الزمن الإعلامي الجديد ، بقلم : نداء يونس
ستتحول مصطلحات مثل “توحيد الخطاب الإعلامي” و”نبذ العنف وخطاب الكراهية” من سياسة دخيلة ومخفية وتمثل خلفية لأجندات تمويلية إلى نهج معلن لإدارة الواقع السياسي والثقافي والإعلامي في دول تعرضت لنكبات الرأسمالية والاستعمار وعمل “الشركة الكبرى” التي لم تعد تقوم على احتلال واستعباد وسرقة ثروات الآخرين بوجودهم على أرضهم، بل على تهجير وإعادة موضعة الجماعات البشرية في أماكن جغرافية جديدة وسرقة مواردهم، كما يحدث الآن في غزة أو كما حدث في كشمير وأماكن أخرى.
وبينما تبدو هذه المصطلحات بريئة وعصرية ومرتبطة ببنية إنسانوية كبرى، وشكلا ديموقراطيا عقلانيا متحضرا للحوار – الذي تتناسي هذه الطروحات انه حوار بين القوي والضعيف وبين المستعمر والمستعمر، فإنها تحمل في داخلها شكلا مرعبا من أشكال السيطرة على الخطاب، وتحديد أشكال الذاكرة والمسموح به وما يمكن قوله.
يؤدي هذا إلى حجب المعاناة والواقع الحقيقي والحقوق بمنظار أصحابها، وإلى تقسيم الأدوار في عمليات الإنتاج والتلقي وبما يحول أصحاب القضايا من خلال عمليات استبدال للموضوعات والأولويات إلى شركاء في إدارة الرغبات الاستعمارية والرأسمالية لا في إثارة ما يهمهم.
ولضمان خطاب موحد، سيتم توجيه الدعم والإنفاق سواء الحكومي أو الخاص إلى ما يمكن تسميته بـ”تجسيد الشخصية” الإعلامية و القانونية، وبحيث يتحول التنوع الهائل في وسائل الإعلام إلى شكل استعراضي لديموقراطية لا تتحقق، إذ ستكشف متابعة أخبار هذه المؤسسات عن ترويجها لخطاب واحد وموحد بصياغات مختلفة أو ربما بذات الصياغة – أي كما يصدر عن الجهات السيادية، كما سيتميز بغياب الاستقصاء والمساءلة وإثارة القضايا الإشكالية ومتابعتها، وسيتميز كذلك “بـ “الشخصنة” وظهور “الإعلام الشخصي” و”الحزب الشخصي”، وسيادة الصورة و”إلغاء الوسائط” و”طغيان التلفزيون” و”ظهور الشخصيات التعبيرية” و”ازدهار الصحافة التعبيرية على حساب الصحافة الإخبارية” ما سيؤدي إلى “تشويه المعرفة” و”الاضطراب المعلوماتي والتضليل”، و”إعادة تنظيم مشهديٍّ للحياة السياسية” وبما يضمن ظهور “زمن سياسي جديد” – كما يقول د. الصادق الحمامي في كتابه “ديموقراطية مشهدية”. إضافة إلى ذلك، ستتحول القوانين من شكل تنظيمي إلى منظومة عقابية واقصائية وتأديبية تحت مسمى حفظ الحقوق والخصوصية، وهي قيم كبرى لا يمكن الجدال بشأنها.
وعليه، سيتم الترويج لهذا المنتج من خلال التركيز على أهمية هذه المصطلحات ودورها في توحيد الجهود وخلق الشعور بالانتماء وتجاوز الفروقات والخلافات الحزبية والمذهبية والسياسية، ونشر ثقافة السلام والتسامح، ودعم الاستقرار والتنمية، وخلق بيئات للإبداع والتميز. بالمقابل، سيتم الاشتغال على خلق أرضيات تنظيمية قانونية وصولا إلى مواثيق الشرف الإعلامي، والترويج لها باعتبارها معايير أخلاقية ضابطة. وسيتم ربط هذا الاشتغالات ببنى غير حقيقية مثل الحياد والموضوعية وعدم الانحياز والسعي إلى محاربة التضليل والمعلومات الكاذبة، وحماية الحقوق من التشهير والقذف، والتي ستثبت كل يوم فشلها أمام تغوِّل الشعبوية والتضليل والتزييف.
وبينما سيتم الإعلان عن كون ذلك كله مسؤولية جماعية يشترك فيها الإعلام والمواطن إضافة إلى المؤسسات، سيتم حصر دور الجمهور في التلقي من خلال دفعه ليس فقط إلى متابعة ومشاركة وسائل إعلام تقدم ما سيتم تصنيفه على أنه محتوى إيجابي، ودعم مؤسسات ومنظمات تعمل بهذا الاتجاه – أو إجباره على ذلك من خلال عمليات الحجب وتقليل الوصولية لمواقع بعينها والذي يعني تعقيم عمليات التلقي، بل وتحويله إلى “شريك” في العملية، شريك لا يقوم بإنتاج المعرفة بل ينحصر دوره في الرقابة والإبلاغ عن أي خطاب يتم تصنيفه على انه خطاب تحريضي عنفي. وبهذا الاتجاه، ستتم صياغة الرسائل الإشهارية تحت عناوين: مسؤولية جماعية، نموذج يحتذى، وأن البلد تستحق الأفضل.
لا يعني هذا فقط تحويل المشهد العام في الدول المستهدفة إلى مشهدية – ترتدي ثياب الديموقراطية، وإدارة الوعي والتلقي بشكل مدروس وتحكميّ، بل ويعني ايضا، اعادة تعيين دلالات الأشياء ومدلولاتها، فما كان بالأمس مقاومة، سيتحول اليوم إلى تحريض أو عنف ايديولوجي او خطاب كراهية، وما كان بالأمس خطابا للتحرر سيصبح اليوم خطابا مرفوضا تحت نفس الذريعة، وسيتم اختزال ما شكل حلما وطنيا مثل خريطة فلسطين التاريخية إلى بقعتين جغرافيتين هما الضفة وغزة – وربما احداهما فقط، كما سيختزل دور المؤسسات في شكل خدماتي لا سياسي، والإعلام في شكل ترويجي اعلاني لا اخباري.
ستتم إدارة هذا الكم الهائل من عمليات السيطرة على الخطاب وإنتاجه والتحكم في التلقي من خلال مؤسسة، تشتغل في ماكينتها مؤسسات تقنية، إخبارية، وقانونية، سيتم تجسيدها ودعمها لهذا الغرض.