ساد هدوء كبير في العلاقة بين القيادة السياسية فى مصر ( جمال عبد الناصر ) وقيادة الكنيسة المصرية ( البابا كيرلس السادس ) طيلت فترة باباوية البطريرك رقم 116 ( كيرلس السادس ) من مايو 1959 إلى رحيل جمال عبد الناصر فى سبتمبر 1970 . وبعد أقل من نصف سنة من رحيل جمال عبد النصر ، رحل أيضاً البابا كيرلس السادس ( يوم 9 مارس 1971 ). ويرجع هذا الهدوء في المقام الأول لعقلية جمال عبد النصر التي كانت لا تسمح بإختلاط الشأن الديني بالشأن السياسي . وقبل نهاية السنة التالية لموت جمال عبد الناصر ( أي في 1971 ) كان الوضع فى مصر جد مختلف . فقد جاء لحكم مصر رئيس إرتكب من اليوم الأول خطيئة اللعب السياسي بالدين . فقد أطلق أنور السادات على نفسه تسمية ” الرئيس المؤمن ” كما أطلق على مصر تسمية ” دولة العلم والإيمان “. وهي الخطيئة التي ستكلف مصر وتكلفه هو شخصيا) بعد ذلك الكثير ( ومن بين هذه التكلفة مصرعه هو برصاص جماعة من الإسلاميين). في هذا الجو والمناخ العام المختلف تماماً عن سنوات حبرية البابا كيرلس السادس جاء للموقع الأول في الكنيسة المصرية أكثر رجال الدين المسيحي في جميع الكنائس الشرقية ثقافة وإهتماما بالشأن العام ، ناهيك عن حيوته الإستثنائية. فالبابا الجديد ( شنودة الثالث ) كان قبل انخراطه في سلك الرهبان ( 18 يوليه 1954 ) خريج كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول وصحفياً وشاعراً ومدرساً وسياسياً من الشباب المقربين للزعيم التاريخي مكرم عبيد زعيم الكتلة الوفدية وقتئذ . وهكذا وضعت الأقدار البابا الجديد في مواجهه حتمية مع قيادة سياسية إختارت ان تلعب بالدين لعبة سياسية شديدة الخطورة . في ظل هذا المناخ العام بدأت ثم تصاعدت أحداث الفتنة الطائفية طيلة سنوات حكم أنور السادات . وخلال هذه الفترة قام إسلاميون بخطف وإعدام وزير الأوقاف الشيخ الذهبي كما قاموا بعد ذلك بإغتيال رئيس الدولة نفسه ( يوم 6 أكتوبر 1981 ). ولا شك عندي ان السادات هنا كان يتماهي مع السياسة الأمريكية التي كانت تعتقد ان كون الإسلاميين أعداء طبيعيين للتوجهات الماركسية واليسارية ، تجعلهم بالضرورة شركاء لاعداء الإشتراكية (وفى مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية). وهذه النظرية الحمقاء ( نظرية عدو عدوي بالضرورة حليفي ) هي التي كانت خلفية الكثير من الأحلاف السياسية الكبرى في عدة مناطق من العالم كانت مصر من بينها . ولا شك عندي ان البابا الجديد ( شنودة الثالث ) لم تكن أمامه مسارات غير المسار الذي إختاره في مواجهة ” الرئيس المؤمن ” وتيار الإسلام السياسي الذي شاع وذاع في مصر مع توجهات خليفة جمال عبد الناصر . وطيلة العقود الأربعة التي كان البابا شنودة الثالث . خلالها على رأس الكنيسة المصرية فقد كان همه الأول الدفاع عن الخصوصيات الثقافية للمصرين الأقباط في مواجهة ريح عاتيه تحاول ان تفرض لونا واحدا من ألوان الطيف الثقافي على مصر ومجتمعها وأبنائها وبناتها. وقد أتاحت لي صداقة شخصية عارمة بالبابا شنودة الثالث استمرت طيلة السنوات الثلاثين الماضية ان ألمس بنفسي ان هذا التحدي كان هو همه الأكبر الذي سار بمحاذة هم أخر شغله منذ ان كان أسقفا للتعليم ( منذ 1962 ) ، وأعني رفع المستوى التعليمي والثقافي والمعرفي لمعظم رجال الكنيسة المصرية من رهبان وكهنة . فبعد ان كان عدد كبير من الرهبان من غير المتعلمين ، فقد توفى البابا شنودة الثالث تاركاً الكنيسة المصرية في يد ألاف الرهبان والكهنة من خير أبناء مصر المتعلمين والحاصلين ( معظمهم ) على درجات علمية عالية في معظم التخصصات العلمية.
وقد أتاحت لي الظروف قضاء مئات الساعات مع البابا شنودة الثالث وأن أتعرف عن قرب على تكوينه المعرفي الثري وعلى رؤيته الإستراتيجية للعديد من الأمور ، ناهيك عن إبداعاته الأدبية الشعرية التي قل نظيرها في واقعنا الثقافي المعاصرالذى يتسم اليوم بالسطحية والتهافت وقد لعب هذا التكوين المعرفي الثري دوراً كبيراً في المجالاين الأكثر أهمية طيلة حبرية البابا شنودة الثالث وأعني المحافظين على الخصوصية الثقافية لأقباط مصر والإرتقاء برهبان وكهنة الكنيسة المصرية .
ولولا التكوين المعرفي الثري للبابا الراحل شنودة الثالث ، ولولا معرفته الدقيقة والعميقة بعواقب حدوث صدام بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية ، لصارت مصر نحو انفجارات مجتمعية لا تبقى ولا تذر، , وأفدح بكثير من كل الأحداث المؤسفة التى حدثت خلال فترة حبريته والتى تكرر فيها العدوان من طرف لا يتغير بذات الطرف المعتدي عليه فى كل مرة.
أردت بهذه الكلمة العجلي ان ألقي الضوء على اثنين من أكبر التحديات التي تعامل معها البطريرك العظيم البابا شنودة الثالث (الأشد والأكثر تميزاً بين بطاركة الكنيسة المصرية) خلال أربعة عقود كاملة ( 1971- 2012 ) . أما الذكريات العديدة لعشرات اللقاءات والحوارات حول الكثير من المواضيع السياسية والثقافية والأدبية ( وبالذات الشعرية ) فستكون موضوع العديد من كتاباتي المستقبلية عن البابا شنودة الثالث صاحب واحد من أعلى القامات المصرية في تاريخ مصر الحديث … هذا العملاق الذى إنتمي لمادة خام من مواد العبقرية كانت متوفرة فى مصر إبان حقبة تألقها الثقافي ، ولكنها اليوم شديدة الندرة.