زعيم السلام، بقلم : شروق أحمد
“السلام لنا جميعا، على الأرض العربية وفي إسرائيل ، وفي كل مكان من أرض هذا العالم الكبير، المعقَّد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادَّة، المهدَّد بين الحين والحين بالحروب المدمِّرة، تلك التي يصنعها الإنسان، ليقضي بها على أخيه الإنسان. وفي النهاية، وبين أنقاض ما بنَى الإنسان، وبين أشلاء الضحايا من بنِي الإنسان، فلا غالب ولا مغلوب، بل إنَّ المغلوب الحقيقي دائما هو الإنسان، أرقى ما خلقَّه الله. الإنسان الذي خلقه الله، كما يقول غاندي، قدّيس السلام، “لكي يسعى على قَدَميه، يبني الحياة، ويعبد الله”. محمد أنور السادات – الكنيسيت الإسرائيلي
في كل مرة تراودني فكرة السلام في الشرق الأوسط لا أرى امامي سواء رجل واحد أسمه محمد أنور السادات، لا أعلم لماذا، ولكن صورته التي لا تفارق خيالي هي نزوله من باب الطيارة في مطار بن غوريون في إسرائيل، الرجل وفي ذلك الوقت لم يدع غروره مثل الذي سبقه أو الزعماء الذين سبقوه بأخذه رهينة الانتصارات الوهمية التي لم تأتي منها سواء الخراب والدمار والدم، ومازلنا ندفع الثمن حتى يومنا هذا، وماذا استفدنا من تلك الانتصارات الوهمية غير الذل والفقر والأمية التي تفشت في الوطن العربي خصوصاً في السنوات القليلة الماضية لأن الأمية ليست فقط بالقراءة أو التعليم الأمية هي أمية العقل والروح، ولماذا لم تخلق الأمة العربية رجل آخر مثل السادات لكي يتحدى كل العقول الواهمة والديماغوجية، أعتقد من منظوري الشخصي أن جميع الزعماء العرب يخافون من مصير السادات.
في أحدى الليالي أنا والعائلة كنا نجلس نستمع إلى أغاني افلام الأبيض والأسود وبالصدفة وأنا أبحث عن أغنية ظهر لي فيديو عنوانه “استقبال الرئيس السادات في إسرائيل” ومن عشقي لهذا الرجل القوي فتحت الفيديو إذا بي أرى الجموع التي كانت تنتظر هذا الرجل العربي الذي هو وحده هزمهم بدون عنتريات ولا صفاقة سياسية وإذ المذيع يعلن وصول الطائرة الرئاسية إلى مطار بن غوريون في مقدمة مستقبليه رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن، ورئيس الكنيسيت الإسرائيلي ورئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، ورؤساء وزراء سابقين منهم جولدا مائي، وغيرهم من المسؤولين ينتظرون أكثر من ساعة فقط وصول رئيس عربي، أتمنى إلى من سيقرأ هذا المقال أن يذهب ويشاهد الفيديو وبدون حكم مسبق، منظر انتظار الحشود لرجل واحد، وعند نزوله على سلم الطائرة وبعد فترة انتظار طويل أطل الرئيس من باب الطائرة منظر تقشعر له الأبدان، كيف كان بهذه القوة والتحدي في ذلك الوقت الذي لم يكن يجرأ رجل أو قائد عربي واحد على ذكر إسرائيل ولو عن طريق الخطأ، كيف كان ينظر إليه الجميع وهو يسلم على النخب التي جاءت فقط لرؤيته؟
الرجل القوي لا يحتاج موافقة أحد رغم مقاطعة الوطن العربي بأسره له، ورغم كل التحديات كان زعيم المرحلة وكان على قدر من المسؤولية في ذلك الوقت، لم يدع الأصوات الشاذة أن تعرقل مسيرة السلام وقد ذهب إلى إسرائيل وهو مدجج بالانتصار وقبل كل ذلك الثقة بالنفس والثقة التي تجعله رجل دولة على قدر مسؤولية الدولة التي يحكمها لا ينظر إلى السياسة من موقع رجل عادي أو اخذته عنجهية الانتصار، ورغم كل شيء مد يد السلام للجميع في إسرائيل بدون استثناء، وقد ذهب إلى إسرائيل في عهد أكثر رئيس وزراء متطرف في ذلك العصر وهو مناحيم بيغن ولم يولي انتباه الشارع ولم يتردد في زيارته في ذلك العهد لأنه كان على قدر من المسؤولية التاريخية والتي بسببها تمكن من تجنيب بلاده حروب وقتل ودمار لمدة ما يقارب الخمسون عاماً، بسببه عاشت المنطقة في رخاء وهدوء لفترة طويلة، لم يخجل من هذا السلام ولم يتورى وراء سفراء ووزراء لم يكن يصرح بعكس ما وقع عليه في اتفاقية السلام، ذهب إلى الكنيسيت الإسرائيلي وألقى خطاب تاريخي من يقرأه يعلم أن هذا الرجل استثنائي لم ولن يأتي رجل مثله في مطقتنا العربية، رجل يسمي الأشياء باسمها لا يخجل من توجهاته.
هل يجرأ أحد اليوم على الذهاب إلى إسرائيل رغم كل الاتفاقيات ويلقي خطاب في الكنيسيت الإسرائيلي؟ بل هل يجرأ أحد ان تتوجه طائرته اليوم ويتحدى قوى الظلام قوى الحرب والجوع والحروب الدائمة على الذهاب ومد يد السلام؟ لا وألف لا، ببساطة ما تمتع به السادات هو شيء استثنائي لم أر في حياتي زعيم عربي مثله في الوطن العربي قائد دولة كبرى ووزنها الثقيل الذي أغرق معظمهم، لأن المسؤولية كبرى، وأكبر مثال أن جميع الدول العربية اليوم تخاف أن تقول “حماس الإرهابية” والجميع يسميها فصائل، لو كان السادات موجود لكان ضحك وسخر على هذا الوضع العربي المتخاذل والخجول والضعيف لأنه كان لا يخاف اعظم الدول كيف سيخاف من فصائل إرهابية لكان ظهر في خطاب في مجلس الشعب وسخر من حال الأمة العربية الخائفة والتي على مدار كل العصور لا تعرف كيف تواجه المخاطر بل دائما تهرب إلى الأمام وبحلول آنيه مرحلية لا تحل أي قضية ولا تحقن الدماء في أي مكان بل دائما ما تزيد الطين بلة.
المنظر المهيب الذي شاهدته والحشود والقيادات التي كانت تتنظر رجل السلام هو منظر لم أشاهده في الوقت الحقيقي لأني لم أكن موجودة، ولكن رهبة الحدث تاريخياً لازالت عالقة في وجدان وذكريات والدي الذي عاشها لحظه بلحظة، وعندما رأيت مدى تأثره مرة اخرى كما لو كان يشاهد المنظر لأول مرة وتأثره باللحظة والمشهد رغم معرفتي بوالدي الذي لا يتأثر بسهولة إلا أن مشهد تأثره وهو يشاهد السادات علمت أن هذا الزعيم زعيم السلام محمد أنور السادات رجل لن يتكرر في العالم العربي وسوف نحتاج معجزة لكي نشهد قائد مثله.
وهذا هو جزء من الخطاب التاريخي للسادات في الكنيسيت الإسرائيلي:
“أيها السيدات والسادة
إنَّ في حياة الأمم والشعوب لحظات، يتعين فيها على هؤلاء الذين يتّصفون بالحكمة والرؤية الثاقبة، أن ينظروا إلى ما وراء الماضي، بتعقيداته ورواسبه، من أجل انطلاقة جسور نحو آفاق جديدة.
وهؤلاء الذين يتحملون، مثلنا، تلك المسؤولية الملقاة على عاتقنا، هم أول من يجب أن تتوافر لديهم الشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية، التي تتناسب مع جلال الموقف. ويجب أن نرتفع جميعًا فوق جميع صور التعصب، وفوق خداع النفس، وفوق نظريات التفوق البالية. ومن المهم ألاّ ننسى أبدًا أن العصمة لله وحده.
وإذا قلت إنني أريد أن أجنّب كل الشعب العربي ويلات حروب جديدة مفجعة. فإنني أعلن أمامكم، بكل الصدق، أنني أحمل نفس المشاعر، وأحمل نفس المسؤولية، لكل إنسان في العالم، وبالتأكيد نحو الشعب الإسرائيلي.
ضحية الحرب: الإنسان. إنّ الروح، التي تزهق في الحرب، هي روح إنسان، سواء كان عربيًا أو إسرائيليًا. إنَّ الزوجة التي تترمل، هي إنسانة، من حقّها أن تعيش في أسرة سعيدة، سواء كانت عربية أو إسرائيلية.
إنَّ الأطفال الأبرياء، الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم، هم أطفالنا جميعًا، على أرض العرب، أو في إسرائيل، لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ، والغد الجميل.”
“ولكنني أصارحكم القول بكل الصدق، أنني اتخذت هذا القرار بعد تفكير طويل، وأنا أعلم أنه مخاطرة كبيرة، لأنه إذا كان الله قد كتب لي قدري أن أتولى المسؤولية عن شعب مصر، وأن أشارك في مسؤولية المصير، بالنسبة إلى الشعب العربي وشعب فلسطين، فإنَّ أول واجبات هذه المسؤولية، أن استنفد كل السبُل، لكي أجنّب شعبي المصري العربي، وكل الشعب العربي، ويلات حروب أخرى، محطمة، مدمرة، لا يعلم مداها إلاَّ الله.
وقد اقتنعت بعد تفكير طويل، أن أمانة المسؤولية أمام الله، وأمام الشعب، تفرض عليَّ أن أذهب إلى آخِر مكان في العالم، بل أن أحضر إلى بيت المقدس، لأخاطب أعضاء الكنيست، ممثلي شعب إسرائيل، بكل الحقائق التي تعتمل في نفسي، وأترككم، بعد ذلك، لكي تقرروا لأنفسكم. وليفعل الله بنا، بعد ذلك، ما يشاء” محمد أنور السادات في الكينيست الإسرائيلي