طمون و مشهد المقاومة الذي لا يغيب، بقلم : أ. خضير بشارات
وتستمر الحرب على الوطن بكل جغرافيته، فيزداد آب لهبا وشواظا، فتختلط الحمم الصيفية و نيران الاحتلال ، فيعلو السواد على فضاءات السماء الرحب، لا يميز العدو بين بلد أو قرية أو مخيم، فيجناح المدن و ينصب الحواجز و يرمي الموت من طائراته المقاتلة التي تملأ أجواء فلسطين من شمالها إلى الجنوب و من شرقها إلى غربها و تدخل الصواريخ إلى كل أحيائها و حاراتها فتضرب الشوارع و المراكز و المؤسسات و تطول كل من يقع تحت غضب ساسة العدو و حقده فيرتقي الشهداء سيلا من الملح الذي يطيِّب طعم الحياة و ينشر حلاوة النصر و الحرية، توغل في الخليل، شهداء في رام الله، اجتياح لمدينة جنين و كل ريفها ، توغل في مناطق الضفة الغربية ، لا يراعي العدو حرمات المناطق ذات السيادة الوطنية، و لا يتقاعسون من التقدم ليلا آو نهارا إلى أزقة الوطن في كل أرجائه و مدنه و قرأه.
في عتمات الليل نصحو على أصوات القنابل و شعاعات الدبابات، صوت الآليات يزعج الأسفلت و يرعب الأطفال و يحذر المقاتلين فيأخذوا مواقعهم البطولية ، وأحيانا كثيرة يباغت الاحتلال الليل و يدخل مع ظلمته مع خفافيشه المنتشرة بين الهواء و يعيث الفساد و يطلق رصاصه الغادر و يحطم المنازل و يرتكب المجازر بوحداته السرية التي سرعان ما ينتشر الجيش ليحمي فرقه المتمركزة فوق الأبنية و بين المنازل لقنص الشباب و كل من يصل إلى رصاصهم.
طمون جزء من حكاية هذا الوطن الجريح، فهي تأبى إلا أن تسجل أسماء أبنائها في سجل الخالدين، و إن تمشي في مواكب التاريخ المجيد ، كيف لا و هي أغنية سردية لجيل بعد جيل ؟ ، ينحت الشباب اسمها في أكف المناضلين الرافضين للاحتلال ، الشباب الذين يدركون حجم المعاناة التي تقع على هذه الجغرافية الوطنية ممن اغتصبوا الأرض و استوطنوا فيها بقوة السلاح و بكثرة القوانين الدولية التي تفسح المجال للتغول الصهيوني ،فهي تناضل و تقاتل جنبا إلى جنب مع أخواتها لدحر الاحتلال و نيل الحرية من بين أنيابه ، إذ أنها حبة من خرزات العقد التي تتعانق فبما بينها لنكون طوق النجاة من هذا العدو المجرم و الفاشي. و تشكل لبنة مهمة من لبنات الوطن في الدفاع و المواجهة و مقارعة الاستيطان و تغول الحكومات الصهيونية المتعاقبة.
ففي صباح الرابع عشر من آب اللهاب حيث النوم يفارق قسمات الوجوه منذ شهور و الكل يتابع عن كثب و يتفخص كل شبكات الأخبار المحلية و العربية و العالمية لمتابعة ما يجري في الجزء الآخر من الوطن إنها غزة ذات الجرح النازف دما و ألما و حرمانا فهي الوحيدة التي فقدت كل ما تملك دون أن ينظر إليها احد من رعاة القوم أصحاب السيادة و المعالي ،
مع نسمات الهواء الصباحي حيث تختلط روائحه مع صيحات و تكبيرات المساجد و يستعد أهل القرية لفتح يومهم بالصلاة و تناول آيات رزقهم المختلفة و إذ بالأخبار تأتي عبر محطات الأخبار المتنوعة و عبر صفحات التواصل الاجتماعي مسرعة كالنار التي تأكل الهشيم ، يقتحم جنود العصابات الصهيونية مدينة طوباس ، يدخلوها من كل المحاور من تياسير و عبر قرية عاطوف ، تزدرد الدبابات الطرق الترابية و المعبدة تتقدمها الجرافات ذات اللون السكني و النمر السوداء، عملية توغل للجو بالطائرات الحربية و الزناتة ترصد تراقب و تتابع كل الحركات على الأرض و مباشرة تعطي أوامرها للوحدات الخاصة و القناصة ، تفرغ الحارات من أهلها أمام الدبابات ، لم يمض الوقت طويلا ، و لم تأتي أشعل شمس الصباح حنى كانت طمون ساحة حرب كطوباس و مخيم الفارغة و كل الطرق الواصل بينها أصبحت تئن من ثقل الأغراب فهي ترفضهم و تستثقل أصواتهم فكيف ببطشهم و بآلاتهم التي تحمل شتى الغذابات و الآلام بين حديدها،
لم تفارق الأصابع الأجهزة ولا العيون تشطح بنظراتها بل بقيت تحدق و تتابع كل ما يجري عبر المنصات المختلفة ، يفتح الناس المواقع في اللحظة مرات و مرات لعل هناك ما يطمئن النفوس أو يكشف ما هو قادم ، تكثر الاتصالات بين الأهل و الجيران و الأصدقاء لمتابعة أدق التفاصيل ، كل ذلك الحرص من الأبرياء على سلامة القرية لا يمنع عصابات الاحتلال من شن هجومها و إطلاق الرصاص و تتبع الأطفال و النساء و الرجال، حرب حقيقية تدور في القرية ، صوت الرصاص يملأ ساحاتها ، الطيران الحربي ينتشر في سمائها و برها و يلوث هواءها و ماءها ، تصدح حجارة المنازل في وجه الغاصبين و ترفض أزقة القرية التماثيل أمام الواقع الذي يريدون فرضه على أصحابها ، كل مكوناتها تقف تقاتل ، الشجر و طاحونة القرية القديمة و قباب حاراتها العتيقة و عقلة شيوخها الكبار تقف تواجه آلة الحرب الحديثة، مع تقدم إنبلاج ضوء الصباح تقترب الأخبار من منصات التلجرام و صفحات الفيس ، إصابات منها الخطيرة و منها الطفيفة، و العدو لا زال يرمي حكمه ناره من المسيرات على كل المحافظة، تتمركز الآليات على مفرق طمون ، و تتسع رقعة المواجهة لتصل إلى شارع سيريس ، و الثغرة ، انفجارات متتالية تضرب الدبابات المقتحمة، و رصاص العدو و صواريخه تضرب الأبرياء و المقاومين ، شهيدا تزف مدينة طوباس يترجل مع صيحات الشمس الأولى، و آخر ينجو من ضربات العدو يختفي بين المنازل و يذوب حقد الاحتلال عبر الهواء الطلق بين الأزقة هذا ما اظهرته شاشات الكاميرات المختلفة ، يمنع العدو سيارات الإسعاف من الوصول إلى مكان الانفجار الذي أصاب مجموعة شباب داخل قرية طمون ، الدماء تعطر الأرض و تملأ الصور كل وسائل التواصل فيزيد الناس شوقا للمتابعة ، تتوالى الدبابات الاقتحام من كل المحاور من عاطوف من معسكرات العدو المتاخمة على أرض تياسير ، تعزيزات في الجيش و الطائرات، و يشتد القتال بين ثلة آمنت بعقيدة الدفاع عن الوطن و بين عصابات أقنعها الاستعمار بدولتهم الحديثة على الأرض التي سلبوها بقوة السلاح و عربدة العصابات الصهيونية،
يملأ الخبر صفحات الصباح استشهاد مجموعة من الشباب في إحدى حارات القرية و يتقدم العدو لينكل بهم و ينهال عليهم بالرصاص بعدما مزقت الصواريخ
أجساد هم ، لم تعرف هوياتهم بداية الأمر حتى دخل ساعة الضحى من يوم الأربعاء و بدأت تتناقل وسائل التواصل الاسم الأول شاب يافع لم تكتمل زهرة شبابه بعد، لازال الاحتلال يمنع وصول الإسعاف، و جنود الاحتلال تعرقل حياة الناس و أقيمت النقاط على مفارز المحافظة و تقطعت سبل الحياة، صورة أحد المصابين ملقى على الأرض ينزف دما و تنزف هي ألما و شوقا ، دب صوت الحزن داخل المساجد في كل المحافظة و صدحت بالنفير و المواجهة، يوم عصيب أصاب المحافظة، اربعة شهداء ارتقوا ، توالت اسماءهم فإذا بهم فتية مزقت عصابات الموت اجسادهم الطربة الطاهرة ، فلم تقس أحلامهم بعد ، حاولت العصابات أن تنهي طموحاتهم ، لكنها لا تدرك أنهم ترجلوا شهداء عبر مسيرة النصر و التحرير.
استمر العدوان لساعات الظهيرة ، تملأ روائح عسكرته هواء و أجواء المحافظة ، و أنسحب أخيرا يجر أذياله التي قطعتها الأيادي الحرة بضرباتها النبيلة، يحمل آلياته التي دمرتها شوارع المحافظة و أزقتها الوطنية ، تلقوا درسا صعبا من المواجهة ، و بات لديهم أن الأمر صار قريبا من حتمية اندحارهم عن الأرض المباركة ، و أن دخولها ليس بتلك السهولة التي يريدونها آو يعتقدونها.
خلفت العصابة داخل القرية الشهداء و الجرحى و الحزن و الألم إضافة إلى تدمير البنية التحتية في جغرافية المحافظة ، شوهت الطرقات ، و اندثرت بقايا ادواتهم العسكرية بين حارات القرية مما لوث طبيعة نقائها و غير لون صباحاتها الجميلة ، و أوقفت ساعة الزمن اليومي داخل المؤسسات المختلفة ، إنه العدو الذي لا يتواتى في القضاء على رتابة حياتنا و لكن أنى له ذلك أمام صمود الشعب الفلسطيني و تمسكه بحق تقرير المصير و نيل الاستقلال و الحرية من مخال هذا العدو الذي لا يملك أدنى مقومات الإنسانية.
ما أشبه اليوم بالأمس، يا طمون ، عصابات الغرباء تسير في الطرقات ، شباب يواجهون الموت ببراءتهم و حجارتهم الإيمانية ، يتصدون ، لا يهابون أرتال المدرعات ، لا يهربون، لا يعرفون الخوف أو الجبن. فتية أشداء يحملون شارة النصر بين أكفهم ، و يمشون إلى ساحة الوغى بشجاعة و بإيمان مطلق بحتمية إنهاء الاحتلال و طرده ، لم تقبل طمون أن تدوسها أقدام الغزاة و اقزام التاريخ فتهب للمقارعة و المواجهة في كل حين ، كلما تتقدم نحوها زمرة الصهيونية ، فالتاريخ حافل بقصص المواجهة و الدفاع عن الأرض و القضية و التي آخرها صباح اليوم حيث الشهداء و الجرحى و المعاناة و أنات الأسرى و صراخ النساء و دموع الأقارب و الأصدقاء و المنتمين لهذه القضية ، و ساد الحزن في النفوس ، و أغلقت الحياة أبوابها داحل القرية بل المحافظة كلها و الوطن بمحافظاته و مخيماته و ريفه و مدنه ،
لله درك يا طمون وأنت تودعين ثلة من الشهداء ،و ترسمين خريطة الحاضر بمداد ماضيك التليد ، و عيونك تغمرها الدموع ، و تزف شوارعك اليتيمة روائح الشهداء و تتصبر مآذنك على بعد الجثامين التي سرقتها عصابة الموت و القهر الصهيونية فهي لم تكتف برميهم بجام غضبها و إنما تريد أن تقتل الأمهات و الأباء عندما تمنعهم من تشيع أبنائهم إلى مثواهم الأخير بمواكب تليق بالشهادة و الشهداء .