ما العمل(5) أصغيت ، شاهدت فتعلمت فأيقنت، بقلم : د. غسان عبد الله
منذ عقدين ونيّف ، وأنا أعمل بهدي ” اللهم أعطنا علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا ” . تلقيت دعوة من أحد رؤساء مجالس أولياء الأمور في احدى مدارس القدس الخاصة والعريقة ، للقاء مزيج من الطلبة المراهقين وعينة من أولياء ألامور.
دخلت المدرسة ، أبهرني طاقم المدرسة في التعامل الايجابي مع الطلبة ، اذ معاملة الأب لأبنه / ابنته ، مما أشعرني بالسعادة كون هذا الطاقم أدرك الظروف الخاصة للمراهقين لا سيما في هذه المرحلة الحرجة من العمر ، مرحلة المراهقة وفي مثل هذه الظروف الصعبة .
كعادتي ، أتجنب قدر المستطاع ، البدء في اعطاء محاضرات نظرية أو اسداء النصح والارشاد ،كما لو أن من أمامي ارتكبوا أخطاء ، وما أنا الا بأحد تلامذة لقمان . أعمد دوما الى الأسلوب التشاركي التفاعلي مع الحضور participatory approach فسألتهم : كيف تشعرون هذا الصباح ؟
ذهلت حين كانت الاجابات كالتالي :
⦁ أشعر بالحزن و الخوف ، الخجل مما يدور من حولنا دون تحريك أي ساكن والاكتفاء بالصراخ والعويل .
⦁ أشعر بالغضب ،العصبية والتي ربما ستدفعني الى ارتكاب سلوكيات خطيرة ضارة بالغير كالتنمر على الاّخرين ، أو حتى الاقدام على ايذاء ذاتي
⦁ أشعر بعدم القدرة على التركيز والانتباه وحتى عدم القدرة للاصغاء وفي أحسن الأحوال أنا مستمع فقط
⦁ أشعر بالتوتر والقلق الدائم يرافق ذلك اّلام جسدية ( ألم في المعدة ،صداع ،سرعة في خفقان نبضات القلب ، خاصة حين سمعت أخبارا حزينة جاءت من مختلف أصقاع الكون (قتل ،تشريد ، هدم ، اعتقال ،جرح ،كساد اقتصادي ….
⦁ أشعر بالعزلة الشديدة لدرجة الميل للانطواء ولم تعد لدي الدافعية في التفاعل مع أعز الأصدقاء وحتى أفراد عائلتي، مما يدفعني الى اللجوء دوما لوسائل التواصل الاجتماعي التي باتت بمثابة مصدراادمان عندي
⦁ أشعر بالذنب والارباك كون جميع مستلزمات الحياة عندي متوفرة لديّ و غيري يتعطش لقطرة ماء أو لقمة طعام
ما أن سمعت وتعرفت على هذه المشاعر ، حتى تذكرت ما ما توصلت اليه منذ فترة جائحة كورونا وما تبعها من حروب واقتتال وعنف مسلح ، فكتبت وتحدثت عنها ،ونشرتها عبر وسائل اعلامية مختلفة، ملخص ذلك أننا أمام وباءات سيكولوجية مختلفة ذات ملامح ومصادر وانعكاسات سيكولوجية، عاطفية وسلوكية مختلفة.
أما المصادر المختلفة فتبدأ من البيت ، اذ تناقض الأدوار للوالدين وعدم القدرة ،غالبا ،للتوصل الى قاسم مشترك بخصوص تفسير وعلاج سلوكيات الأبناء غير الطبيعية ، فلكل رؤيته التي قد يتصلب بها ، نظرا للاختلافات الثقافية أوالعقائدية ، أو تجارب سابقة، دون اغفال ردود الفعل أو الحالة الجسديّة، أو المعيشية للوالدين . الأمر الذي يؤدي الى غياب أجواء حوارية تفاعلية داخل الأسرة مما لا يسمح للطفل التعبير عن مشاعره منذ البداية ، وما أن تتفاقم مثل تلك السلوكيات ، يهب كلا الوالدين لممارسة دور المربي القامع أو دور المتصنع بالديمقراطية والصبر ،دون أن يدرك كل منهم أن الطفل لم يعد جاهلا ،فهو يعي تماما كل ما يدور من حوله ومنذ أيامه الأولى وحتى قبل مرحلة الطفولة المبكرة .
يعمد بعض الوالدين الى التغافل/ تجاهل اشارات سلوكية غير طبيعية ، تظهر لدى طفلهم ،باعتبار أنها عابرة أوهي مس من الشيطان ولا داعي الى مراجعة أخصائي نفسي كون ذلك بمثابة وصمة اجتماعية يرى فيها المجتمع عيبا أو ضررا يلحق بالعائلة وسمعتها ، نظرا لغياب الوعي والثقافة اللازمة لدى الوالدين بخصوص كيفية التعامل مع الطفل في مثل هذه الحالة .
يشكل العنف المحلي والأسري احدى أخطر مسببات اضمحلال الاستقرار النفسي للفرد والعائلة ،مما يهدّد بغياب فرص السلم الأهلي .
مصدرا ثانيا لبدء تفشي مثل هذه الوباءات السلوكية ،فيكمن في الاقتتال لأسباب سياسية وما يوصفعادة بالحروب المدمّرة كالتي نشهدها في واقعنا المرير . يجدر ذكره هنا أن الانعكاسات السيكولوجية على المراهق ،غير محصورة، في طرف واحد من أطراف هذه الحروب ، الأمر الذي يذكي شدّة التعصب الفكري والديني والقومي وبالتالي دوام الدوران في حلقات العنف وتنامي مشاعر الكراهية والتحريض والجهل بالاخر( الذي هو مصدر كل اّفة) ،مما لا يفسح المجال أمام رؤية الطرف الّاخر كانسان له الحق في الوجود والحياة ، أي عدم الاعتراف بانسانية الطرف المقابل ,
هكذا تتواصل وتعم مشاعر الحزن ودوام القلق والخوف من الاّتي ومن الاّخر ، مما يقود الى بدء التفكير بالتخلص من الاّخر وحتى ابادته .مثل هذا النمط من البديل المتاح هو نتيجة الجهل المدقع والتحريض المفرط اللذان يتجاوزان كل القيم والأخلاق وحتى ما ورد في الديانات الالهية جمعاء من السعي الى كظم الغيظ والعفو عند المقدرة والابتعاد عن النميمة والاستهزاء والتحريض .
لبدء التحلل والتخفيف من حدة هذه الاضطرابات السلوكية وتعديلها ، لا بد من :
⦁ تبني نهجي البحث والحوار الهادف للخروج من دائرة التقوقع في صومعة الجهل وانكار الاّخر ودوام ترديد : أنا بعرف مع ضرورة الاقرار بوجود جميع الاطراف دون المس بحقوها
⦁ يتأتى ذلك من خلال العودة الفعلية الى تعاليم عقيدتنا الدينية ،دون انكار أو التجني عل ما جاء في العقائد الدينية الأخرى .
⦁ الحرص الكامل على عدم التفريق بين الفكر والممارسة الفعلية والذي يتجلى في سلوكياتنا ونهجنا في الحياة
⦁ ضرورة تنمية وتوسيع مداركنا وثقافتنا حول أهمية ودور الصحة النفسية في تعزيز استقرار الفرد والسلم الأهلي على طريق انجازالتنميةالنشودة وتحقيق الأهداف الوطنية السامية
⦁ ايجاد المزيد من فرص التفاعل الاجتماعي والرياضة الروحية والذهنية والجسدية ، لدى المراهقين وحتى العائلات بأجمعها من أجل تعزيز فرص معرفة الاّخر : مشاعره، مخاوفه وطموحاته وبالتالي معرفة دوافع سلوكه
⦁ هناك ضرورة قصوى لعدم الهروب من الواقع بل مواجهته بكا ما أوتينا من حكمة ودراية ومعرفة وثقافة ، موظفين خبراتنا وتجاربنا وحتى خبرات وتجارب غيرنا النافعة لنا والتي لا تتناقض مع التعاليم السمحة لعقيدتنا وتطلعاتنا ، كل هذا حتى نتفهم من هم من حولنا .