حملت أمي بمهارة فائقة حزمة كبيرة من الحطب، و رمتها فوق ظهري لآخذها إلى المنزل. لم أستطع التحرك فالحزمة كانت ثقيلة جدا. عالجتني أمي بركلة على مؤخرتي لتستحثني على الإسراع. طرت خطوتين إلى الأمام، فركلتني ركلة أخرى كانت كفيلة بأن تجعلني أسرع بدون توقف. كانت النساء اللائي بالحقل ينظرن إلي بإشفاق، لكن و لا واحدة منهن تجرأت على لوم أمي لسوء معاملتها لي، لأنهن يعرفن طبعها الشرس و يخشين من تهديداتها، لكن أكثر شيء يخشينه جمالها الذي يسلب عقول رجال القرية… و كانت أمي إذا استفزتها امرأة تغري زوجها، فيهجر الرجل المرأة ليصبح عبدا لها. غير أن أمي لم تكن تحب من بين الرجال إلا أبي، رغم أنه لم يكن يأتي إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل. وصلت إلى المنزل، أنزلت حزمة الحطب من ظهري و أسرعت إلى الحقل لأحمل حزمة أخرى. بقيت على هذه الحال حتى آذنت الشمس بالغروب فرجعت مع أمي حاملة آخر حزمة من الحطب، بينما أمي كانت تحمل سوطا في يدها و كان يحلو لها أن تضربني به بين الفينة و الأخرى. وصلنا إلى المنزل وضعت الحزمة و اتجهت إلى ركني أطلب القليل من الراحة بعدما أمضيت النهار كله في كر و فر ما بين الحقل و المنزل. دفعت لي أمي بكأس من الشاي و كسرة من خبز هي كل عشائي لهذه الليلة. أكلت بنهم و طلبت المزيد فرمتني بقطعة أخرى من الخبز وهي تقول لي: إنك تأكلين أكثر من البقرة التي في الزريبة. لم أكثرت بكلامها فهذه الليلة سيحدث أمر مهم، و أنا أنتظر مجيء أبي بشوق كبير. بدت أمي بكامل زينتها، فقد غيرت الملابس المتسخة التي كانت ترتديها بملابس أنيقة و وضعت حليها. شيء واحد لم تغيره أمي كعادتها: الحذاء الطويل. لقد كانت أمي لا تزيل هذا الحذاء من رجليها إلا مرة واحدة في السنة. تنام به و ترغمني على أن أنام أنا أيضا و الحذاء في رجلي، فكنا كلانا لا نغير الحذاء إلا مرة واحدة في السنة، و ذلك حين يأتي أبي بحذاء جديد لأمي. فكانت أمي تترك حذاءها القديم لي، و تلبس حذاءها الجديد. لا تستغربوا إذا قلت لكم إنني لم يسبق لي و لو مرة واحدة أن رأيت رجلي أمي، كنت أتصورهما متشققتين و كنت أقول في نفسي: ربما لهذا السبب تنام و الحذاء في رجليها. كان النوم يغلبني قبل أن يأتي أبي، لكن هذه الليلة رغم إحساسي بالإرهاق صممت على أن أبقى مستيقظة حتى يأتي. التفتت لي أمي و كأنها قد قرأت ما يدور برأسي، و قالت لي: أما زلت مستيقظة؟ اغمضي عينيك و نامي، و إلا سأطردك إلى الزريبة لتنامي مع البهائم. أغمضت عيني بسرعة مخافة أن تنفذ تهديدها فأنام قرب البغل الذي أتى به أبي البارحة بعد منتصف الليل. أغمضت عيني و أنا مصممة على ألا أستسلم للنوم إلا بعد أن أرى أمي تضع رجليها في الحذاء الجديد. سمعت صوت باب يفتح: إنه أبي، أتى متأبطا الحذاء الجديد أخذته أمي بفرح عارم و بعد تناول العشاء التفتت إلي أمي لتتأكد من أنني نمت، و لما ورأتني مغمضة العينين، بدأت تزيل الحذاء القديم لتلبس حذاءها الجديد. فتحت عيني بكل حيطة، و أنا أخاطب نفسي: الليلة سأرى هاذين الرجلين اللذين تخفيهما أمي. أزالت أمي الحذاء، فخرجت من فمي صرخة مدوية و قفزت من مكاني لا ألوي على شيء. لقد كان رجلا أمي شبيهين بقوائم العنزة. جرت خلفي لتقبض علي… رفعت عيني إلى السماء، و صرخت بكل قوتي يارب أغثني..أغثني. تخطيت عتبة منزلنا، و فجأة تحول ظلام الليل إلى وضوح النهار. التفت ورائي، فإذا بمنزلنا قد استحال بما فيه إلى أطلال.. و إذا بطفولتي حفنة من رماد.