“الشهيد الحي باسل أبو الوفا” بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في صباحٍ مشرق على أرض مدينة جنين الطاهرة، حيث تتنفس الحياة عبيرَ الأمل وتزهر الأمنيات في قلوب الأطفال، سقطت ظلال الحزن على هذه الأرض حين اقتحمتها قوات الاحتلال الغاشمة، حاملة معها رياح الخراب والدمار. في هذا الصباح، استشهد الشهيد الحي باسل أبو الوفا، الطالب في الصف العاشر، الذي كان يقف أمام بيته، يلعب مع أصدقائه ببراءة الطفولة وأحلام الشباب.
كانت الحياة تزهر في قلب باسل كزهرة في فصل الربيع، لكن فجأة، انقضت عليه رصاصات غادرة، اخترقت جسده الطاهر، وحولت لعبه إلى مشهدٍ مروّعٍ من الألم والمعاناة. قاوم باسل ليبقى على قيد الحياة، كجنديٍّ يحارب في ساحة المعركة، ولكنَّ روحه النقية صعدت إلى خالقها، تاركةً وراءها جرحاً لا يندمل في قلوب أحبائه.
كان والده، الطبيب الذي اعتاد أن يعالج الجروح ويعيد الأمل إلى المرضى، وقف عاجزاً أمام جثة ابنه الشهيد بين يديه، حيث تلاشى كل شيءٍ سوى الصدمة والألم. أما أمه، التي فقدت فلذة كبدها وابنها البكر، فقد كانت تخط له أحلاماً كبيرةً، ترى فيه المستقبل الذي ينبض بالأمل والنجاح. تلك الأحلام تبعثرت كأوراق الشجر في مهب الريح، وامتلأت عيونها بالدموع التي لا تجف.
عرفتُ باسل عندما كنتُ معلمته للغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية. كان متميزاً جداً، ذا شخصيةٍ قياديةٍ تُلهم زملاءه، ودائماً يحصل على علاماتٍ كاملةٍ، كأنه نجمةٌ في سماء العلم، لا تخبو أبداً. كان محبوباً من كل زملائه، لديه الكثير من الأصدقاء الذين كانوا يرونه مثالاً يُحتذى به. تميز باسل في اللغة الإنجليزية، كأنها كانت لغته الأم، وكنت أرى فيه مستقبلاً مشرقاً، يفتح أبواب العالم أمامه.
كان باسل ملتزماً بصلاته، يحرص دائماً على أداء فروضه، كأن الصلاة كانت له جناحين يحلق بهما نحو السماء. كان في صلاته يتحدث مع الله، يشكو له همومه، ويبث له أحلامه، وكأنه كان يهيئ نفسه للقاء الأبدية.
رحمك الله يا باسل، وألهم أهلك الصبر على فراقك. لقد رحلتَ مبكراً، كالنجمة التي سقطت قبل أن تمتلأ ضوءا، ولكنك ستظلُ في قلوبنا، تضيء لنا الطريق بالأمل والصمود. لن ننسى ابتسامتك، ولن ننسى ضحكاتك وأحلامك التي كانت تعلو بها، لأنك ستظل خالداً في ذاكرتنا خلود التاريخ التليد.
يا باسل، رحلتَ عن هذه الدنيا، ولكن ذكراك ستظلُ خالدةً، كنبضٍ حيٍّ في قلوبنا، يذكرنا دوماً بمعنى الحرية والتضحية. ستبقى في ذاكرتنا، تُحيي فينا الأمل والقوة، وتجعلنا نؤمن بأن الحق لا يموت، وأن أرواح الشهداء تظل ترفرف كأجنحة الفراشات، تملأ الدنيا بعبير الحرية والنضال.