شعب غزّة أُضحية العالم في العيد، بقلم : سماح خليفة
إنّ إصرار شعب غزة الصامد على ممارسة شعائر الحج في مشهد يُظهر رجال ونساء وأطفال غزة بزي الإحرام، يطوفون حول مجسم صغير للكعبة على أرض غزة، بعد أن منعتهم السلطات الإسرائيلية من مغادرة غزة لتأدية تلك الفريضة، وما تبع ذلك من مشاهد ممارسة طقوس العيد بصناعة كعك العيد من وسط الركام، يحمل دلالة كبيرة على إرادة هذا الشعب العظيم الذي لا يمكن أن يهزم.
تدرك إسرائيل مدى أهمية تأدية الحج بالنسبة للمسلمين، وكذلك طقوس ذبح الأضحية التي يقومون بها، والتي هي سنة من إبراهيم عليه السلام إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، لكنها تضيّق على الفلسطينيين بكل السبل اللاإنسانية، فالذبح ليس فقط في عقيدة المسلمين إنما كذلك في الاعتقاد اليهودي، كيف لا وشعيرة الذبح مستلهمة من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام التي وردت في القرآن الكريم، عندما قرر ذبح ابنه امتثالًا لأمر الله الذي افتداه بأضحية “وفديناه بذبح عظيم”، فأداء تلك الشعيرة تذكر المسلم بصبر سيدنا إبراهيم وابنه على هذا الامتحان الإلهي الكبير، فيفتدي الآباء أبناءهم بذبيحة عظيمة، ويتمثّل الجميع الحِكَم الممكن استقاؤها من القصة.
هناك بعض الخلاف في الآراء حول الابن الذي أراد إبراهيم ذبحه، أهو إسماعيل، ابن هاجر المصرية، جد العرب، أم اسحق ابن سارة جد بني إسرائيل، وفق المرويات اليهودية التي تقول إن الطفل هو اسحق ابن سارة، فلا خلاف في التوراة والإنجيل والعهد القديم على أنه إسحاق.
قضية الذبح تلك يترجمها الجيش الإسرائيلي الآن بشكل آخر تمامًا في غزة، بذبح الغزيين وإبادتهم، حيث يتعرّض الفلسطينيون في أيام عيد الأضحى المبارك إلى أفظع جرائم الإبادة الجماعية، لترتفع حصيلة العدوان الصهيوني على غزة لليوم 255 من الحرب، اليوم الثاني للعيد إلى 37347 شهيدا، هذه الإبادة المبرمجة التي دمّرت أكثر من نصف البنية التحتية لقطاع غزة، وحوّلت سكانه، الذين كانوا في أكبر سجن في العالم لعشرات السنوات، إلى هدف للذكاء الاصطناعي والقنابل الذكية “الغبية” التي لم تفرق بين مقاتل ومدني مسالم، وتجعل كل نقطة في غزة من طفل وامرأة وشيخ وكل كائن حي وغير حي هدفًا للقتل بصورة وحشية.
برغم شمولية المعتقد الإسلامي في تبجيل النبي إبراهيم وأبنائه، الذي يشمل اليهودية والمسيحية باعتبارهما من أهل الكتاب، ويمكن أن يفسّر، بعد الحدث الإسلامي المؤسس، ما آل إليه حال يهود المنطقة العربية، فقد صاروا جزءا من النسيج الاجتماعي والديني والاقتصادي الناشئ، وانخرطوا في الحضارة العربية الإسلامية، وكانوا يعملون بالوظائف العامة في الدولة والتجارة والطب، كما ارتبطت مصائرهم بمصائر الأغلبية المسلمة، فاضطهدوا بشدة مثل المسلمين حين جاء الصليبيون، وطردوا من اسبانيا بعد هزيمة المسلمين، فعاد كثير منهم إلى المنطقة العربية وتحولت مناطق الإمبراطورية العثمانية إلى ملاذ لهم، في الوقت الذي كان نظراؤهم اليهود الأوروبيون يتعرضون للذبح والنفي والتدمير وصولا إلى حقبة المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن المعاناة المشتركة التي واجهها الطرفان بعد هزيمة المسلمين وطردهم من اسبانيا لم تُؤصل لشيء فاعل في الفكر اليهودي، إنما ظلت المحرقة النازية الدّرع الذي يتنقلون به ويحتمون خلفه كمبرر لكل ممارساتهم الشيطانية التي انصبت على رأس الفلسطينيين في الشرق الأوسط.
تحول الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف إلى أضحية كبرى للنظام العالمي الذي نشأ بعد نكبة 1948م، الذي هدف إلى حل المسألة اليهودية، والتكفير عمّا حلّ باليهود على حساب شعب لا علاقة له بالمسألة، وذلك بإرسال اليهود إلى فلسطين المحتلة من قبل البريطانيين، بعد إعلان دولتهم، وتلك الأضحية التي ذبحت منذ عام 1948م ما زال دمها ينزف حتى اليوم، وما ذلك إلا لأهداف سياسية بزرع جسم خبيث في المنطقة يمنع التئام جسده مما ألمّ به من جروح سابقة، في حين يدرك ذلك النظام أنه على المحك، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك إمكانية حدوث حرب أهلية، بعد أن شكلت الأمم المتحدة منظومة المنتصر في الحرب العالمية، هي الآن تتعرض لهجوم إسرائيل من طرف، وانتقاد الكونجرس الأمريكي، مع اضطرار كبار المسؤولين الأمميين لتكرار إداناتهم لإسرائيل، واتخاذ محكمتي العدل والجنائية الدوليتين إجراءات شديدة الوطأة على قادة الدولة اليهودية، لتظل القضية الفلسطينية برغم كل محاولات طمسها على مدار السنوات السابقة محور اهتمام العالم، وبرغم الشعارات التي تتخفى بها إسرائيل؛ لتمارس كما اعتادت دور الضحية، للدفاع عن نفسها، ورفض معاداة السامية، فتحوّل الشعب الفلسطيني وخاصة في غزة إلى أضحية كبيرة تساق إلى قربان العنصرية يوما بعد يوم.