوم «حزب الله» في سنة 2006 ليثبت خطأهم، كما أن الذين قالوا إن الانسحاب من غزة سيأتي بالأمن وجدوا أنفسهم الآن أمام «كارثة 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، في حين أن الذين قالوا إن اتفاقات أوسلو ستحقق السلام وجدوا أن هذه الاتفاقيات أتت بالإرهاب.
إضافة إلى الرسائل الداخلية، هناك من عدّ خطاب نتنياهو موجهاً في شكل مباشر ضد الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كان قد صرّح قبل ذلك بساعات قليلة بأن التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن تبادل الأسرى بين حركة «حماس» وإسرائيل «بات قريباً جداً»، مضيفاً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو «لا يفعل ما يكفي» من أجل التوصّل إلى ذلك.
ورد نتنياهو بالقول إنه لم يسمع بايدن، لكنه سمع جيداً عدداً كبيراً من المسؤولين الأميركيين الذين أشادوا به على ما أبداه من مواقف إيجابية في المفاوضات. واقتبس فعلاً أقوال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ونائب مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ديفيد كوهين وغيرهما من المسؤولين الذين امتدحوا نتنياهو على مواقفه «الإيجابية».
إلا أن شبكة «سي إن إن» رأت أن نتنياهو وجّه خطابه إلى الدوحة. ففي اليوم نفسه، أي يوم الاثنين، أرسل رئيس الموساد ديفيد برنياع، الذي يترأس فريق التفاوض، إلى قطر لإجراء محادثات سرية حول النص الذي ينوي الأميركيون وضعه مقترحاً نهائياً للصفقة. ويقول منتقدون لنتنياهو إنه يريد إفشال المقترح من خلال شروطه، بما في ذلك إصراره على بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا، وهو أمر تتمسك مصر برفضه، وكذلك «حماس».
ولا يستبعد كثير من الإسرائيليين أن يكون نتنياهو استهدف بخطابه إجهاض مقترح بايدن، على طريقة «الحرب الاستباقية». فقبل أن يهاجمه بايدن ومبعوثوه على إفشاله الصفقة بسبب موقفه من محور فيلادلفيا، شن هو الهجوم الاستباقي ضد من يستخف بأهمية هذا المحور في الحرب مع «حماس». وقال: «السيطرة على محور فيلادلفيا تضمن عدم تهريب المخطوفين إلى خارج غزة». وتابع: «محور الشر يحتاج إلى محور فيلادلفيا، ولهذا السبب تجب علينا السيطرة عليه».
ويبدو أن نتنياهو يحاول الآن أن يضع بايدن في زاوية، فإذا أراد أن يطرح خطة جسر للهوة بين الطرفين، ويريد تأييد نتنياهو لها، فيجب أن تكون لصالح إسرائيل، وتتضمن استجابة لشروطه في بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا، فإذا أصرت «حماس» على موقفها برفض المقترح فسوف تكون هي المتهمة بإفشال المفاوضات. وإذا فشلت المفاوضات، وبدا الرئيس بايدن ضعيفاً وغير قادر على التأثير على إسرائيل، فإن نتنياهو يسجّل لنفسه نقاطاً بيضاء في سجلات الحزب «الجمهوري» الأميركي، ويكسب بذلك ود مرشحه للرئاسة دونالد ترمب.
وعلى الصعيد الداخلي، جاء خطاب نتنياهو كأنه عبوة ناسفة تستهدف خصومه في سدة الحكم، وهم: وزير الدفاع غالانت، ورئيس الموساد برنياع، ورئيس الشاباك (جهاز المخابرات العامة)، رونين بار، ورئيس أركان الجيش هيرتسي هليفي. لقد هاجمهم نتنياهو في خطابه حزمة واحدة، من دون أن يسميهم. وتقول أوساط سياسية إنه يريد أن يدفعهم إلى الاستقالة، جماعة أو فرادى. فقد باتوا يشكلون عقبة كأداء في طريقه. فهو يتمسك بمحور فيلادلفيا ومحور نتساريم (الذي يشطر غزة إلى شطرين) بهدف الحفاظ على أمن إسرائيل، كما يقول. في المقابل، يعد خصومه، وهم من أبرز المسؤولين الذين يضعون الخطط الأمنية والاستراتيجية، أن هناك حلولاً أخرى للأمن من دون التمسك بما يريده نتنياهو بخصوص محوري فيلادلفيا ونتساريم.
ومعلوم أن نتنياهو جرّب إقالة غالانت في السابق، في شهر مارس (آذار) 2023 وفشل. وقتها خرج مئات آلاف المواطنين إلى الشوارع فور إعلان قراره، فارتدع وتراجع. وفي نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي، بعدما أنهى خطابه الشهير في الكونغرس الأميركي، ورأى النواب يقفون على أقدامهم ويصفقون له أكثر من 70 مرة، راح يخطط لإقالة خصومه (غالانت وبرنياع وبار وهليفي)، وعقد جلسة لهذا الغرض وهو في واشنطن. لكن هؤلاء الأربعة، كانوا يشرفون في تلك اللحظات على اغتيال قيادي «حزب الله» فؤاد شكر في ضواحي بيروت، وزعيم «حماس» إسماعيل هنية في قلب طهران.
وبما أن الجمهور الإسرائيلي يحب «الأكشن»، كما يبدو، فقد رأى في هؤلاء أبطالاً وأن الوقت ليس وقت إقالتهم. ورغم ذلك، يبدو أن هناك مجموعة من المحيطين بنتنياهو تحاول إقناعه بأن هذا هو الوقت لإقالتهم. ويقول هؤلاء له إن الجمهور الإسرائيلي اليوم مختلف عن جمهور مارس 2023 ولن يخرج بحجم كبير إلى الشارع، احتجاجاً على خطوة مثل هذه. ووفق هؤلاء، إذا أقال نتنياهو الجنرالات الأربعة، فسينظر إليه على أنه شجاع وسوف يستطيع تعيين بدائل لهم من الجنرالات المنضبطين الذين يحسبون ألف حساب للقيادة السياسية. وهكذا فعل وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، عندما عيّن مفتشاً عاماً للشرطة ومديراً عاماً لمصلحة السجون من الموالين له.
لكن نتنياهو لا يسير بحسب نصيحة المحيطين به، إذ يعد أن لديه طريقة أخرى، وهي دفعهم إلى الاستقالة بدل أن يقوم هو بإقالتهم. ويبدو أن هذا هو هدف مهاجمته لهم الآن.
وفي كل الأحوال، يرى سياسيون أن نتنياهو بات أسيراً بأيدي الوزراء المتطرفين في حكومته وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما سارعا إلى مباركة خطابه. ويعرف هؤلاء بالطبع أن نتنياهو يعتمد عليهم للبقاء رئيساً للحكومة، وهو منصب يسمح له بالتأثير على احتمالات محاكمته في قضايا الفساد التي يواجهها، كما يسمح له بمنع تشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات 7 أكتوبر.