المناهج الفلسطينية: شأن وطني وسيادي بامتياز، بقلم : ثروت زيد كيلاني
يتطور المنهج خلال مرحلة إعادة التنظيم والبناء من خلال التأمل في ذاته، والبحث المستمر عن الروابط والعلاقات بين الأفكار والمعاني وَفق السياق التاريخي والثقافي، من خلال التحويلات البديلة والتأويلات، مع تسليط الضوء على خصوصية الحالة في ظل التغيرات السريعة تكنولوجيًا ومعرفيًا وفكريًا، ومواءمة الطرق التجريبية والعقلانية، ومع ذلك، فإن النظام الخطي الذي له بدايات محددة ويؤدي إلى نتائج متوقعة، يواجه تحديات كبيرة نتيجة للتغيرات الحياتية الهائلة والمتعددة ويفتح المجال أمام شبكات وأنظمة تحويلية تتضمن عمليات مستمرة لمعالجة المستجدات غير المستقرة، وتبقى على الدوام قراراً وطنياً سيادياً يتم وَفق الرواية والثوابت الفلسطينية.
تتصاعد وتيرة انتهاكات السلطة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) بحق التعليم في فلسطين، مما يقيد قدرة القطاع التعليمي على إعمال الحق في التعليم، وينتهك سيادية الحق في اختيار نوع التعليم الذي يُعطى للطلبة، من خلال حملات التحريض والتزوير على المناهج، إضافة إلى منع وإعاقة وصول الطلبة والكوادر التعليمية إلى مدارسهم، وإلحاق أضرار بالغة بالبيئة التعليمية، بالإضافة إلى الأضرار النفسية الناتجة عن ممارسات الاحتلال، وإبادة التعليم في غزة ووفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، أن غزة أصبحت “مقبرة للأطفال” علماً أن الأطفال يشكلون 47.3% من سكان قطاع غزة ويرتقي شهيداً(يُقتَل) طفل كل 10 دقائق، وتفيد بيانات التربية والتعليم أن هناك أكثر من 620,000 طالب وطالبة فقدوا إمكانية الوصول إلى التعليم، واستشهد حوالي 6800 من الطلبة، وأصيب ما يزيد عن 14200 طالباً بجراح مختلفة عدوان 7 أكتوبر، والذي ما زال مستمراً.
تصاعد التحريض ضد المناهج الفلسطينية بشكل ملحوظ بعد إطلاق المنهاج الوطني الثاني في عام 2016، حيث قادت مجموعات ضغط احتلالية جهودًا منظمة من خلال تقارير ونشرات مسمومة، مدعومة بنشاط إعلامي غير مسبوق في أوساط المشرعين وصانعي القرار في الدول والمنظمات الداعمة لفلسطين، بهدف تشويه التاريخ والثقافة الفلسطينية وشيطنة المناهج، متهمةً إياها بالتحريض على العنف والكراهية، وعدم الالتزام بمبادئ اليونسكو، كما تكثف الضغط السياسي على الفلسطينيين، مع جهود مستمرة لربط التمويل الخارجي للتعليم بتعديل المناهج والكتب الدراسية، حيث أصدرت مؤسسة Impact-se تقارير متعددة لمراقبة هذه المناهج، ويدعي قادة الاحتلال أن التحريض في المناهج هو سبب العمليات النضالية ضدهم، بينما تماهى الغرب، وخاصة في أمريكا وبعض الدول الأوروبية، مع هذه الادعاءات من خلال وثائق تناولت تصورات لما بعد العدوان على فلسطين في غزة والضفة الغربية، بما فيها شرقي القدس.
تمثلت هذه الادعاء بأن التاريخ العربي الفلسطيني والثوابت الوطنية تشجع الكراهية والعنف، واعتبار تجاهل المناهج الفلسطينية لوجود ما يسمى (إسرائيل) رغم أنها ذكرت عند تناول اتفاقية أوسلو بشكل مباشر كسلطة قائمة بالاحتلال، ولم يعرف لها حدود عبر التاريخ، بل هي اختراع من الدول الاستعمارية، والأهم من هذا وذاك فإن البقعة الجغرافية التي سيطرت عليها بالقوة والإبادة، كانت تسمى فلسطين منذ الأزل وستبقى كذلك، كما أن فضح مكونات انتهاكات الاحتلال من مجازر تاريخية واعتقالات وتخريب للبنية التحتية لا يعتبر شيطنة للمناهج الفلسطينية بدعوى اللاسامية، فإن ذلك ينسجم مع مبادئ اليونسكو الخاصة بارتباط المناهج بالسياقات الحياتية للمجتمع الفلسطيني، كما أن تعظيم المناهج للقادة والشهداء الذي تركوا بصمة في تاريخ الامة يأتي منسجماً مع الاتجاهات الفلسفية والنظرية العالمية في إعداد المناهج ولا يًعد تحريضاً على القتل أو الكراهية, بل إن تكريم الشهداء حقاً لكل أمة.
وفي هذا السياق فقد جاء في وعد بلفور نصوص صريحة (الصهيونية، واليهودية الصهيونية) فكيف يكون ذلك معاد للسامية؟ وهو وثيقة اعتمدتها الحركة الصهيونية في إعلان كيانها المغتصب لفلسطين أرضاً وشعباً وحقوقاً، أما الاستشهاد بآيات وأحاديث من صميم دين الدولة (الإسلام) كجزء أصيل من المنهاج، وتُعزز قيم السلام والتسامح وفق القانون الأساسي الفلسطيني فهو حق نصت علية الصكوك العالمية بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي والعهد الدولية، ونفس الادعاء عند ذكر القدس كعاصمة لفلسطين ومكانتها الدينية.
ونظراً لضغوطات الاحتلال فقد كلّف الاتحاد الأوروبي معهد جورج إيكرت الألماني للأبحاث بإجراء دراسة للمناهج الفلسطينية رافضاً إجراء دراسة مقارنة مع المناهج الإسرائيلية، وقد أبرز التقرير حقيقة تضمين الكتب المدرسية الفلسطينية لمبادئ حقوق الإنسان جميعها وقيم المواطنة الكونية، وشمولية الكتب المدرسية للقيم الإنسانية وَفقاً للمعايير الدولية، وأشاد بإجراءات وزارة التربية والتعليم في مراجعة الكتب المدرسية ونجاحها في تسليط الضوء على قضايا عالمية تشكّل خطورة على البشرية، وأقرّ بأنّ كتب الدراسات الاجتماعية الفلسطينية تخلو من التحريض، إلا انه تماهى مع ادعاءات لاحتلال بعدم إشارة الكتب المدرسية لوجود (إسرائيل) في الخرائط التاريخية والجغرافية، وخصوصاً في مضامين التعايش والتسامح، وعدَّ التقرير أنّ استخدام مصطلح (الاحتلال الصهيوني) هو محاولة للطعن في وجود (إسرائيل)، وأنّ استخدام مصطلحات (كالجهاد، والشهادة) تُعَدّ مشحونة سياسياً، وادعى الخلط بين الشعب الإسرائيلي والشعب اليهودي.
تتعمق الإثنوقراطية وأشكال التديّن في الكتب المدرسية الإسرائيلية؛ تُسخر الماضي لمنفعة السياسة التوسعية التي تطبقها (إسرائيل المخترعة)، حيث تركز المناهج الإسرائيلية العبرية للمراحل الدراسية جميعها على التنشئة التربوية الاسبارطية (التربية العسكرية) وإعداد الطفل ليصبح مقاتلاً دموياً بلا قيم إنسانية، ويُعتبر (التناخ والتلمود) المصدرين الأساسيين لروح التربية على العنصرية والدموية، مما يعمق تطرف الطلبة اليهود للخرافة الوجودية، وافتراضات القيمة المتمثلة بالأغلبية اليهودية والسيطرة على الأرض الفلسطينية، ووصف المواطنين الفلسطينيين بالمتطفلين والبدائيين الجديرين بالازدراء، وتأكيدهم مقولة أن “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والتنكر للكينونة الإنسانية العربية والفلسطينية بمضامينها وتجذرها العميق، إضافة إلى ما تشكله انتهاكات الاحتلال على مدى عقود منهجًا قائمًا بذاته، تجسد مضامينه وتطبيقه ثقافة العنف والقهر والتطهير العرقي والإبادة والعنصرية، كل ذلك يرسم صورة الآخر (الإسرائيلي) لدى الطلبة الفلسطينيين، ويطفئ جذوة الأمل في نفوسهم، ويؤدي إلى تشوهات وندب نفسية وروحية لديهم.
تسعى خطة الاحتلال لأسرلة القطاعات المدنية في القدس، بما في ذلك التعليم، إلى تقليص أعداد الطلبة في المدارس الوطنية عبر فتح مدارس جديدة تقدم المنهاج (الإسرائيلي)، بينما تغلق المدارس الخاصة الأهلية والتي يعود تاريخ تأسيسها إلى قبل اختراع كيان الاحتلال، يترافق ذلك مع تزوير المناهج الفلسطينية، مما يدل على محاربة الهوية والتاريخ وكي الوعي الفلسطيني عند الناشئة، كما يستخدم الاحتلال الضغوط المالية والتراخيص، لاستبدال المناهج الفلسطينية بالمناهج المزورة أو الإسرائيلية وفرض نظام البجروت بدلا من نظام الثانوية العامة، كل ذلك يمثل انتهاكًا لحق الطلبة في الوصول إلى تعليم نوعي، حيث أصدرت سلطات الاحتلال نحو 2200 قرار بالحبس المنزلي بين عامي 2018 و2022 بحق أطفال قُصّر، منهم 114 طفلًا تقل أعمارهم عن 12 عامًا، وتحويل 70% منهم إلى الحبس المنزلي قبل البت في قضاياهم.
تعتبر المناهج الفلسطينية شأناً وطنياً، حيث تُستخدم ادعاءات الاحتلال كجزء من حملته ضد التعليم، وترويج لخرافاته العنصرية في المناهج العبرية، ما يستوجب تشكيل مجموعات ضغط من مؤسسات أكاديمية وحقوقية وأفراد فلسطينيين وعرب وأصدقاء دوليين للتأثير على المجتمع الدولي وفضح انتهاكات الاحتلال بحق التعليم والتحريض على المناهج، واستكمال إنشاء المركز الوطني للمناهج ومركز القياس والتقويم والتوجه نحو تمويل وطني للتعليم كاستحقاق وطني سيادي، وإعادة هندسة النظام التعليمي ليكون أكثر فاعلية ومرونة وكفاءة واستقرارًا، تحسين جودة التعليم وضمان استمراريته، وقدرته على المنافسة وخاصة في القدس، والعمل على تطوير المناهج القائمة على اتجاهات فلسفية ونظرية قائمة على الحقوق والحريات الأساسية، وَفق منحى المنهج المفتوح والعملياتي والمتواتر، وتركز على المتعلم، وتستند إلى مرجعيات وطنية ودولية؛ وثيقة إعلان الاستقلال، والقانون الأساسي الفلسطيني، وقوة القانون الدولي، مع التأكيد أنّ التماهي مع الضغوط الخارجية سيفتح شهيّة مجموعات الضغط لممارسة المزيد.