قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا.. بقلم د. تهاني بشارات
ما كلَّت عزيمتُه، ولا ملَّتْ أناملُه من تصحيح الأوراق، ذاك الذي قضى ساعات نهاره وليله يقلب صفحات الامتحانات، وقد أرهقت عينيه صفحاتها البيضاء الناصعة، التي تراصَّت فيها أسرابٌ من الأحرف السوداء. يجول بقلمِهِ يخطُّ صحًّا أحمرَ هنا وخطأً أحمرَ هناك، كمن يزرع أملًا وسط صحارٍ قاحلة، يجمع الدرجات في سجل العلامات، تارة بإصبعه وتارةً أخرى بالآلة الحاسبة، فينام المعلم “علام جرادات” ليلته وقد أدى واجبه بكل إخلاص وتفانٍ.
يأتي الصباح فيستيقظ بكلِّ نشاط، مرتديًا نظارتَهُ الطبية، حاملًا دفتره الأبيض صوبَ مدرستِه، كالأسد الذي يخرج من عرينه ليؤدي مهمته بكل شجاعة. ترى في عينيه بريق الأمل وروح المثابرة، وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة الرضا. لكن، في لحظة غادرة، رصاصة خبيثة تعترض طريقه، تعيق وصول المعلم إلى حيث وجب عليه تبليغ الرسالة، وردُّ الأمانات إلى أصحابها. سجلُّ علاماتِهِ الأبيضِ الذي تعبَّقَ بدمِهِ الأحمرِ القاني، فلا المعلم وصل، ولا سجلُّ العلامات عاد أبيضَ كما أخذ.
ذلك الذي حاول جاهدًا رفع درجات طلابه حتى لا يكسر خاطر أحدهم، تُجهَّزُ له الآن الدرجات العلا في جنان النعيم، شهيدًا مكرمًا مع الأنبياء والصديقين. المعلم، كالأب الحنون الذي يسهر على راحة أبنائه، يضحي براحته وصحته ليضمن لهم مستقبلًا مشرقًا. ترى في عينيه بريق الأمل والتحدي، وفي قلبه إصرارًا لا ينضب. كم من مرة تحمل عبء الأيام والليالي، متحديًا كل الصعوبات والعقبات، ليكون شمعة تضيء طريق العلم والمعرفة في ظلمات الجهل.
في فلسطين، حيث تتقاطع الأحلام مع الآلام، تجد المعلم يواجه كل يوم تحدياتٍ لا حصر لها، يواصل مشواره رغم كل العوائق، يحمل في قلبه حب الوطن ورغبة صادقة في بناء مستقبل أفضل لأجياله. ورغم كل شيء، يبقى الأمل في عينيه كالنجمة اللامعة في سماء مظلمة، لا تنطفئ مهما تكاثرت السحب.
فقط في فلسطين، يستشهد الطبيب وهو يعالج الجرحى، والمعلم وهو ينير دروب العلم، والطالب وهو يحلم بغدٍ أفضل. تلك هي الأرض التي تُروى بدماء شهدائها، وتُزهر بأمل شعبها وصمودهم، فسلامًا على كل من ضحى ويضحي في سبيل الحرية والكرامة.
هنا فلسطين
هنا جنين